Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 31-33)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَمَن يَقْنُتْ } أي : يدم مطيعاً { مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : في إتيان الواجبات وترك المحرمات والمكروهات { وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } أي : مرة على الطاعة والتقوى ، وأخرى على طلبهن رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة { وَأَعْتَدْنَا لَهَا } أي زيادة على أجرها المضاعف في الجنة ، أو فيها وفي الدنيا { رِزْقاً كَرِيماً } أي : حسناً مرضياً { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } أي : عند مخاطبة الناس . أي : فلا تُجِبن بقولكن لينا خنثا ، مثل كلام المريبات والمومسات { فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي : ريبة وفجور { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أي : بعيدا من طمع المريب بجدّ وخشونة ، من غير تخنيث . أو قولا حسنا مع كونه خشنا . { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي : اسكنّ ولا تخرجن منها . من ( وقر يقر وقارا ) إذا سكن . أو من ( قرّ يقر من باب ضرب ) حذفت الأولى من رائي ( اقررن ) ونقلت كسرتها إلى القاف ، فاستغنى عن همزة الوصل . ويؤيده قراءة نافع وعاصم بالفتح . من ( قررت أقر ) من باب علم . وهي لغة قليلة { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } أي : تبرج النساء أيام جاهلية الكفر الأولى . إذ لا دين يمنعهم ولا أدب يزعهم . والتبرج ، فسِّر بالتبختر والتكسّر في المشي . وبإظهار الزينة وما يستدعى به شهوة الرجل . وبلبس رقيق الثياب التي لا تواري جسدها . وبإبداء محاسن الجيد والقلائد والقرط . وكل ذلك مما يشمله النهي ، لما فيه من المفسدة والتعرّض لكبيرة . فائدة قيل : { ٱلأُولَىٰ } بمعنى القديمة مطلقا من غير تقييد بزمن . فيستدل بذلك لمن قال : إن الأول لا يستلزم ثانيا . قال في ( الإكليل ) : وهو الأصح عند العلماء . فلو قال : أول ولد تلدينه فأنت طالق ، لم يحتج إلى أن تلد ثانياً . انتهى . وقال الزمخشري : { ٱلأُولَىٰ } هي القديمة التي يقال لها الجاهلية الجهلاء . من الزمن الذي ولد فيه إبراهيم ، أو ما قبله ، إلى زمن عيسى . والجاهلية ما بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما . ويجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام ، والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام . ويعضّده ما روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأبي ذرّ ، لما عيّر رجلا بأمه وكانت أعجمية : " إنك امرؤ فيك جاهلية " والمعنى نهيهن عن إحداث جاهلية في الإسلام ، تشبه جاهلية الكفر قبله { وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : بموافقة أمرهما ونهيهما . ثم أشار إلى أن مخالفتهما رجس لا يناسب فضل أهل البيت بقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } أي : ما أمركنّ ونهاكنّ ، ووعظكنّ ، إلا خيفة مقارفة المآثم والحرص على التصوّن عنها بالتقوى . فالجملة تعليلية لأمرهنّ ونهيهن على سبيل الاستئناف . قال الزمخشري : استعار للذنوب { ٱلرِّجْسَ } ، وللتقوى ( الطهر ) . لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوّث بها ويتدنس كما يتلوّث بدنه بالأرجاس ، وأما المحسنات فالعرض معها نقيّ مصون كالثوب الطاهر . وفي هذه الاستعارة ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ونهاهم عنه . ويرغبهم فيما رضيه لهم وأمرهم به . و { أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } نصب على النداء أو على المدح . والمراد بهم مَن حواهم بيت النبيّ صلّى الله عليه وسلم . قال ابن كثير : وهذا نص في دخول أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا ، لأنهن سبب نزول هذه الآية ، وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا . إما وحده على قول ، أو مع غيره على الصحيح . وأما قول عكرمة ، إنها نزلت في نساء النبيّ صلّى الله عليه وسلم خاصة ، ومن شاء باهلته في ذلك ، فإن كان المراد أنهن كنّ سبب النزول دون غيرهن ، فصحيح . وإن أريد أنهن المراد فقط دون غيرهن ، ففي هذا نظر . فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك . وأنه صلّى الله عليه وسلم جمع علياً وفاطمة والحسن والحسين ، ثم جللهم بكساء كان عليه . ثم قال : " هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس " وقد ساق ابن كثير طرق هذا الحديث ومخرجيه ، إلا أن الشيخين لم يصححاه ، ولذا لم يخرجاه . وأما ما رواه مسلم عن حصين بن سبرة ، عن زيد بن أرقم ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : " أما بعد ، أيها الناس ! إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور . فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحثّ على كتاب الله عز وجل ، ورغّب فيه . ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي - قالها ثلاثاً - " فقال له حصين : ومن أهل بيته يا يزيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : نساؤه من أهل بيته . ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده . قال : ومن هم ؟ قال : آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس رضي الله عنهم - فإنما مراد زيد ، آله الذين حرموا الصدقة . أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط ، بل هم مع آله . قال ابن كثير : وهذا احتمال أرجح ، جمعا بين القرآن والأحاديث المتقدمة ، إن صحت فإن في بعض أسانيدها نظراً . انتهى . وقال أبو السعود : وهذه كما ترى آية بينة ، وحجة نيرة ، على كون نساء النبي صلّى الله عليه وسلم من أهل بيته ، قاضية ببطلان رأي الشيعة في تخصيصهم أهلية البيت بفاطمة وعليّ وابنيهما رضوان الله عليهم . وأما ما تمسكوا به من حديث الكساء وتلاوته صلّى الله عليه وسلم الآية بعده ، فإنما يدل على كونهم من أهل البيت ، لا على أن من عداهم ليسوا كذلك . ولو فرضت دلالته على ذلك لما اعتدّ بها ، لكونها في مقابلة النص . انتهى . بقي أن الشيعة ، تمسكوا بالآية أيضا على عصمة عليّ رضي الله عنه ، وإمامته دون غيره . قال ابن المطهر الحلي منهم : وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظ ( إنما ) وإدخال اللام في الخبر ، والاختصاص في الخطاب بقوله : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } وغيرهم ليس بمعصوم … الخ . وأجاب ابن تيمية رحمه الله في ( منهاج السنة ) بقوله : ليس في هذا دلالة على عصمتهم ولا إمامتهم . وتحقيق ذلك في مقامين : أحدهما : أن قوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } [ الأحزاب : 33 ] كقوله : { مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } [ المائدة : 6 ] ، وكقوله : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] ، وكقوله : { يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } [ النساء : 26 - 27 ] فإن إرادة الله في هذه الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد ورضاه به ، وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به . ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد ، ولا أنه قضاه وقدّره ، ولا أنه يكون لا محالة . والدليل على ذلك ، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير . فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم ، ولم يحتج إلى الطلب والدعاء . وهذا على قول القدرية أظهر . فإن إرادة الله عندهم لا تتضمن وجود المراد ، بل قد يريد ما لا يكون ويكون ما لا يريد . فليس في كونه تعالى مريداً لذلك ، ما يدل على وقوعه . وهذا الرافضيّ وأمثاله قدرية ، فكيف يحتجون بقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } على وقوع المراد ؟ وعندهم أن الله قد أراد إيمان من على وجه الأرض . فلم يقع مراده . وأما على قول أهل الإثبات ، فالتحقيق في ذلك أن الإرادة في كتاب الله نوعان : إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه . وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره . الأولى مثل هؤلاء الآيات . والثانية مثل قوله تعالى : { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَٰمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ } [ الأنعام : 125 ] { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِيۤ إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ ٱللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 ] وكثير من المثبتة والقدرية يجعل الإرادة نوعا واحداً ، كما يجعلون الإرادة والمحبة شيئاً واحداً . ثم القدرية ينفون إرادته لما بيّن أنه مراد في الآيات التشريع . فإنه عندهم كل ما قيل إنه مراد . فلا يلزم أن يكون كائناً ، والله قد أخبر أنه يريد أن يتوب على المؤمنين وأن يطهرهم . وفيهم من تاب وفيهم من لم يتب . وفيهم من تطهر وفيهم من لم يتطهر . وإذا كانت الآية دالة على وقوع ما أراده من التطهير وإذهاب الرجس ، لم يلزم بمجرد الآية ثبوت ما ادعاه . ومما يبيّن ذلك ، أن أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلم مذكورات في الآية . والكلام في الأمر بالتطهير بإيجابه ووعد الثواب على فعله والعقاب على تركه . قال تعالى : { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } [ الأحزاب : 30 ] إلى قوله : { وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } [ الأحزاب : 33 ] فالخطاب كله لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلم ومعهن الأمر والنهي والوعد والوعيد . لكن لما تبيّن ما في هذا من المنفعة التي تعمهّن وتعمّ غيرهن من أهل البيت ، جاء التطهير بهذا الخطاب وغيره ليس مختصا بأزواجه . بل هو متناول لأهل البيت كلهم . وعليّ وفاطمة والحسن والحسين أخص من غيرهم بذلك . ولذلك خصهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالدعاء لهم . وهذا كما أن قوله : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } [ التوبة : 108 ] نزلت بسبب ( مسجد قباء ) لكن الحكم يتناوله ويتناول ما هو أحق منه بذلك ، وهو ( مسجد المدينة ) وهذا يوجه ما ثبت في الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : " هو مسجدي هذا " وثبت عنه في الصحيح أنه كان يأتي قباء كل سبت ماشياً وراكباً . فكان يقوم في مسجده يوم الجمعة ويأتي قباء يوم السبت . وكلاهما مؤسس على التقوى . وهكذا أزواجه ، وعليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أخص بذلك من أزواجه . ولهذا خصهم بالدعاء . وقد تنازع الناس في آل محمد من هم ؟ فقيل : أمته . وهذا قول طائفة من أصحاب محمد ومالك وغيرهم . وقيل : المتقون من أمته . ورووا حديثاً : ( آل محمد كل مؤمن تقي ) رواه الخلال ، وتمام في ( الفوائد ) له . وقد احتج به طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم . وهو حديث موضوع . وبنى على ذلك طائفة من الصوفية . أن آل محمد هم خواص الأولياء . كما ذكر الحكيم الترمذيّ . والصحيح أن آل محمد هم أهل بيته . وهذا هو المنقول عن الشافعيّ وأحمد . وهو اختيار الشريف أبي جعفر وغيرهم . لكن هل أزواجه من أهل بيته ؟ على قولين ، هما روايتان عن أحمد . أحدهما : أنهن لسن من أهل البيت . ويروى هذا عن زيد بن أرقم . والثاني : وهو الصحيح أن أزواجه من آله . فإنه قد ثبت في الصحيحين عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه علمهم الصلاة عليه : " اللهم صلّ على محمد وأزوجه وذريته " ولأن امرأة إبراهيم من آله وأهل بيته . وامرأة لوط من آله وأهل بيته . بدلالة القرآن . فكيف لا يكون أزواج محمد من آله وأهل بيته ؟ ولأن هذه الآية تدل على أنهن من أهل بيته ، وإلا لم يكن لذكر ذلك في الكلام معنى . وأما الأتقياء من أمته فهم أولياؤه . كما ثبت في الصحيح أنه قال : " إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء ، وإنما ولي الله وصالح المؤمنين " فبيّن أن أولياءه صالح المؤمنين . وكذلك في حديث آخر : " إن أوليائي المتقون حيث كانوا وأين كانوا " وقد قال تعالى : { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [ التحريم : 4 ] وفي الصحاح عنه أنه قال : " وددت أني رأيت إخواني " قالوا : أولسنا إخوانك ؟ قال : " بل أنتم أصحابي ، وإخوتي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني " وإذا كان كذلك ، فأولياؤه المتقون ، بينه وبينهم قرابة الدين والإيمان والتقوى . وهذه القرابة الدينية أعظم من القرابة الطبيعية . والقرب بين القلوب والأرواح أعظم من القرب بين الأبدان . ولهذا كان أفضل الخلق أولياؤه المتقون . وأما أقاربه ففيهم المؤمن والكافر والبرّ والفاجر . فإن كان فاضل منهم ، كعليّ رضي الله عنه وجعفر والحسن والحسين ، ففضلهم بما فيهم من الإيمان والتقوى . وهم أولياؤه بهذا الاعتبار لا بمجرد النسب . فأولياؤه أعظم درجة من آله ، وإن صلى على آله تبعا ، لم يقتض ذلك أن يكونوا أفضل من أوليائه . الذين لم يصلّ عليهم . فإن الأنبياء والمرسلين هم من أوليائه . وهم أفضل من أهل بيته . وإن لم يدخلوا في الصلاة معه تبعاً ، فالمفضول قد يختص بأمر ولا يلزم أن يكون أفضل من الفاضل . ودليل ذلك أن أزواجه هم ممن يصلي عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين . وقد ثبت باتفاق الناس كلهم أن الأنبياء أفضل منهن كلهن . فإن قيل : فهب أن القرآن لا يدل على وقوع ما أريد من التطهير وإذهاب الرجس ، لكن دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلم بذلك يدل على وقوعه . فإن دعاءه مستجاب . قيل : المقصود أن القرآن لا يدل على ما ادعاه بثبوت الطهارة وإذهاب الرجس ، فضلا عن أن يدل على العصمة والإمامة . وأما الاستدلال بالحديث فذاك مقام آخر . ثم نقول في المقام الثاني : هب أن القرآن دلّ على طهارتهم وعلى ذهاب رجسهم ، كما أن الدعاء المستجاب لا بد أن يستحق معه طهارة المدعوّ لهم وإذهاب الرجس عنهم . لكن ليس في ذلك ما يدل على العصمة من الخطأ . والدليل عليه أن الله لم يرد بما أمر به أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن لا يصدر من واحدة منهن خطأ . فإن الخطأ مغفور لهن ولغيرهن . وسياق الآية يقتضي أنه يريد ليذهب عنهم الرجس الذي هو الخبث . كالفواحش ويطهرهم تطهيراً من الفواحش وغيرها من الذنوب . والتطهير من الذنب على وجهين ، كما في قوله : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [ المدثر : 4 ] وقوله : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ الأعراف : 82 ] فإنه قال فيها : { مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } [ الأحزاب : 30 ] والتطهر من الذنوب إما بأن لايفعله العبد ، وإما بأن يتوب منه كما في قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] ما أمر الله به من الطهارة ابتداء وإرادة . فإنه يتضمن نهيه عن الفاحشة ، لا يتضمن الإذن فيها بحال . لكن هو سبحانه ينهى عنها ، ويأمر من فعلها بأن يتوب منها . وفي الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " اللهم ! باعد بيني وبين خطاياي ، كما باعدت بين المشرق والمغرب . واغسلني بالثلج والبرَد والماء البارد . اللهم ! نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس " وبالجملة ، لفظ ( الرجس ) أصله القذر . ويراد به الشرك . كقوله : { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ } [ الحج : 30 ] ويراد به الخبائث المحرّّمة ، كالمطعومات والمشروبات كقوله : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً } [ الأنعام : 145 ] وقوله : { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } [ المائدة : 90 ] وإذهاب ذلك إذهاب لكله . ونحن نعلم أن الله أذهب عن أولئك السادة الشرك والخبائث . ولفظ { ٱلرِّجْسَ } عامّ يقتضي أن الله يذهب جميع الرجس . فإن النبي صلّى الله عليه وسلم دعا بذلك . وأما قوله : ( وطهرهم تطهيرا ) فهو سؤال مطلق بما يسمى طهارة . وبعض الناس يزعم أن هذا مطلق فيكتفي فيه بفرد من أفراد الطهارة . ويقول مثل ذلك في قوله : { فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] ونحو ذلك . والتحقيق أنه أمر بمسمى الاعتبار الذي يقال عند الإطلاق . كما إذا قيل : أكرم هذا ، أي : افعل معه ما يسمى عند الإطلاق إكراماً . وكذلك ما يسمى عند الإطلاق اعتباراً . والإنسان لا يسمى معتبراً إذا اعتبر في قصةٍ ، وترك ذلك في نظيرها . وكذلك لا يقال : ( هو طاهر ) أو ( متطهر ) أو ( مطهر ) إذا كان متطهراً من شيء ، متنجساً بنظيره . ولفظ ( الطاهر ) كلفظ ( الطيب ) قال تعالى : { وَٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ } [ النور : 26 ] كما قال : { ٱلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ } [ النور : 26 ] وقد روي أنه قال لعمار : " ائذنوا له . مرحبا بالطيب المطيب " وهذا أيضاً كلفظ ( المتقي ) و ( المزكي ) قال تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 - 10 ] ، وقال : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] ، وقال : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ } [ الأعلى : 14 ] ، وقال : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } [ النور : 21 ] وليس من شرط المتقين ونحوهم أن لا يقع منهم ذنب ، ولا أن يكونوا معصومين من الخطأ والذنوب . فإن هذا ، لو كان كذلك ، لم يكن في الأمة متَّق ، بل من تاب من ذنوبه دخل في المتقين . كما قال : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَـٰتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } [ النساء : 31 ] فدعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلم بأن يطهرهم تطهيراً ، كدعائه بأن يزكيهم ويطييهم ويجعلهم متقين ، ونحو ذلك ومعلوم أن من استقرّ أمره على ذلك ، فهو داخل في هذا . لا تكون الطهارة التي دعا بها لهم بأعظم مما دعا به لنفسه . وقد قال : " اللهم ! طهرني من خطاياي بالثلج والبرَد والماء البارد " فمن وقع ذنبه مغفوراً أو مكفراً ، فقط طهره الله منه تطهيراً . ولكن من مات متوسخاً بذنوبه ، فإنه لم يطهر منها في حياته . وقد يكون من تمام تطهيرهم صيانتهم عن الصدقة التي هي أوساخ الناس . والنبيّ صلّى الله عليه وسلم ، إذا دعا بدعاء ، أجابه الله بحسب استعداد المحل . فإذا استغفر للمؤمنين والمؤمنات ، لم يلزم أن لا يوجد مؤمن مذنب ، فإن هذا ، لو كان واقعاً ، لما عُذِّبَ مؤمن ، لا في الدنيا ولا في الآخرة . بل يغفر الله لهذا بالتوبة ، ولهذا بالحسنات الماحية . ويغفر الله لهذا ذنوباً كثيرة ، وإن واحدة بأخرى ، وبالجملة ، فالتطهير الذي أراده الله والذي دعا به النبي صلّى الله عليه وسلم ، ليس هو العصمة بالاتفاق ، فإن أهل السنة عندهم ، لا معصوم إلا النبي صلّى الله عليه وسلم . والشيعة يقولون : لا معصوم غير النبي صلّى الله عليه وسلم والإمام . فقد وقع الاتفاق على انتقاء العصمة المختصة بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم والإمام عن أزواجه وبناته وغيرهن من النساء ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكون التطهير المدعوّ به للأربعة ، متضمنا للعصمة التي يختص بها النبيّ صلّى الله عليه وسلم ، والإمام عندهم . فلا يكون دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلم له بهذا ، العصمة ، لا لعليّ ولا لغيره . فإنه دعا لأربعة مشتركين ، لم يختص بعضهم بدعوة ، وأيضاً فالدعاء بالعصمة من الذنوب ممتنع على أصل القدرية . بل وبالتطهير أيضاً . فإن الأفعال الاختيارية التي هي فعل الواجبات وترك المحرمات عندهم غير مقدورة للرب . ولا يمكنه أن يجعل العبد مطيعاً ولا عاصياً . ولا متطهراً من الذنوب ولا غير متطهر . فامتنع على أصلهم أن يدعو لأحد بأن يجعله فاعلا للواجبات تاركا للمحرمات . وإنما المقدور عندهم قدرة تصلح للخير والشر . كالسيف الذي يصلح لقتل المسلم والكافر . والمال الذي يمكن إنفاقه في الطاعة والمعصية ، ثم العبد يفعل باختياره ، إما الخير أو الشر بتلك القدرة . وهذا الأصل يبطل حجتهم ، والحديث حجة عليهم في إبطال هذا الأصل ، حيث دعا النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالتطهير . فإن قالوا : المراد بذلك أنه يغفر لهم ولا يؤاخذهم ، كان ذلك أدل على البطلان من دلالته على العصمة . فتبيّن أن الحديث لا حجة لهم فيه بحالٍ على ثبوت العصمة . والعصمةُ مطلقاً التي هي فعل المأمور وترك المحظور ، ليست مقدورة عندهم لله ، ولا يمكنه أن يجعل أحداً فاعلاً لطاعةٍ ولا تاركاً لمعصيةٍ . لا لنبيّ ولا لغيره . ويمتنع عندهم أن من يعلم أنه إذا عاش يطيعه باختيار نفسه ، لا بإعانة الله وهدايته . وهذا مما يبين تناقض قولهم في مسائل العصمة . كما تقدم . ولو قدر ثبوت العصمة ، فقد قدمنا أنه لا يشترط في الإمام العصمة ، والإجماع على انتقاء العصمة في غيرهم . وحينئذ تبطل حجتهم بكل طريق . انتهى .