Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 200-200)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ } أي : على مشاق الطاعات وما يمسكم من المكاره والشدائد { وَصَابِرُواْ } أي : غالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الجهاد . لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً . والمصابرة باب من الصبر . ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه ، تخصيصاً ، لشدته وصعوبته - كذا في الكشاف . { وَرَابِطُواْ } أي : أقيموا على مرابطة الغزو في نحر العدوّ بالترصد والاستعداد لحربهم ، وارتباط الخيل . قال الله تعالى : { وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [ الأنفال : 60 ] ، والرباط في الأصل أن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغرة وكل معدّ لصاحبه ، ثم صار لزوم الثغر رباطاً ، وربما سميت أنفسها رباطاً ، وقد يتجوّز بالرباط عن الملازمة والمواظبة على الأمر ، فتسمى رباطاً ومرابطة . قال الفارسيّ : هو ثان من لزوم الثغر ، ولزوم الثغر ثان من رباط الخيل . وقد وردت الأخبار بالترغيب في الرباط ، وكثرة أجره . فمنها ما رواه البخاريّ في صحيحه عن سهل بن سعد الساعديّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رباط يوم في سبيل الله ، خير من الدنيا وما عليها " . وروى مسلم عن سلمان الفارسيّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رباط يوم وليلة ، خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمِنَ الفُتَّان " . وروى الإمام أحمد عن فضالة بن عبيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله ، فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة ، ويأمن فتنة القبر " ، وهكذا روى أبو داود والترمذيّ وقال : حسن صحيح . وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضاً . وبقيت أحاديث أخر ساقها الحافظ ابن كثير في تفسيره . هذا ومن الوجوه في قوله تعالى : { وَرَابِطُواْ } : أن يكون معناه انتظار الصلاة بعد الصلاة . فقد روى مسلم والنسائيّ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة . فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط " فشبه صلى الله عليه وسلم ما ذكر من الأفعال الصالحة بالرباط . وروى الحاكم في ( مستدركه ) والحافظ ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل عليّ أبو هريرة يوماً فقال : أتدري ، يا ابن أخي ! فيم نزلت هذه الآية { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } قلت : لا ! قال : أما إنه لم يكن في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها ، ثم يذكرون الله فيها ، فعليهم أنزلت { ٱصْبِرُواْ } أي : على الصلوات الخمس : { وَصَابِرُواْ } أنفسكم وهواكم ورابطوا في مساجدكم . { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } فيما عليكم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : تفوزون بما يغتبط به . و ( لعل ) لتغييب المآل . لئلا يتكلوا على الآمال . خاتمة فيما ورد في الآيات الأواخر من هذه السورة ، وفي فضل هذه السورة بتمامها . قال الحافظ ابن كثير : قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده . روى البخاريّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ، ثم رقد ، فلما كان ثلث الليل الآخر ، قعد فنظر إلى السماء ، فقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [ آل عمران : 190 ] ثم قال فتوضأ ، واستن ، ثم صلى إحدى عشرة ركعة ، ثم أذن بلال ، فصلى ركعتين ، ثم خرج فصلى بالناس الصبح - وهكذا رواه مسلم - ورواه البخاريّ من طريق أخرى بلفظ : حتى إذا انتصف الليل ، أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل ، استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من منامه ، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران … الحديث - وهكذا أخرجه الجماعة من طرق . وروى ابن مردويه بسنده عن عَبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأحفظ صلاته . قال : فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الأخيرة ، حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيري ، قام فمرّ بي فقال : " من هذا ؟ عبد الله ؟ " قلت : نعم ! قال : " فمه ؟ " قلت : أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة ، قال : " فالحق ، الحق " . فلما دخل قال : " افرش . عبد الله ! " فأتى بوسادة من مسوح ، قال : فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سمعت غطيطه ، ثم استوى على فراشه قاعداً ، قال : فرفع رأسه إلى السماء فقال : " سبحان الملك القدوس " ( ثلاث مرات ) " ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها . وقد روى مسلم وأبو داود والنسائيّ من حديث عليّ بن عبد الله بن عباس عن أبيه حديثاً في ذلك أيضاً . وروى ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعد ما مضى ليل ، فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ آل عمران : 190 ] إلى آخر السورة ، ثم قال : " اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وعن يميني نوراً ، وعن شمالي نوراً ، ومن بين يديّ نوراً ، ومن خلفي نوراً ، ومن فوقي نوراً ، ومن تحتي نوراً ، وأعظم لي نوراً يوم القيامة " وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح من رواية كريب عن ابن عباس رضي الله عنه . وروى ابن مروديه وعبد بن حميد حديثاً عن عائشة ، وفيه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ آل عمران : 190 ] إلى قوله : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [ آل عمران : 191 ] ثم قال : ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها " . ومما ورد في فضل هذه السورة : ما أخرجه مسلم والترمذيّ من حديث النواس بن سمعان " يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهلِهِ الذين كانوا يعملون به ، تَقْدُمُهُ سورة البقرة وآل عمران " ، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ، ما نسيتهن بعد ، قال : " كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان ، بينهما شَرْقٌ ( أي : ضياء ونور ) ، أو كأنهما حِزْقان من طير صوافَّ تُحَاجَّان عن صاحبهما " . والله سبحانه الموفق . تمّ تفسير هذه السورة صباح الجمعة في 11 ذي القعدة الحرام سنة ( 1318 ) وذلك في حرم جامع السنانية في الشباك القبليّ من السدة اليمنى العليا بيد جامعه الفقير محمد جمال الدين القاسميّ الدمشقيّ غفر له ولوالديه وللمؤمنين آمين . ويليه الجزء الثالث وفيه تفسير سورة النساء .