Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 4-5)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ } أي : يقذفون بالزنا { ٱلْمُحْصَنَاتِ } أي : المسلمات الحرائر العاقلات البالغات العفيفات عن الزنا { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } أي : يشهدون على ما رموهن به { فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } أي : كل واحد من الرامين . وتخصيص النساء لخصوص الواقعة ، ولأن قذفهن أغلب وأشنع . وإلا فرق فيه بين الذكر والأنثى { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } أي : في أي واقعة كانت ، لظهور كذبهم { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } أي : لخروجهم عما وجب عليهم من رعاية حقوق المحصنات { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } أي : القذف { وَأَصْلَحُواْ } أي : أعمالهم { فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : بقبول توبتهم وعفوه عنهم . تنبيهات الأول : قال ابن تيمية : ذكر تعالى عدد الشهداء وأطلق صفتهم ولم يقيدهم بكونهم ( منا ) ولا ( ممن نرضى ) ولا ( من ذوي العدل ) ولهذا تنازعوا : هل شهادة الأربعة التي لا توجب الحد مثل شهادة أهل الفسوق ؟ هل تدرأ الحد عن القاذف ؟ على قولين . أحدهما : تدرأ كشهادة الزوج على امرأته أربعاً . فإنها تدرأ حد القذف ولا توجب الحد على المرأة . ولو لم تشهد المرأة ، فهل تحد أو تحبس حتى تقر أو تلاعن ، أو يخلى سبيلها ؟ فيه نزاع . فلا يلزم من درء الحد عن القاذف ، وجوب حد الزنا فإن كلاهما حد . والحدود تدرأ بالشبهات . وأربع شهادات للقاذف شبهة قوية ، ولو اعترف المقذوف مرة أو مرتين أو ثلاثاً درئ الحد عن القاذف ولم يجب الحد عليه عند أكثر العلماء ولو كان المقذوف غير محصن ، مثل أن يكون مشهوراً بالفاحشة ، لم يحد قاذفه حد القذف . ولم يحد هو حد الزنى بمجرد الاستفاضة . وإن كان يعاقب كل منهما دون الحد . ولا يقام حد الزنا على مسلم إلا بشهادة مسلمين . لكن يقال لم يقيدهم بالعدالة ، وقد أمرنا الله أن نحمل الشهادة المحتاج إليها لأهل العدل والرضا وهم الممتثلون ما أمر الله به بقوله : { كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ } [ النساء : 135 ] الآية وقوله : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ } [ الأنعام : 152 ] وقوله : { وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ } [ البقرة : 283 ] وقوله : { وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ } [ البقرة : 282 ] وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } [ المعارج : 33 ] فهم يقومون بها بالقسط لله ، فيحصل مقصود الذي استشهدوه . والوجه الثاني : كون شهادتهم مقبولة لأنهم أهل العدل والرضا . فدل على وجوب ذلك في القبول والأداء . وقد نهى الله سبحانه عن قبول شهادة الفاسق بقوله : { إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوۤاْ } [ الحجرات : 6 ] الآية . لكن هذا نص في أن الفاسق الواحد يجب التبين في خبره . وأما الفاسقان فصاعدا . فالدلالة عليه تحتاج إلى مقدمة أخرى ، وما ذكره من عدد الشهود لا يتعين في الحكم باتفاق العلماء في مواضع . وعند الجمهور يحكم بلا شهود في مواضع عند النكول والرد ونحو ذلك . ويحكم بشاهد ويمين كما مضت بذلك السنة . ويدل على هذا أن الله لم يعتبر عند الأداء هذا القيد ، لا في آية الزنا ، ولا في آية القذف . بل قال : { فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } [ النساء : 15 ] وإنما أمر بالتثبت عند خبر الفاسق الواحد ، ولم يأمر به عند خبر الفاسقيْن . فإن خبر الاثنين يوجب من الاعتقاد ما لا يوجبه خبر الواحد . ولهذا قال العلماء : إذا استراب الحاكم في الشهود ، فرّقهم وسألهم عما تبين به اتفاقهم واختلافهم . انتهى . الثاني : قال الحافظ ابن حجر في الفتح : ذهب الجمهور إلى أن شهادة القاذف بعد التوبة تقبل . ويزول عنه اسم الفسق . سواء كان بعد إقامة الحد أو قبله ، لقوله تعالى : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } روى البيهقي عن ابن عباس في هذه الآية : فمن تاب فشهادته في كتاب الله تقبل . وتأولوا قوله تعالى : { أَبَداً } على أن المراد ما دام مصرّاً على قذفه . لأن ( أبد كل شيء ) على ما يليق به . كما لو قيل : لا تقبل شهادة الكافر أبدا ، فإن المراد ما دام مصرّاً على الكفر . وبالغ الشعبي فقال : إن تاب القاذف قبل إقامة الحد عليه ، سقط عنه . وذهبت الحنفية إلى أن الاستثناء يتعلق بالفسق خاصة . فإذا تاب سقط عنه اسم الفسق ، وأما شهادته فلا تقبل أبداً . وقال بذلك بعض التابعين . انتهى . قال الزمخشري : والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها ، أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط . كأنه قيل : ومن قذف المحصنات فاجلودهم . وردوا شهادتهم وفسّقوهم . أي فاجمعوا لهم الجلد والرد والتفسيق ، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا ، فإن الله يغفر لهم ، فينقلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين . انتهى . وأخرج البخاري في صحيحه في ( كتاب الشهادات ) في باب شهادة القاذف والسارق والزاني ، عن عمر رضي الله عنه ، أنه جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعاً ، بقذف المغيرة بالزنا ، لما شهدوا بأنهم رأوه متبطن المرأة . ولم يبتّ زياد الشهادة . ثم استتابهم وقال : من تاب قبلتُ شهادته . وفي رواية قال لهم : من أكذب نفسه قبلت شهادته فيما يستقبل . ومن لم يفعل ، لم أجز شهادته . فأكذب شبل نفسه ونافع . وأبى أبو بكرة أن يرجع . قال المهلب : يستنبط من هذا ؛ أن إكذاب القاذف نفسه ليس شرطاً في قبول توبته . لأن أبا بكرة لم يكذب نفسه ، ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعملوا بها . الثالث : قال الرازي : اختلفوا في أن التوبة عن القذف كيف تكون ؟ قال الشافعي رحمه الله : التوبة منه إكذابه نفسه ، واختلف أصحابه في معناه . فقال الاصطخري : يقول كذبت فيما قلت فلا أعود لمثله . وقال أبو إسحاق : لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقاً فيكون قوله ( كذبت ) كذباً ، والكذب معصية . والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى ، بل يقول : القذف باطل . ندمت على ما قلت ، ورجعت عنه ، ولا أعود إليه . الرابع : قال الرازي في قوله تعالى : { وَأَصْلَحُواْ } قال أصحابنا : إنه بعد التوبة ، لا بد من مضي مدة عليه في حسن الحال ، حتى تقبل شهادته وتعود ولايته . ثم قدروا تلك المدة بسنة حتى تمر عليه الفصول الأربعة ، التي تتغير فيها الأحوال والطباع . كما يضرب للعنين أجل سنة . وقد علق الشرع أحكاماً بالسنة من الزكاة والجزية وغيرهما . انتهى . وقال الغزالي في ( الوجيز ) : يكفيه أن يقول : تبت ولا أعود . إلا إذا أقر على نفسه بالكذب ، فهو فاسق ، يجب استبراؤه ككل فاسق يقول : تبت . فإنه لا يصدق حتى يستبرأ مدة فيعلم بقرائن الأحوال صلاح سريرته . انتهى . وبه يعلم أن التقدير بسنة لا دليل عليه ، بل المدار على علم صلاحه وظهور استقامته ، ولو على أثر الحد . قال الحافظ ابن حجر : روى سعيد بن منصور من طريق حصين بن عبد الرحمن قال : رأيت رجلا جُلد حدّاً في قذف بالزنا . فلما فرغ من ضربه أحدث توبة . فلقيت أبا الزناد فقال لي : الأمر عندنا بالمدينة ؛ إذا رجع القاذف عن قوله ، فاستغفر ربه ، قبلت شهادته وعلقه البخاري . الخامس : ننقل هنا ما أجمله السيوطيّ في ( الإكليل مما يتعلق بأحكام الآية ، قال رحمه الله : في هذه الآية تحريم القذف ، وأنه فسق ، وأن القاذف لا تقبل شهادته ، وأنه يجلد ثمانين إذا قذف محصنة أي عفيفة . ومفهومه أنه إذا قذف من عرفت بالزنا لا يحد للقذف . ويصرح بذلك قوله { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } وفيها أن الزنا لا يقبل فيه إلا أربعة رجال ، لا أقل . ولا نساء . وسواء شهدوا مجتمعين أو متفرقين . واستدل بعموم الآية من قال : يحد العبد أيضاً ثمانين . ومن قال : يحد قاذف الكافر والرقيق وغير البالغ والمجنون وولده . واحتج بها على أن من قذف نفسه ثم رجع لا يحد لنفسه . لأنه لم يرم أحداً . واستدل بها من قال : إن حد القذف من حقوق الله ، فلا يجوز العفو عنه . انتهى . ثم رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، تحقيقاً في بحث قبول الشهادة بعد التوبة ، جديراً بأن يؤثر . قال رحمه الله : وقوله تعالى : { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } نصُّ في أن هؤلاء القذفة لا تقبل شهادتهم أبداً واحداً . كانوا أو عدداً . بل لفظ الآية ينتظم العدد على سبيل الجمع والبدل ، لأنها نزلت في أهل الإفك باتفاق أهل العلم والحديث والفقه والتفسير . وكان الذين قذفوا عائشة عدداً ، ولم يكونوا واحداً لما رأوها قدمت صحبة صفوان بن المعطل ، بعد قفول العسكر ، وكانت قد ذهبت تطلب قلادة لها فُقدت ، فرفعوا هودجها معتقدين أنها فيه لخفتها ، ولم تكن فيه . فلما رجعت لم تجد أحداً فمكثت مكانها . وكان صفوان قد تخلف وراء الجيش . فلما رآها أعرض بوجهه عنها وأناخ راحلته حتى ركبتها . ثم ذهب إلى العسكر . فكانت خلوته بها للضرورة . كما يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم للضرورة كسفر الهجرة . مثل ما قدمت أم كلثوم بنت عقبة مهاجرة ، وقصة عائشة . ودلت الآية على أن القاذفين لا تقبل شهادتهم مجتمعين ولا متفرقين ودلت الآية على أن شهادتهم بعد التوبة مقبولة . كما هو مذهب الجمهور . فإنه كان من جملتهم مسطح وحسان وحمنة . ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يردّ شهادة أحد منهم ، ولا المسلمون بعده لأنهم كلهم تابوا لما نزل القرآن ببراءتها . ومن لم يتب حينئذ ، فإنه كافر مكذب بالقرآن . وهؤلاء مازالوا مسلمين . وقد نهى الله عن قطع صلتهم . ولو ردت شهادتهم بعد التوبة لاستفاض ذلك كما استفاض رد عمر شهادة أبي بكرة . وقصة عائشة أعظم من قصة المغيرة لكن من رد شهادة القاذف بعد التوبة يقول : أرد شهادة من حُدّ في القذف . وهؤلاء لم يحدوا . والأولون يجيبون بأجوبة : أحدها : أنه قد روي في السنن أنهم حدوا . الثاني : أن هذا الشرط غير معتبر في ظاهر القرآن ، وهم لا يقولون به . الثالث : أن الذين اعتبروا الحد واعتبروه وقالوا : قد يكون القاذف صادقاً وقد يكون كاذباً . فإعراض المقذوف عن طلب الحد قد يكون لصدق القاذف . فإذا طلبه ولم يأت القاذف بأربعة شهداء ظهر كذبه . ومعلوم أن الذين قذفوا عائشة ظهر كذبهم أعظم من ظهور كذب كل أحد . فإن الله عز وجل هو الذي برأها بكلامه الذي أنزله من فوق سبع سماوات يتلى ، فإذا كانت شهادتهم مقبولة ، فغيرهم أولى . وقصة عمر التي حكم فيها بين المهاجرين والأنصار ، في شأن المغيرة ، دليل على الفصلين جميعاً . لما توقف الرابع فجلد الثلاثة دونه ورد شهادتهم . لأن اثنين من الثلاثة تابا فقبل شهادتهما . والثالث هو أبو بكرة ، مع كونه من أفضلهم ، لم يتب . فلم يقبل المسلمون شهادته . وقد قال عمر : تب أقبل شهادتك . لكن إذا كان القرآن قد بين أنهم إن لم يأتوا بأربعة شهداء لم تقبل شهادتهم أبداً ، ثم قال بعد ذلك : { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } فمعلوم أن قوله : { هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } وصف ذم لهم زائد على رد الشهادة . وأما تفسير العدالة فإنها الصلاح في الدين والمروءة . وإذا وجد هذا في شخص كان عدلاً في شهادته وكان من الصالحين . وأما أنه لا يستشهد أحد في وصية ولا رجعة في جميع الأمكنة والأزمنة حتى يكون بهذه الصفة ، فليس في كتاب الله وسنة رسوله ما يدل على ذلك ، بل هذا صفة المؤمن الذي أكمل إيمانه بأداء الواجبات وإن كان المستحبات لم يكملها . ومن كان كذلك كان من أولياء الله المتقين . ثم إن القائلين بهذا قد يفسرون الواجبات بالصلوات الخمس ونحوها ، بل قد يجب على الإنسان من حقوق الله وحقوق عباده ما لا يحصيه إلا الله مما يكون تركه أعظم إثماً من شرب الخمر والزنا ومع ذلك لم يجعلوه قادحاً في عدالته ، إما لعدم استشعار كثرة الواجبات ، وإما لالتفاتهم إلى ترك السيئات دون فعل الواجبات ، وليس الأمر كذلك في الشريعة . وبالجملة ، فهذا معتبر في باب الثواب والعقاب والمدح والذم والموالاة والمعاداة ، وهذا أمر عظيم . وباب الشهادة مداره على أن يكون الشهيد مرضيّاً ، أو يكون ذا عدل بتحري القسط والعدل في أقواله وأفعاله . والصدق في شهادته وخبره . وكثيراً ما يوجد هذا مع الإخلال بكثير من تلك الصفات . كما أن الصفات التي اعتبروها كثيرا ما توجد بدون هذا كما قد رأينا كل واحد من الصنفين كثيراً . لكن يقال : إن ذلك مظنة الصدق والعدل والمقصود من الشهادة ودليل عليها وعلامة لها . فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق على صحته : " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة … " الحديث . فالصدق مستلزم للبر ، كما أن الكذب مستلزم للفجور . فإذا وجد الملزوم ، وهو تحري الصدق ، وجد اللازم وهو البر . وإذا انتفى اللازم وهو البر انتفى الملزوم وهو الصدق . وإذا وجد الكذب وهو الملزوم وجد الفجور وهو اللازم . وإذا انتفى اللازم وهو الفجور انتفى الملزوم وهو الكذب ، ولهذا يستدل بعدم بر الرجل على كذبه . وبعدم فجوره على صدقه . فالعدل الذي ذكروه ؛ من انتفى فجوره . وهو إتيان الكبيرة والإصرار على الصغيرة . وإذا انتفى ذلك فيه ، انتفى كذبه الذي يدعوه إلى الفجور . والفاسق هو من عدم بره ، وإذا عدم بره عدم صدقه . ودلالة هذا الحديث مبنية على أن الداعي إلى البر يستلزم البر ، والداعي إلى الفجور يستلزم الفجور . فالخطأ كالنسيان والعمد كالكذب . انتهى . ثم بين تعالى حكم الرامين لأزواجه خاصة ، بعد بيان حكم الرامين بغيرهن ، بقوله سبحانه : { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ … } .