Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 101-101)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } أي : سافرتم { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي : إثم { أَن تَقْصُرُواْ } أي : تنقصوا شيئاً { مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ } أي : يقاتلكم { ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } في الصلاة { إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } ظاهر العداوة ، فلا يراعون حرمة الصلاة لعدواتهم . تنبيه في مسائل تتعلق بالآية الأولى : ذهب الجمهور إلى أن الآية عني بها تشريع صلاة السفر ، وإن معنى قوله تعالى : { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ } هو قصر الكمية ، وذلك بأن تجعل الرباعية ثنائية ، قالوا : وحكمها للمسافر في حال الأمن كحكمها في حال الخوف لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقاً . روى الترمذي والنسائي وابن أبي شيبة عن ابن عباس . أن النبي صلى الله عليه وسلم : خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا الله رب العالمين ، فصلى ركعتين . وروى البخاري وبقية الجماعة عن حارثة بن وهب قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان ، بمنى ركعتين . وروى البخاري والبقية عن أنس قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ، قلت : أقمتم بمكة شيئاً ؟ قال : أقمنا بها عشراً . وحينئذ فقوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ } خرج مخرج الغالب ، حال نزول الآية . إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة ، بل ما كانوا ينهضون لا إلى غزو عامّ ، أو سرية خاصة ، وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله ، والمنطوق ، إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له كقوله : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [ النور : 33 ] وكقوله تعالى : { وَرَبَائِبُكُمُ ٱلَّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ … } [ النساء : 23 ] الآية . قالوا : ويدل على أن المراد بالآية صلاة السفر ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال سألت عمر بن الخطاب ، قلت له : قوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } … وقد أمن الناس ؟ فقال لي عمر رضي الله عنه : عجبتُ مما عجبتَ منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " . وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي حنظلة الحذاء قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ؟ فقال : ركعتان ، فقلت : أين قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } - ونحن آمنون فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروى ابن مردويه عن أبي الوداك قال : سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر ؟ فقال : هي رخصة نزلت من السماء ، فإن شئتم فردوها . قالوا : فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات ، وإن ذلك كان مفهوماً عندهم عن معنى الآية ، قالوا : ومما يدل على أن لفظ ( القصر ) كان مخصوصاً في عرفهم بنقص عدد الركعات ، ولهذا المعنى ، لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ركعتين ، قال له ذو اليدين : أقصرت الصلاة أم نسيت ؟ هذا ، وذهب كثير من السلف ، منهم مجاهد والضحاك والسدي ، إلى أن هذه الآية نزلت في صلاة الخوف ، وأن المعني بالقصر هو قصر الكيفية لا الكمية ، لأن عندهم كمية صلاة المسافر ركعتان ، فهي تمام غير قصر ، كما قاله عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم ، قالوا : ولهذا قال تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } وقال تعالى بعدها : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ … } [ النساء : 102 ] الآية ، فبين المقصود من القصر ههنا ، وذكر صفته وكيفيته ، ولهذا لما عقد البخاري ( كتاب صلاة الخوف ) صدّره بقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ } إلى قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } [ النساء : 102 ] وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ } قال : ذاك عند القتال ، يصلي الراجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه . وقال أسباط عن السديّ ، في هذه الآية : إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام التقصير ، لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة ، فالتقصير ركعة . وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ } ، يوم كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان ، والمشركون بضجنان فتوافقوا ، فصلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات ، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معاً جميعاً ، فهم بهم المشركون أن يُغيروا على أمتعتهم وأثقالهم ، روى ذلك أبن أبي حاتم . ورواه ابن جرير عن مجاهد والسديّ ، وعن جابر وابن عمر ، واختار ذلك أيضاً ، فإنه قال ، بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك : وهو الصواب ، ثم روي عن أمية أنه قال لعبد الله بن عمر : إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر : فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به ، فقد سمى صلاة الخوف مقصورة ، وحمل الآية عليها ، لا على قصر صلاة المسافر ، وأقره ابن عمر على ذلك ، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع ، لا بنص القرآن ، وأصرح من هذا ما رواه أيضاً عن سماك الحنفي قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ؟ فقال : ركعتان تمام غير قصر ، إنما القصر في صلاة المخافة ، فقلت : وما صلاة المخافة ؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة . هذا ما نقله ابن كثير ، وهو موافق لما نقله بعض مفسري الزيدية عن الهادوية والقاسمية ؛ أن الآية واردة في صلاة الخوف ، وأن المراد بالقصر في الآية : قصر الصفة ، بمعنى أن المأموم يقصر ائتمامه فيأتم بركعة ، ويصلي منفرداً في ركعة . انتهى . قال العلامة أبو السعود : إن هذه الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته ، وفي حق ما يتعلق به من الصلوات ، وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر ، فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من القصر في حال الأمن ، وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف ، وبالضرب في المدة المعينة - بيان لإجمال الكتاب . المسألة الثانية : إذا حمل القصر على قصر العدد ، وأن الرباعية تكون ركعتين ، فما حكم هذا القصر ؟ قلنا : في هذا مذاهب أربعة : الأول : أن القصر رخصة والإتمام أفضل . الثاني : أنه حَتْمٌ ، الثالث : أنه سنة غير حتم . الرابع : أنه مخير كما يخير في الكفارات ، وأنهما ، أعني القصر والإتمام واجبان . وهاك بيان متعلق هذه المذاهب : تعلق أهل القوم الأول بقوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ } . وهذه الكلمة تستعمل فيما هو مباح جائز ، لا فيما هو فرض ، نحو : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ } [ البقرة : 230 ] و : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } [ البقرة : 236 ] . و { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ } [ البقرة : 229 ] ، إن قيل : قد يستعمل ذلك في الواجب مثل : { فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] ، أجابوا بأن ذلك على سبيل المجاز . ومن جهة السنة ، ما روي عن عائشة قالت : " اعتمرت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة ، قلت : يا رسول الله ؟ بأبي وأمي أنت ! قصرت وأتممت وصمت وأفطرت . فقال : " أحسنت يا عائشة ! " . وما عاب عليّ . وكان عثمان يقصر ويتم " . ومن جهة المعنى ، أو المعقول والمفهوم من لفظ ( القصر ) إنما هو الرخصة لأجل مشقة المسافر ، كما خص له في الإفطار ، وفي الحديث : " تلك صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " تعلق أهل المذهب الثاني بأن قالوا : حملنا لفظ الجناح على الفرض ، وإن كان مجازاً ، لما روي عن ابن عباس قال : فرضت الصلاة في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين . وعن عمر : صلاة الجمعة ركعتان وصلاة السفر ركعتان ، تمام غير قصر ، على لسان نبيكم ، وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره ركعتين ، وأقام بمكة ثمانية عشر يوماً يقصر ويقول : " أتموا ، يا أهل مكة ! فإنا قوم سفر " وعن الشعبي : من أتم في السفر فقد رغب عن ملة إبراهيم . وروي أن عثمان أتم الصلاة بمنى ، فأنكر عليه عبد الله بن مسعود ، وقال : صليتُ خلف رسول لله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، وخلف أبا بكر ركعتين ، منفصلتين ، فاعتذر عثمان بضروب من الأعذار ، منها أنه قد تأهل ، وقيل : أتم لأن مذهبه أن القصر لمن لم يكن له زاد ولا راحلة ، وهو مذهب سعد بن أبي وقاص ، فيكون قولنا : قصرت الصلاة ، مجازا ، لأنها تامة إذا نقص من الأربع ، ويقولون : هذه الأخبار تعارض ما يفهم من معقولية التسهيل ومتعلق أهل القول الثالث والرابع بالجمع بين الروايات ، وسائر الوجوه التي تعلق بها أهل القولين الأولين ، فكان واجباً مخيراً ، ومن قال : إنه سنة فلأن المشهور عنه صلى الله عليه وسلم في القصر في الأسفار ، كذا في تفسير بعض الزيدية . أقول : حديث عائشة المذكور ، رواه النسائيّ والدارقطنيّ والبيهقيّ ، واختلف قول الدارقطنيّ فيه ، فقال في ( السنن ) : إسناده حسن ، وقال في ( العلل ) : المرسل أشبه ، وقال ابن حزم : هذا حديث لا خير فيه ، وطعن فيه ، وقال ابن النحويّ ( في البدر المنير ) : في متن هذا الحديث نكارة ، وهو كون عائشة خرجت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في عمرة رمضان ، والمشهور أن عمره كلهن في ذي القعدة ، وأطال في ذلك . وقال الإمام ابن القيّم في ( زاد المعاد ) : وكان صلى الله عليه وسلم يقصر الرباعية ، فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافراً إلى أن يرجع إلى المدينة ، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة ، وأما حديث عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ، ويفطر ويصوم ، فلا يصح ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى . وقد روي ( كان يقصر وتتم ) الأول بالياء آخر الحروف ، والثاني بالتاء المثناة من فوق ، وكذلك ( يفطر وتصوم ) أي : تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين . قال شيخنا ابن تيمية : وهذا باطل . ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه ، فتصلي خلاف صلاتهم ، كيف ؟ والصحيح عنها ؛ أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيدت في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ، فكيف يظن بها ؛ مع ذلك ، أن تصلي بخلاف صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه ؟ . ثم قال ابن القيّم : قلت : وقد أتمت عائشة بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قال ابن عباس وغيره : إنها تأولت كما تأول عثمان ، وإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقصر دائماً ، فركب بعض الرواة من الحديثين حديثاً وقال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر وتتم هي ، فغلط في بعض الرواة فقال : كان يقصر ويتم ، أي : هو ، والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه ، فقيل : ظنت أن القصر مشروط بالخوف والسفر ، فإذا زال سبب الخوف زال سبب القصر ، وهذا التأويل غير صحيح ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم سافر آمناً ، وكان يقصر الصلاة ، والآية قد أشكلت على عمر رضي الله عنه وغيره ، فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه بالشفاء ، وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة ، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد ، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف ، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم ، أو رفع له ، وقد يقال : إن الآية اقتضت قصراً يتناول الأركان بالتخفيف ، وقصر العدد بنقصان ركعتين ، وقيد ذلك بأمرين : الضرب في الأرض والخوف ، فإذا وجد الأمران ، أبيح القصر ، فيصلون صلاة تامة كاملة ، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده ، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفي العدد ، وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية ، فإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفى الأركان ، وسميت صلاة أمن وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق . وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة ، باعتبار نقصان العدد ، وقد تسمى تامة ، باعتبار إتمام أركانها ، وأنها لم تدخل في قصر الآية ، والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين ، والثاني يدل عليه كلام الصحابة ، كعائشة وابن عباس وغيرهما . قالت عائشة : فرضت الصلاة ركعتين ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ، فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع ، وإنما هي مفروضة كذلك ، وأن فرض المسافر ركعتان . وقال ابن عباس : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، متفق على حديث عائشة ، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس . وقال عمر بن الخطاب : صلاة السفر ركعتان ، والجمعة ركعتان ، والعيد ركعتان ، تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد خاب من افترى ، وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه ، وهو الذي سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم : ما بالنا نقصر وقد أمنّا ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته " ، ولا تناقضَ بين حديثيه ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ، ودينه اليسر السمح ، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد ، كما فهمه كثير من الناس ، فقال : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر ، وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح ، منفيّ عنه الجناح ، فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب في سفره على ركعتين ركعتين ولم يربع قط إلا شيئاً فعله في بعض صلاة الخوف ، كما سنذكره هناك ، ونبيّن ما فيه إن شاء الله تعالى ، وقال أنس : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، وكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ، متفق عليه . ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات ، قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان . متفق عليه ، ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما ، بلى الأولى على قول وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبيّ صلى الله عليه وسلم وخلفائه على ركعتين . وفي صحيح البخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنه قال : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان في السفر لا يزيد على ركعتين ، وأبا بكر وعمر وعثمان ( يعني في صدر خلافة عثمان ) ، وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته ، وكان ذلك أحد الأسباب التي نكرت عليه ، وقد خرج لفعله تأويلات : أحدها - أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة ، فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع ، لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر ، ورد هذا التأويل : بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكانوا حديثي عهد بالإسلام ، والعهد بالصلاة قريب ، ومع هذا فلم يربع بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم . الثاني : أنه كان إماماً للناس ، والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته . فكأنه وطنه : وردّ هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان هو أولى بذلك ، وكان هو الإمام المطلق ولم يربّع . التأويل الثالث : أن منى كانت قد بنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده ، ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كانت فضاء ، ولهذا قيل له : يا رسول الله ! ألا تبني لك بمنى بيتا يظلك من الحر ؟ فقال : " لا ، منى مناخ من سبق " ، فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر ، ورد هذا التأويل بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشراً يقصر الصلاة . التأويل الرابع : أنه أقام بها ثلاثا ، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثاً " ، فسماه مقيماً ، والمقيم غير مسافر ، ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيّدة في أثناء السفر ، ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر ، وقد أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشراً يقصر الصلاة ، وأقام بمنى بعد نسكه ، أيام الجمار الثلاث ، يقصر الصلاة . التأويل الخامس : أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى ، واتخاذها دار الخلافة ، فلهذا أتم ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة ، وهذا التأويل أيضاً مما لا يقوى ، فإن عثمان رضي الله عنه من المهاجرين الأولين ، وقد منع صلى الله عليه وسلم المهاجر من الإقامة بمكة بعد نسكه ، ورخص له ثلاثة أيام فقط ، فلم يكن عثمان ليقيم بها وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ، وإنما رخص فيها ثلاثاً ، وذلك لأنهم تركوها لله ، وما ترك لله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع ، ولهذا منع النبيّ صلى الله عليه وسلم من شراء المتصدق لصدقته ، وقال لعمر : " لا تشترها ولا تعد في صدقتك " ، فجعله عائداً في صدقته مع أخذها بالثمن . التأويل السادس : أنه كان قد تأهل بمنى ، والمسافر إذا قام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة ، أتم ، ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فروى عكرمة عن إبراهيم الأزدي عن أبي ذباب عن أبيه قال : صلى عثمان بأهل منى أربعاً وقال : يا أيها الناس ! لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم " رواه الإمام أحمد في ( مسنده ) وعبد الله بن الزبير الحميديّ في ( مسنده ) أيضاً ، وقد أعله البيهقي بانقطاعه وتضعيف عكرمة . قال أبو البركات ابن تيمية : ويمكن المطالبة بسبب الضعف ، فإن البخاريّ ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه ، وعادته ذكر الجرح والمجروحين ، وقد نص أحمد ، وابن عباس قبله ، أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام ، وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما ، وهذا أحسن من اعتذر به عن عثمان ، وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين ، فحيث نزلت فكان وطنها ، وهو أيضاً اعتذار ضعيف ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين ، وأمومة أزواجه فرع على أبوته ، ولم يكن يتم لهذا السبب ، وقد روى هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعاً ، فقلت لها : لو صليت ركعتين ؟ فقالت : يا ابن أختي ! لا يشق عليّ . قال الشافعيّ رحمه الله : لو كان فرض المسافر ركعتين ، لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود ، ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم ، وقد قالت عائشة : كل ذلك قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتم وقصر ، ثم روي عن إبراهيم عن محمد عن طلحة بن عمر عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت : كل ذلك فعل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قصر الصلاة في السفر ، وأتم . قال البيهقيّ : وكذلك رواه المغيرة عن زياد عن عطاء ، وأصحّ إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحازميّ عن الدارقطنيّ عن المحامليّ : حدثنا سعيد بن محمد بن أيوب ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء ، عن عائشة ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة في السفر ويتم ، ويفطر ويصوم ، قال الدارقطنيّ : وهذا إسناد صحيح ، ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوريّ عن عباس الدوريّ : أنا أبو نعيم ، حدثنا العلاء بن زهير ، حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة ، أنها اعتمرت مع النبيّ صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، حتى إذا قدمت مكة قالت : يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي ! قصرتَ وأتممتُ وصمتُ وأفطرتَ ، قال : " أحسنت ، يا عائشة ! " . وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : هذا الحديث كذب على عائشة ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة ، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم وحدها بلا موجب ، كيف وهي القائلة : فرضت الصلاة ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر ، فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله ؟ وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؟ قال الزهريّ لعروة ، ( لما حدثه عن أبيه عنها بذلك ) : فما شأنها ؟ كانت تتم الصلاة ، فقالت : تأولت كما تأول عثمان ، فإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها ، فما للتأويل حينئذ وجه ، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير ، وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر ، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون ؟ وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فإنها أتمت ، كما أتم عثمان ، وكلاهما تأول تأويلاً ، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم ، مع مخالفة غيره له ، والله أعلم . وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر : إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ، ولا نجد صلاة السفر في القرآن ، فقال له ابن عمر : يا أخي ! إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً ، فإنما نفعل كما رأينا محمداً صلى الله عليه وسلم يفعل ، وقد قال أنس : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين ، حتى رجعنا إلى المدينة ، وقال ابن عمر : صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين ، وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، وهذه كلها أحاديث صحيحة . انتهى كلام ابن القيّم . قال الإمام الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : وقد استدل ، بحديثي عائشة ، القائلون بأن القصر رخصة ، ويجاب عنهم بأن الحديث الثاني لا حجة لهم فيه ، لما تقدم من أن لفظ ( تتم وتصوم ) بالفوقانية ، لأن فعلها ، على فرض عدم معارضته لقوله وفعله صلى الله عليه وسلم ، لا حجة فيه ، فكيف إذا كان معارضاً للثابت عنه من طريقها وطريق غيرها من الصحابة ؟ وأما الحديث الأول ، فلو كان صحيحاً ، لكان حجة ، لقوله صلى الله عليه وسلم في الجواب عنها : " أحسنت " ، ولكنه لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة ، وهذا بعد تسليم أنه حسن ، كما قال الدارقطنيّ ، فكيف ؟ وقد طعن فيه بتلك المطاعن المتقدمة ، فإنها بمجردها توجب سقوط الاستدلال به عند عدم المعارض . انتهى . المسألة الثالثة : استدل بعموم الآية من جوّز القصر في كل سفر طويلاً أو قصيراً ، ووجهه أن قوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } يصدق على كل ضرب ، ولكنه خرج الضرب أي : المشي لغير السفر ، لما كان يقع منه صلى الله عليه وسلم من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه ، ولا يقصر ، ولم يأت في تعيين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء ، فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفراً لغة وشرعاً ، ومن خرج من بلده قاصداً إلى محل ، يعد في مسيره إليه مسافراً ، قصر الصلاة ، وإن كان ذلك المحل دون البريد ، ولم يأت من اعتبر البريد واليوم واليومين والثلاث وما زاد على ذلك ، بحجة نيرة ، وغاية ما جاؤوا به حديث : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم " وفي رواية : " يوما وليلة " وفي رواية : " بريداً " وليس في هذا الحديث ذكر القصر ولا هو في سياقه ، والاحتجاج به مجرد تخمين ، وأحسن ما ورد في التقدير ما رواه شعبة عن يحيى بن زيد الهنائيّ قال : سألت أنساً عن قصر الصلاة ؟ فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ ، صلى ركعتين ، والشك من شعبة ، أخرجه مسلم وغيره . فإن قلت : محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون محرم ، هو كونه صلى الله عليه وسلم سمى ذلك سفرا ، قلت : تسميته سفرا لا تنافي تسميته ما دونه سفراً ، فقد سمى النبيّ صلى الله عليه وسلم مسافة الثلاث سفرا ، كما سمى مسافة البريد سفرا في ذلك الحديث باعتبار اختلاف الرواية . وتسمية البريد سفرا لا ينافي تسمية ما دونه سفراً ، فإن قلت : أخرج الدارقطنيّ والبيهقيّ والطبرانيّ من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يا أهل مكة ! لا تقصروا في أقل من أربعة برد ، من مكة إلى عسفان " - قلت : هو ضعيف لا تقوم به الحجة ، فإن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر ، وهو متروك ، وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها ، والحاصل أن الواجب هو الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعاً أو لغة ، كذا في ( الروضة الندية ) . وفي ( المصباح ) : سفر الرجل سفرا مثل طلب ، خرج للارتحال . وفي ( القاموس ) : قوم سفر وسافرة وأسفار وسفار : ذوو سفَر ، لضد الحضر . هذا وللقصر مباحث مقررة في شروح السنة . ولما كان النص السابق الوارد في مشروعية القصر مجملاً بَيَّن كيفيته بصورة في مزيد الحاجة إليها ، ويكتفي فيما عداها ببيان السنة ، فقال تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ٱلصَّلَٰوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ … } .