Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 159-159)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ } أي : للذين تولوا عنك حين عادوا إليك بعد الانهزام ، وللمؤمنين عموماً كما قال تعالى : { بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] . وما مزيدة للتوكيد أو نكرة . و { رَحْمَةٍ } بدل منها مبيّن لإبهامها . والتنوين للتفخيم ، أي : ما لنت هذا اللين الخارق للعادة ، مع ما سبّب فعلهم من الغضب الموجب للعنف والسطوة ، لا سيما مع اعتراض من اعترض على ما أشار به ، إلا بسبب رحمة عظيمة { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً } أي : سيئ الخلق خشن الكلام { غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ } أي : قاسيه وشديده . تعاملهم بالعنف والجفا { لاَنْفَضُّواْ } أي : تفرقوا { مِنْ حَوْلِكَ } فلم يسكنوا إليك فلا تتم دعوتك . ولكن الله جعلك سهلاً سمحاً طلقاً ليناً لطيفاً باراً رؤوفا رحيما { فَٱعْفُ عَنْهُمْ } أي : فيما فرطوا في حقك كما عفا الله عنهم { وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ } إتماماً للشفقة عليهم { وَشَاوِرْهُمْ فِي ٱلأَمْرِ } أي : أمر الحرب وغيره تودداً إليهم وتطييباً لنفوسهم ، واستظهاراً بآرائهم ، وتمهيداً لسنة المشاورة في الأمة . وقد ساق العلامة الرازيّ وجوهاً أخرى في فائدة أمره تعالى له عليه الصلاة والسلام بمشاورتهم . منها : أنه صلى الله عليه وسلم ، وإن كان أكمل الناس عقلاً ، إلا أن علوم الخلق متناهية ، فلا يبعد أن يخطر ببال إنسان من وجوه المصالح مالا يخطر بباله . لا سيما فيما يفعل من أمور الدنيا . فإنه صلى الله عليه وسلم قال : " أنتم أعرف بأمور دنياكم " ومنها : أن الأمر بمشاورتهم لا لأجل أنه صلى الله عليه وسلم محتاج إليهم ، ولكن لأجل أنه إذا شاورهم في الأمر اجتهد كل واحد منهم في استخراج الوجه الأصلح في تلك الواقعة فتصير الأرواح متطابقة متوافقة على تحصيل أصلح الوجوه فيها ، وتطابقُ الأرواح الطاهرة على الشيء الواحد مما يعين على حصوله . وهذا هو السر عند الاجتماع في الصلوات ، وهو السر في أن صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد . انتهى . وقد ثبت مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه في عدة أمور منها أنه شاورهم في يوم بدر في الذهاب إلى العير . فقالوا : يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] . ولكن نقول : اذهب فنحن معك وبين يديك ، وعن يمينك وشمالك مقاتلون . وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل حتى أشار المنذر ابن عمرو بالتقدم أمام القوم ، وشاورهم في أُحُد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو . فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم . وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ . فأبى ذلك عليه السعدان : سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فترك ذلك . وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراريّ المشركين فقال له الصديق : إنا لم نجئ لقتال أحد ، وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قال . وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك : " أشيروا عليّ ، معشر المسلمين ، في قوم أبنوا أهلي ورموهم . وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء . وأبنوهم بمن ، والله ، ما علمت عليهم إلا خيراً " واستشار علياً وأسامة في فراق عائشة رضي الله عنها . فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها . أفاده الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى . قال الخفاجيّ : في الآية إرشاد إلى الاجتهاد وجوازه بحضرته صلى الله عليه وسلم . وقال الرازيّ : دلت على أنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي . والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة ، فلهذا كان مأمورا بالمشاورة . انتهى . وقال بعض المفسرين : ثمرة الآية وجوب التمسك بمكارم الأخلاق وخصوصا لمن يدعو إلى الله تعالى ويأمر بالمعروف . { فَإِذَا عَزَمْتَ } أي : بعد المشاورة على أمر واطمأنت به نفسك { فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } في الإعانة على إمضاء ما عزمت ، لا على المشورة وأصحابها . قال الرازيّ : دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه ، كما يقول بعض الجهال . وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل ، بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة ، ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعول على عصمة الحق { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ } .