Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 102-103)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } أي : مع أصحابك شهيداً وأنتم تخافون العدوّ { فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ } أي : أردت أن تقيم بهم الصلاة بالجماعة التي ، لوفور أجرها ، بتحمل مشاقها { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ } في الصلاة ، أي بعد أن جعلتهم طائفتين ، ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدوّ ليحرسوكم منهم ، وإنما لم يصرح به لظهوره { وَلْيَأْخُذُوۤاْ } أي : الطائفة التي قامت معك : { أَسْلِحَتَهُمْ } معهم لأنه أقرب للاحتياط { فَإِذَا سَجَدُواْ } أي : القائمون معك ، سجدتي الركعة الأولى وأتموا الركعة ، فارقوك وأتموا صلاتهم ، وتقوم إلى الثانية منتظراً ، فإذا فرغوا { فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } أي : فلينصرفوا إلى مقابلة العدوّ للحراسة { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ } وهي الطائفة الواقعة تجاه العدوّ { فَلْيُصَلُّواْ } ركعتهم الأولى { مَعَكَ } وأنت في الثانية فإذا جلست منتظراً ، قاموا إلى ثانيتهم وأتموها ثم جلسوا ليسلموا معك ، ولم يبين في الآية الكريمة حال الركعة الرابعة الباقية لكل من الطائفتين اكتفاء ببيانه صلى الله عليه وسلم لهم ، كما يأتي { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ } أي : تيقظهم ، لأن العدوّ يتوهمون في الأولى كون المسلمين قائمين في الحرب ، فإذا قاموا إلى الثانية ظهر لهم أنهم في الصلاة فههنا ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم ، فلذا خص هذا الموضع بزيادة تحذير فقال : { وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ } وجعله كالآلة ، فأمر بأخذه وعطف عليه { وَأَسْلِحَتَهُمْ } قال الواحديّ : فيه رخصة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة ، قال أبو السعود : وتكليف كل من الطائفتين بما ذكر ، لما أن الاشتغال بالصلاة مظنة لإلقاء السلاح والإعراض عن غيرها ، ومئنة لهجوم العدو ، كما ينطق به قوله تعالى : { وَدَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي : تمنوا { لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ } فتضعونها { وَأَمْتِعَتِكُمْ } أي : حوائجكم التي بها بلاغكم { فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً } أي : يحملون حملة واحدة فيقتلوكم ، فهذا علة الأمر بأخذ السلاح ، والأمر بذلك للوجوب ، لقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أي : لا حرج ولا إثم عليكم { إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ } يثقل معه حمل السلاح { أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ } يثقل عليكم حمله { أَن تَضَعُوۤاْ أَسْلِحَتَكُمْ } أخرج البخاريّ عن ابن عباس قال : نزلت : { إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَىۤ } ، في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً ، ثم أمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياط ، فقيل : { وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } لئلا يهجم عليكم العدوّ غيلة { إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } أي : يهانون به ، ويقال : شديداً ، قال أبو السعود : هذا تعليل للأمر بأخذ الحذر ، أي : أعدّ لهم عذاباً مهيناً ، بأن يخذلهم وينصركم عليهم ، فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب كي يحل بهم عذابه بأيديكم ، وقيل : لما كان الأمر بالحذر من العدو موهماً لتوقع غلبته واعتزازه ، نفى ذلك الإيهام بأن الله تعالى ينصرهم ويهين عدوّهم لتقوى قلوبهم . { فَإِذَا قَضَيْتُمُ } أي : أتممتم { ٱلصَّلَٰوةَ } أي : صلاة الخوف ، على ما فصّل { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ } أي : فداوموا على ذكره تعالى في جميع الأحوال ، فإن ما أنتم عليه من الخوف والحذر مع العدوّ جدير بالمواظبة على ذكر الله والتضرع إليه ، قاله الرازيّ . وقال ابن كثير : أمر تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف ، وإن كان مشروعاً مرغباً فيه أيضاً بغد غيرها ، ولكن هنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها ، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب ، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها كما قال تعالى ( في الأشهر الأحرم ) : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [ التوبة : 36 ] ، وإن كان هذا منهياً عنه في غيرها ، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها . { فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ } أي : سكنت قلوبكم بالأمن : { فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } أي : على الحالة التي كنتم تعرفونها ، فلا تغيرا شيئاً من هيآتها { إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَٰباً مَّوْقُوتاً } أي : فرضاً موقتاً ، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها وإن لزمها نقائص في رعايتها . فصل في أحكام تتعلق بهذه الآية : الأول : في هذه الآية مشروعية صلاة الخوف وصفتها ، وأنه لا يجب قضاؤها ، وأنه يطلب فيها حمل السلاح إلا لعذر . الثاني : تَعَلَّقَ بظاهر قوله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } مَنْ لم ير صلاة الخوف بعده صلى الله عليه وسلم زاعماً أنها خاصة بعهده صلى الله عليه وسلم ، لاشتراطه كونه فيهم ، ولا يخفى أن الأئمة بعده نوّابه قوّام بما كان يقوم به ، فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له صلى الله عليه وسلم ، كما في قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم ، وقد روى أبو داود والنسائي والحاكم وابن أبي شيبة وغيرهم ، عن سعيد بن العاص أنه قال ( في غزوة ومعه حذيفة ) : أيكم شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا ، فأمرهم حذيفة فلبسوا السلاح ثم قال : إن هاجكم هيج فقد حل لكم القتال ، فصلى بإحدى الطائفتين ركعة ، والأخرى مواجهة العدو ثم انصرف هؤلاء ، فقاموا مقام أولئك ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ، ثم سلم عليهم ، وكانت الغزوة بطبرستان ، قال بعضهم : وكان ذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم ، فلم ينكره أحد ، فحل محلّ الإجماع . وروى أبو داود أن عبد الرحمن بن سمرة صلى ، بكابل ، صلاة الخوف . الثالث : روى الإمام أحمد وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وأبو داود والنسائي وغيرهم ( في نزول الآية عن ابن عباس رضي الله عنه ) قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، فاستقبلنا المشركون ، عليهم خالد بن الوليد ، وهم بيننا وبين القبلة ، فصلى بنا النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهر ، فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ، ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم ، فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ . … } فحضرت الصلاة ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخذ السلاح ، فصفنا خلفه صفين ، ثم ركع فركعنا جميعاً ، ثم رفع فرفعنا جميعاً ، ثم سجد النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا ، جلس الآخرون ، فسجدوا في مكانهم . ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء . ثم ركع فركعوا جميعاً . ثم رفع فرفعوا جميعاً . ثم سجد النبيّ صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم . فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا . ثم سلم عليهم . وروى عبد الرزاق عن الثوريّ عن هشام ، مثل هذا ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه قال : نكص الصف المقدم القهقرى حين يرفعون رؤوسهم من السجود ، ويتقدم الصف المؤخر فيسجدون في مصاف الأولين . وروى عبد الرزاق وابن المنذر وابن جرير عن ابن أبي نجيح قال : قال مجاهد ( في قوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } ) : نزلت يوم كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعسفان والمشركون بضجنان فتواقفوا ، فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربعاً ، ركوعهم وسجودهم وقيامهم معاً جميعهم ، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم ويقاتلوهم ، فأنزل الله عليهم : { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ } فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم العصر وصف أصحابه صفين وكبر بهم جميعاً فسجد الأولون بسجوده والآخرون قيام لم يسجدوا ، حتى قام النبيّ صلى الله عليه وسلم والصف الأول ، ثم كبر بهم وركعوا جميعاً ، فقدموا الصف الآخر واستأخروا ، فتعاقبوا السجود كما فعلوه أول مرة ، وقصر النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ركعتين ، وفي هذه الأحاديث أن صلاة الطائفتين مع الإمام جميعاً ، واشتراكهم في الحراسة ، ومتابعته في جميع أركان الصلاة إلا السجود ، فتسجد معه طائفة وتنتظر الأخرى حتى تفرغ الطائفة الأولى ، ثم تسجد ، وإذا فرغوا من الركعة الأولى تقدمت الطائفة المتأخرة مكان الطائفة المتقدمة ، وتأخرت المتقدمة ، ( فإن قلت ) : لا ينطبق ما في الآية على هذه الروايات التي حكت سبب نزولها ، وذلك لأنه قيل في الآية : { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَىٰ لَمْ يُصَلُّواْ } الآية ، وفي هذه الروايات أنهم قاموا جميعاً معه صلى الله عليه وسلم في الصلاة ، وإنما ينطبق ما فيها على ما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهة العدوّ ، ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم مقبلين على العدوّ ، وجاء أولئك ، ثم صلى بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم ، ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة . وما روياه عن صالح بن خَوّات عمن صلى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع ؛ أن الطائفة صف معه وطائفة وجاه العدوّ ، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً ، فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدوّ ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ، فأتموا لأنفسهم فسلم بهم . ( قلت ) : بمراجعة ما أسلفناه في المقدمة من قاعدة سبب النزول يندفع الإشكال ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ضجنان وعسفان فقال المشركون : لِهَؤُلاَء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم ، وهي العصر ، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلة واحدة ، وأن جبريل عليه السلام أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمره أن يقسم أصحابه شطرين ، فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم ، وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ، فتكون لهم ركعة وللنبيّ صلى الله عليه وسلم ركعتان ، أخرجه أصحاب السنن . ثم رأيت القرطبيّ بحث في ( تفسيره ) نحو ما سبق لي حيث قال : وما ذكرناه من سبب النزول في قصة خالد بن الوليد ، لا يلائم تفريق القوم إلى طائفتين ، ثم قال ( بعد رواية حديث أبي هريرة المذكور ) قلت : ولا تعارض بين هذه الروايات ، فلعله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة أخرى مفترقين . انتهى . الرابع : ظاهر الآية الكريمة الترخيص لكل طائفة بركعة واحدة ، لأنه لم يبين فيها حال الركعة الباقية ، وقد روى النسائيّ عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قَرَد فصف الناس خلفه صفين : صفاً خلفه وصفاً موازي العدوّ ، فصلى بالذين خلفه ركعة ، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ولم يقضوا ركعة . وكذا روى أبو داود والنسائيّ أيضاً عن حذيفة أنه صلى بطبرستان بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا . وروى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : فرض الله الصلاة على نبيّكم صلى الله عليه وسلم ، في الحضر ، أربعاً ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، فهذه الأحاديث تدل على أن من صفة صلاة الخوف ، الاقتصار على ركعة لكل طائفة . قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف ، يقول الثوري وإسحاق ومن تبعهما ، وقال به أبو هريرة وأبو موسى الأشعريّ وغير واحد من التابعين ، ومنهم من قيد بشدة الخوف . وقال الجمهور : قصر الخوف قصر هيئة لا قصر عدد ، وتأولوا هذه الأحاديث بأن المراد بها ركعة من الإمام وليس فيها نفي الثانية ، ويرد ذلك قوله في حديث ابن عباس وحذيفة : ( ولم يقضوا ركعة ) وكذا قوله في حديث ابن عباس الثاني : ( وفي الخوف ركعة ) وأما تأويلهم قوله : ( لم يقضوا ) بأن المراد منه لم يعيدوا الصلاة بعد الأمن - فبعيد جداً ، كذا في ( نيل الأوطار ) نعم . وقع في حديث ابن عمر المتفق عليه وقد قدمناه : ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة ، وعند أبي داود من حديث ابن مسعود : ثم سلم ، وقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا ذم ذهبوا ، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ، وبالتحقيق ، كل ما روي هو من صورها الجائزة ، ولما ذكر الإمام ابن القيّم في ( زاد المعاد ) هديه صلى الله عليه وسلم في أدائها ، قال في آخر صورة : وتارة كان يصلي بإحدى الطائفتين ركعة فتذهب ولا تقضي شيئاً ، وتجيء الأخرى فيصلي بهم ركعة ولا تقضي شيئاً ، فيكون له صلى الله عليه وسلم ركعتان ، ولهم ركعة ركعة ، وهذه الأوجه كلها يجوز الصلاة بها . قال الإمام أحمد : كل حديث يروى في باب صلاة الخوف فالعمل به جائز . انتهى . وقال ابن كثير : صلاة الخوف أنواع كثيرة ، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة ، وتارة يكون في غير صوبها ، ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة ، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ورجالاً وركباناً ، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ، ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة ، ومن العلماء من قال : يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم ، وبه قال أحمد بن حنبل . قال المنذريّ : وبه قال عطاء وجابر والحسن ومجاهد والحكم وقتادة وحماد ، وإليه ذهب طاوس والضحاك ، وقد حكى أبو عاصم العباديّ عن محمد بن نصر المروزيّ أنه يرى ردّ الصبح إلى ركعة في الخوف ، وإليه ذهب ابن حزم أيضاً ، وقال إسحاق بن راهويه : أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومئ بها إيماء ، فإن لم تقدر فسجدة واحدة ، لأنها ذكر الله ، وقال آخرون : يكفي تكبيرة واحدة ، فلعله أراد ركعة واحدة ، كما قاله الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه ، وبه قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وكعب وغير واحد من الصحابة والسدّيّ ، ورواه ابن جرير ، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة ، كما هو مذهب إسحاق بن راهويه ، وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكيّ حتى قال : فإن لم يقدر على التكبيرة فلا يتركها في نفسه ، يعني بالنية ، رواه سعيد بن منصور في ( سننه ) عن إسماعيل بن عياش عن شعيب بن دينار عنه ، فالله أعلم ، ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة ، كما أخر النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب الظهر والعصر ، فصلاهما بعد الغروب ، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء ، وكما قال بعدها ، يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش : " لا يصلين أحد منكم العصر إلا في قريظة " ، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق ، فقال منهم قائلون : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل المسير ، ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها . فصلَّوا الصلاة لوقتها في الطريق . وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ، ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً من الفريقين ، فاحتج في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة ، اليهود . وأما الجمهور فقالوا : هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد ، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك ، وهذا أبين في حديث أبي سعيد الخدريّ الذي رواه الشافعيّ رحمه الله وأهل السنن ، ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاريّ في ( صحيحه ) حيث قال ( باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدوّ ) وقال الأوزاعيّ : إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماءً ، كل امرئ لنفسه ، فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين ، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين ، فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا ، وبه قال مكحول ، وقال أنس بن مالك : حضرت عند مناهضة حصن تُستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة ، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار ، فصليناها ونحن مع أبي موسى ، ففُتِحَ لنا ، وقال أنس : وما يسرني ، بتلك الصلاة ، الدنيا وما فيها . انتهى . ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ثم بحديث أمره إياهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة وكأنه كالمختار لذلك ، والله أعلم . ولمن جنح له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر غالباً ، وكان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب ، ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة ، والله أعلم ، قال هؤلاء : وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق لأن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي ، وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة والواقديّ ومحمد بن سعد ، كاتبه وخليفة بن الخياط وغيرهم . وقال البخاريّ وغيره : كانت ذات الرقاع بعد الخندق ، لحديث أبي موسى ، وما قدم إلا في خيبر ، والله أعلم . الحكم الخامس : استدل بقوله تعالى : { طَآئِفَةٌ } على أنه لا يشترط استواء الفريقين في العدد ، لكن لا بد أن تكون التي تحرس تحصل الثقة بها في ذلك . قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد ، فلو كانوا ثلاثة ووقع لهم الخوف ، جاز لأحدهم أن يصلي بواحد . ويحرس واحد ثم يصلي الآخر ، وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة . السادس : استدل بالآية على عظم أمر الجماعة بل على ترجيح القول بموجبها ، لارتكاب أمور كثيرة لا تغتفر في غيرها ، ولو صلى كل امرئ منفرداً لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك ، أفاده الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) . قال ابن كثير : وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة ، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة ، فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك . السابع : قال بعض المفسرين : اختلف في المأمور بأخذ السلاح في قوله تعالى : { وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ } فقيل : هم الطائفة الذين يواجهون العدوّ ، وهذا ظاهر ، وقيل : بل هم الطائفة المصلون ، وأراد ما لا يشغل عن الصلاة من الدرع والخنجر والسيف ونحو ذلك ، وقيل : للطائفتين ، وهو قول القاسم . انتهى . قال الناصر في ( الانتصاف ) : والظاهر أن المخاطب يأخذ الأسلحة المصلون ، إذ من لم يصل إنما أعد للحرس ، فالظاهر الاستغناء عن أمرهم بذلك وتنبيههم عليه ، وهم إنما أخروا الصلاة لذلك ، أما المصلون فهم في مظنة طرح الأسلحة لأنهم لم يعتادوا حملها في الصلاة ، فنبهوا على أنهم لا ينبغي لهم طرح الأسلحة وإن كانوا في الصلاة ، لضرورة الخوف وخشية الغرة ، وأيضاً فصنيع الآية يعطي ذلك ، لأنه قال : { فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ } وعقب ذلك بقوله : { وَلْيَأْخُذُوۤاْ أَسْلِحَتَهُمْ } فالظاهر رجوع الضمير إليهم ، وحيث يعاد إلى غي المصلين يحتاج إلى تكلف في صحة العود إليهم ، بدلالة قوة الكلام عليهم ، وإن لم يذكروا ، وناقش الناصر أيضاً الزمخشريّ في جعله المراد بقوله تعالى : { فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ } غير المصلين ، فقال : الظاهر أن معنى السجود ههنا الصلاة ، وقد عبر عنها بالسجود كثيراً ، والمراد : فإذا صلت الطائفة ، ( أي أتمت صلاتها ) فليكونوا من ورائكم . انتهى . الثامن : قال أبو علي الجرجانيّ صاحب النظم : قوله تعالى : { وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } يدل على أنه كان يجوز للنبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذراً ، غير غافل من كيد العدوّ ، والذي نزل به القرآن في هذا الموضع هو وجه الحذر ، لأن العدوّ يومئذ بذات الرقاع كان مستقبل القبلة ، فالمسلمون كانوا مستدبرين القبلة ، ومتى استقبلوا القبلة صاروا مستدبرين لعدوّهم ، فلا جرم ، أمروا بأن يصيروا طائفتين : طائفة في وجه العدوّ ، وطائفة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة ، وأما حين كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعسفان وببطن نخل ، فإنه لم يفرق أصحابه طائفتين ، وذلك لأن العدو كان مستدبر القبلة ، والمسلمون كانوا مستقبلين لها ، فكانوا يرون العدوّ حال كونهم في الصلاة ، فلم يحتاجوا إلى الاحتراس إلا عند السجود ، فلا جرم ، لما سجد الصف الأول بقي الصف الثاني يحرسونهم ، فلما فرغوا من السجود ، وقاموا ، تأخروا وتقدم الصف الثاني وسجدوا ، وكان الصف الأول حال قيامهم يحرسون الصف الثاني ، فثبت بما ذكرنا أن قوله تعالى : { وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } يدل على جواز كل هذه الوجوه ، والذي يدل على أن المراد من هذه الآية ما ذكرناه ، أنا لو لم نحملها على هذا الوجه لصار تكراراً محضاً من غير فائدة ، ولوقع فعل الرسول بعسفان وببطن نخل على خلاف نص القرآن ، وإنه غير جائز ، نقله الرازيّ . وقال الخطابي : صلاة الخوف أنواع صلاها النبيّ صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة ، يتحرى في ذلك كله ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة ، فهي مع اختلاف صورها متفقة المعنى . انتهى . وأنواعها مبينة في شروح السنة . ثم حثهم تعالى على الجهاد بقوله : { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ … } .