Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 97-98)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } . روى البخاريّ في صحيحه في كتاب التفسير عن أنس قال : " سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في أرض يخترف ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث ، لا يعلمهن إلا نبيّ . فما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام أهل الجنة ؟ وما ينزِع الولد إلى أبيه أو إلى أمه ؟ قال : " أخبرني بهن جبريل آنفا " ، قال : جبريل ؟ قال : " نعم " قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة ، فقرأ هذه الآية : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ } . " أما أول أشراط الساعة ، فنار تَحْشُر الناسَ من المشرق إلى المغرب . وأما أول طعام أهل الجنة ، فزيادة كبد الحوت . وإذا سبق ماءُ الرجل ماء المرأة ، نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت " قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك رسول الله ، يا رسول الله ! إن اليهود قوم بُهُتٌ وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يَبْهَتُوني ، فجاءت اليهودُ ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " أيُّ رجل عبد الله فيكم " ؟ قالوا : خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، قال : " أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام " ؟ فقالوا : أعاذه الله من ذلك ! فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله . فقالوا : شرُّنا وابن شرنا . وانتقصوه . قال : فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله " . وروى الإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال : حضرت عصابة من اليهود رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبيّ . وساق نحواً مما تقدم . وتتمته قالوا : أنت الآن ، فحدثنا من وليّك من الملائكة ، فعندها نجامعك أو نفارقك ، قال : " فإن ولي جبريل ، ولم يبعث الله نبيّاً قط ، إلا وهو وليه " قالوا : فعندها نفارقك . ولو كان وليّك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك . قال : " فما منعكم أن تصدقوه ؟ " قالوا : إنه عدوّنا ، فأنزل الله عز وجل : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } إلى قوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } فعندها باؤوا بغضب على غضب . وفي رواية للإمام أحمد والترمذيّ والنسائيّ في القصة : فأخبرْنا من صاحبك ؟ قال : " جبريل عليه السلام " قالوا : جبريل ! ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب ، عدونا . لو قلت : " ميكائيل " الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان ! فأنزل الله تعالى : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } إلى آخر الآية . ويؤخذ من روايات أخر أن سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب ، في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقد روى ابن جرير عن الشعبيّ قال : نزل عمرُ الرَّوْحاءَ ، فرأى رجالاً يبتدرون أحجاراً يصلّون إليها . فقال : ما هؤلاء ؟ قالوا : يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا . قال : فكره ذلك ، وقال : أيْما ؟ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى ، ثم ارتحل فتركته ، ثم أنشأ يحدثهم ، فقال : كنت أشهدُ اليهود يوم مِدْرَاسِهم فأعجبُ من التوراة كيف تصدّق الفرقان ، ومن الفرقان كيف يصدّق التوراة ! فبينما أنا عندهم ذات يوم ، قالوا : يا ابن الخطاب ! ما من أصحابك أحد أحبّ إلينا منك . قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال : قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان . قال : ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا ابن الخطاب ! ذاك صاحبكم فالحق به . قال : فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه ، وما استودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟ قال : فسكتوا . قال : فقال لهم عالمهم وكبيرهم : إنه قد عَظَّم عليكم فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت . قال : أمَّا إذْ نشدتنا به . فإنا نعلم أنه رسول الله . قال : قلت ويحكم ، إذاً هلكتم . قالوا : إنا لم نهلك . قال : قلت : كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه ؟ قالوا : إن لنا عدواً من الملائكة ، وسِلْماً من الملائكة . وإنه قُرِنَ به عدونا من الملائكة . قال : قلت : ومن عدوكم ؟ ومن سِلْمكم ؟ قالوا عدونا جبريل ، وسِلمنا ميكائيل . قال : قلت : وفيم عاديتم جبريل ؟ وفيم سالمتم ميكائيل ؟ قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار ، والتشديد والعذاب ، ونحو هذا . وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ، ونحو هذا . قال : قلت : وما منزلتهما من ربهما ؟ قالوا : أحدهما عن يمنيه والآخر عن يساره ، قال : قلت : فوالله الذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما لعدوّ لمن عاداهما وسِلم لمن سالمهما ، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدوّ ميكائيل ، وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل . قال : ثم قمت فاتبعت النبيّ صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان . فقال لي : " يا ابن الخطاب ، ألا أقرئك آيات نزلن ؟ " فقرأ عليّ { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } حتى قرأ الآيات . قال : قلت : بأبي وأمي أنت يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، لقد جئتُ وأنا أريد أن أخبرك بالخبر ، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر . ورواه مختصراًَ ابن أبي حاتم أيضاً ، وفيه انقطاع ، فإن الشعبيّ لم يدرك زمان عمر رضي الله عنه . كذا قاله الحافظ ابن كثير ، وساقه أيضاً الواحديّ ، وزاد في آخره : قال عمر : فلقد رأيتني في دين الله أشد من حجر . قال العلامة البقاعيّ : وقد روى هذا الحديث أيضاً إسحاق بن راهويه في مسنده عن الشعبيّ ، عن عمر رضي الله عنه . قال شيخنا البوصيريّ : وهو مرسل صحيح الإسناد ، انتهى . وثمَّ روايات متنوعات ساقها ابن كثير في تفسيره ، لا نطوّل كتابنا بسردها ، ومرجعها واحد . فإن قيل : بين رواية البخاريّ الأولى وما بعدها تنافٍ . فالجواب : لا منافاة ، لأن قراءته صلى الله عليه وسلم لها في محاورة عبد الله بن سلام ، ردٌّ لقول اليهود ، لا يستلزم نزولها حينئذ . فإن المعتمد في سبب نزولها غير قصة عبد الله بن سلام مما سلف من الروايات ، فإن طرقها يقوي بعضها بعضاً ، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عبد الله بن سلام : إن جبريل عدو لليهود ، تلا عليه الآية ، مذكّراً له سبب نزولها - كذا قاله الحافظ ابن حجر في الفتح . وقد أشار إلى ذلك السيوطيّ في " الإتقان " حيث قال : ( تنبيه ) قد يكون في إحدى القصتين ، ( فتلا ) فَيَهِمُ الراوي ، فيقول : فينزل . وقال العلامة ولي الله الدهلويّ قدس سره في كتابه " أصول التفسير " : وقد تحقق عند الفقير أن الصحابة والتابعين كثيراً ما كانوا يقولون : نزلت الآية في كذا وكذا ، وكأن غرضهم تصوير ما صدقت عليه الآية وذكرُ بعض الحوادث التي تشملها الآية بعمومها . سواء تقدمت القصة أو تأخرت ، إسرائيليّاً كان ذلك أو جاهليّاً أو إِسلاميّاً ، استوعبت جميع قيود الآية أو بعضها ، والله أعلم . فعلم من هذا التحقيق أن للاجتهاد في هذا القسم مدخلاً ، وللقصص المتعددة هنالك سعة ، فمن استحضر هذه النكتة يتمكن من حل ما اختلف من سبب النزول بأدنى عناية ، انتهى . وقوله تعالى : { لِّجِبْرِيلَ } قرئ في السبع بكسر الجيم والراء بلا همز ، وبفتح الجيم بدونها أيضاً ، وبفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة ثم ياء وبدونها . قال ابن جني : العرب إذا نطقت بالأعجميّ خلطت فيه . وقوله : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } تعليل لجواب الشرط قائم مقامه ، والبارز الأول لجبريل عليه السلام ، والثاني للقرآن ، أضمر من غير سبق ذكرٍ ، إيذاناً بفخامة شأنه ، واستغنائه عن الذكر ، لكمال شهرته ونباهته ، لاسيما عند ذكر شيء من صفاته . وقوله : { عَلَىٰ قَلْبِكَ } زيادة تقرير للتنزيل ، ببيان محل الوحي ، فإنه القابل الأول له ، إن أريد به الروح ، ومدار الفهم والحفظ إن أريد به العضو ، وهذا كقوله : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193 - 194 ] وكان حق الكلام أن يقال : " على قلبي " لأنه المطابق لقُلْ ، ولكن جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به تحقيقاً لكونه كلام الله ، وأنه أمر بأبلاغه . وقوله : { بِإِذْنِ ٱللَّهِ } أي : بأمره . وقوله : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من التوراة وبقية الصحف المنزلة . وقوله : { وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : يهدي للرشد وبشرى لهم بالجنة ، كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } [ فصلت : 44 ] الآية ، وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ] وفيه رد على اليهود ، حيث قالوا : إن جبريل ينزل بالحرب والشدة كما تقدم ، فقيل : فإنه ينزل بالهدى والبشرى أيضاً . فإن قيل : من شأن الشرط والجزاء الاتصال بالسببية والترتب ، فكيف استقام قوله : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } جزاء للشرط ؟ أجيب بأن قوله : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } تعليل لجواب الشرط ، كما أسلفنا . والمعنى : مَنْ عادى جبريل من أهل الكتاب ، فلا وجه لمعاداته ، بل يجب عليه محبته ، فإنه نزل عليك كتاباً مصدقاً لكتبهم . فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه ، في إنزاله ما ينفعهم ، ويصحح المنزل عليهم . وقيل : الجواب محذوف تقديره : " فيمت غيظاً " . وعليه فلا يكون ( فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ نائباً عنه . ووجهه أن يقدر الجواب مؤخراً عن قوله : { فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ } ويكون هو تعليلاً وبياناً لسبب العداوة ، كأنه قيل : من عاداه ، لأنه نزل على قلبك فليمت غيظاً . قال الرضي : كثيراً ما يدخل الفاء على السبب ويكون بمعنى اللام ، قال الله تعالى : { فَٱخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } [ الحجر : 34 ، ص : 77 ] ، وقيل تقديره : فهو عدو لي وأنا عدوه ، بقرينة الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم ، وهي قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَٰلَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } أي : من كان عدواً لله لإنزاله فضله على من يشاء أو لأمر آخر . وأفادت الآية غضبَ الله تعالى لجبريل على من عاداه . وقد روى البخاريّ في صحيحه ، عن أبي هريرة حديثاً قدسياً " من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب " . وصدَّر الكلام بذكره الجليل تفخيماً لشأنهم وإيذاناً بأن عداوتهم عداوته عز وعلا . وقدم الملائكة على الرسل ، كما قدم الله على الجميع ، لأن عداوة الرسل بسبب نزول الوحي ، ونزوله بتنزيل الملائكة ، وتنزيلهم لها بأمر الله ، فذكر الله تعالى ومن بعده على هذا الترتيب ، وإنما خص جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة لقصد التشريف لهما ، والدلالة على فضلهما ، وإنهما ، وإن كانا من الملائكة ، فقد صارا باعتبار ما لهما من المزية بمنزلة جنس آخر أشرف من جنس الملائكة ، تنزيلاً للتغاير الوصفيّ ، منزلة التغاير الذاتيّ ، وللتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر ، واستجلاب العداوة من الله تعالى ، وإن من عادى أحدهم فكأنه عادى الجميع ، إذ الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد ، ولأن المحاجة كانت فيهما . ووضع { لِّلْكَافِرِينَ } موضع " لهم " ، ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم ، وأن عداوة الملائكة كفر . وقد قرئ في السبع { مِيكَٰلَ } كميزان ، و : " مكائل " بهمزة مكسورة بعد الألف بدون ياء و : " ميكائيل " بالهمزة والياء .