Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 103-103)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } الحبل إما بمعنى العهد ، كما قال تعالى في الآية بعدها : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } [ آل عِمْرَان : 112 ] بعهد وذمة ، وإما بمعنى القرآن ، كما في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله ، من اتبعه كان على الهدى ، ومن تركه كان على ضلالة " … الحديث ، والوجهان متقاربان ، فإن عهده أي : شرعه ودينه كتابه حرز للمتمسك به من الضلالة ، كالحبل الذي يتمسكّ به خشية السقوط ، وقوله : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } أي : لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم ، كما اختلف اليهود والنصارى ، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية ، متدابرين ، يعادي بعضكم بعضاً ، ويحاربه ، أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق ، ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم ، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام أفاده الزمخشريّ . { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } قال الزمخشريّ : كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة ، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام ، وقذف فيها المحبة ، فتحابوا وتوافقوا وصاروا إخواناً متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد ، قد نظم بينهم وأزال الاختلاف ، وهو الأخوة في الله . { وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا } أي : طرف { حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ } بما كنتم فيه من الجاهلية { فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } أي : بالإسلام . قال ابن كثير : وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج ، فإنه كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم ، والوقائع بينهم . فلما جاء الله بالإسلام ، فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخواناً متحابين بجلال الله ، متواصلين في ذات الله متعاونين على البرّ والتقوى . قال الله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ … } [ الأنفال : 62 - 63 ] الآية ، وكانوا على شفا حفرة من النار ، بسبب كفرهم ، فأنقذهم الله منها ، إذ هداهم للإيمان . وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم قسم غنائم حنين ، فعتب من عتب منهم ، بما فضل عليهم في القسمة ، بما أراه الله ، فخطبهم فقال : " يا معشر الأنصار ! ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ؟ " فكلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله أمنّ انتهى . لطيفة قال الزمخشريّ : الضمير في : منها . للحفرة أو للنار أو للشَّفا ، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة ، وهو منها كما قال : @ كما شرقت صدر القناة من الدم @@ انتهى . وقال أبو حيان : لا يحسن عوده إلا إلى الشفا ، لأنه المحدَّث عنه - انتهى . وفي الانتصاف : يجوز عود الضمير إلى الحفرة ، فلا يحتاج إلى تأويله المذكور ، كما تقول : أكرمت غلام هند ، وأحسنت إليها ، والمعنى على عوده إلى الحفرة أتم ، لأنها التي يُمتَنُّ بالإنقاذ منها حقيقة ، وأما الامتنان بالإنقاذ من الشفا ، فلما يستلزمه الكون على الشفا غالباً من الهُوِيّ إلى الحفرة ، فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذاً من الحفرة التي يتوقع الهويّ فيها . فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة تكون أبلغ وأوقع . مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو عليّ في التعاليق من ضرورة الشعر ، خلاف رأيه في الإيضاح - نقله ابن يسعون . وما حمل الزمخشريَّ على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه ، ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ منها . وقد بينا في أدراج هذا الكلام ما يسوغ الامتنان عليهم بالإنقاذ من الحفرة ، لأنهم كانوا صائرين إليها غالباً ، لولا الإنقاذ الربانيّ . ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم : " الراتع حول الحمى يوشك أن يواقعه " وإلى قوله تعالى : { أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } [ التوبة : 109 ] . وانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سبباً مؤدياً إلى انهياره في نار جهنم ، مع تأكيد ذلك بقوله : { هَارٍ } . والله أعلم - انتهى . ثم قال الزمخشريّ : وشفا الحفرة وشفتها حرفها ، بالتذكير والتأنيث ، ولامها واو إلا أنها في المذكر مقلوبة ، وفي المؤنث محذوفة ، ونحو الشفا والشفة ، الجانب والجانبة - انتهى . وحكى الزجاج في تثنية شفا " شفوان " . قال الأخفش لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو ، لأنه الإمالة من الياء - كذا في الصحاح . ثم قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف جعلوا على حرف حفرة من النار ؟ قلت : لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار ، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار ، بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها . قال الرازيّ : وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة ، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة ، إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء . { كَذٰلِكَ } أي : مثل ذلك البيان { يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } في كل مكان لإنقاذكم عن الضلال فيه { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } لرشدكم الدينيّ والدنيويّ فيه . ثم أشار إلى أنه كما أنقذكم من النار والضلال بإرسال الرسل وإنزال الآيات ، فليكن فيكم من ينقذ إخوانه ، فقال : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ … } .