Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 3-3)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ } أي : أن لا تعدلوا { فِي ٱلْيَتَامَىٰ } أي : يتامى النساء . قال الزمخشريّ : ويقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور ، وهو جمع يتيمة ، على القلب ، كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } أي : من طبن لنفوسكم من جهة الجمال والحسن أو العقل أو الصلاح منهن { مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ } ومعنى الآية : وإن خفتم يا أولياء اليتامى ألا تعدلوا فيهن إذا نكحتموهن ، بإساءة العشرة أو بنقص الصداق ، فانكحوا غيرهن من الغريبات فإنهن كثير ولم يضيق الله عليكم . فالآية للتحذير من التورط في الجور عليهن والأمر بالاحتياط ، وإنّ في غيرهن متسعاً إلى الأربع . وروى البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عَذْق ( أي نخلة ) وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء ، فنزلت فيه : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ } أحسبه قال : كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله ، ورواه مسلم وأبو داود والنسائيّ . وفي رواية لهم عن عائشة هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها ، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا عن أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا لهن أعلى سُنّتِهِن في الصداق ، فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن . قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ } [ النساء : 127 ] . قالت عائشة : وقول الله تعالى في آية أخرى : { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } [ النساء : 127 ] ، رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال . قالت : فنهوا أن ينكحوا عن من رغبوا في ماله وجماله في يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن ، إذا كن قليلات المال والجمال . وفي رواية في قوله تعالى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ … } إلى آخر الآية [ النساء : 127 ] إلى آخر الآية . قالت عائشة رضي الله عنها : هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب عنها أن يتزوجها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها ، فنهاهم الله عن ذلك ، زاد أبو داود رحمه الله تعالى : وقال ربيعة في قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ } قال يقول : اتركوهن إن خفتم فقد أحللت لكم أربعاً . { وَءَاتُواْ ٱلنِّسَآءَ صَدُقَٰتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] . لطائف الأولى : ( ما ) في قوله تعالى : { مَا طَابَ لَكُمْ } ، موصولة ، وجاء بـ ( ما ) مكان ( من ) لأنهما قد يتعاقبان ، فيقع كل واحد منهما مكان الآخر ، كما في قوله تعالى : { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] وقوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 5 ] . { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] ، قال بعضهم : وحسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء ، وهن ناقصات العقول . الثانية : في إيثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى ، مع أنه المقصود بالذات ، مزيدُ لطف في استنزالهم عن ذلك ، فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه ، كما أن وصف النساء بالطيب على الوجه الذي أشير إليه ، فيه مبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن ، وكل ذلك للاعتناء بصرفهم عن نكاح اليتامى - أفاده أبو السعود - . الثالثة : اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له ، وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة . الرابعة : مثنى وثلاث ورباع معدولة عن أعداد مكررة ، ومحلهن النصب على أنها حال من فاعل ( طاب ) مؤكدة لما أفاده وصف الطيب من الترغيب فيهن ، والاستمالة إليهن ، بتوسيع دائرة الإذن ، أي : فانكحوا الطيبات لكم ، معدودات هذا العدد ، ثنتين ثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً ، حسبما تريدون . فإن قلت : الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع ، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع ؟ قلت : الخطاب للجميع ، فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له ، كما تقول للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم ، درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، ولو أفردت لم يكن له معنى . فإن قلت : فلم جاء العطف بواو دون ( أو ) ، قلت : كما جاء بالواو في المثال الذي حذوته لك ، ولو ذهبت تقول : اقتسموا هذا المال درهمين درهمين أو ثلاثاً ثلاثاً أو أربعة أربعة ، أعلمتَ أنه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة ، وليس لهم أن يجمعوا بينها ، فيجعلوا بعض القسم على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع ، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو . وتحريره أن الواو دلت على إطلاق أن يأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها من النساء على طريق الجمع إن شاءوا مختلفين في تلك الأعداد ، وإن شاءوا متفقين فيها ، محظوراً عليهم ما وراء ذلك . أفاده الزمخشري . بحث جليل قال الرازي : ذهب قوم سَدّى ( كحتى ، موضع قرب زُبَيد باليمن ا . هـ . قاموس ) إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد ، واحتجوا بالقرآن والخبر . أما القرآن : فقد تمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه : الأول : أن قوله تعالى : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } إطلاق في جميع الأعداد ، بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلاً . والثاني : أن قوله : { مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ } لا يصلح تخصيصاً لذلك العموم ، لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي ، بل نقول : إن ذكر هذه الأعداد يدل على رفع الحرج والحجر مطلقاً فان الإنسان إذا قال لولده : افعل ما شئت ، اذهب إلى السوق وإلى المدينة وإلى البستان ، كان تنصيصاً في تفويض زمام الخيرة إليه مطلقاً ، ورفع الحجر والحرج عنه مطلقاً ، ولا يكون ذلك تخصيصاً للإذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذناً في المذكور وغيره ، فكذا هنا ، وأيضاً فذكر جميع الأعداد متعذر فإذا ذكر بعض الأعداد بعد قوله : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } ، كان ذلك تنبيهاً على حصول الإذن في جميع الأعداد . والثالث : أن الواو للجمع المطلق فقوله : { مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ } ، يفيد حل هذا المجموع وهو يفيد تسعة بل الحق أنه يفيد ثمانية عشر . لأن قوله : مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط ، بل عن اثنين اثنين ، وكذلك القول في البقية . وأما الخبر فمن وجهين : الأول : أنه ثبت بالتواتر : أنه صلى الله عليه وسلم مات عن تسع ، ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه فقال : { فَاتّبِعُوهُ } وأقل مراتب الأمر الإباحة . الثاني : أن سنة الرجل طريقته ، وكان التزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول عليه الصلاة والسلام ، فكان ذلك سنة له ، ثم إنه عليه السلام قال : " فمن رغب عن سنتي فليس مني " ، فظاهر هذا الحديث يقتضي توجه اللوم على من ترك التزوج بأكثر من الأربعة ، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز . واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحصر على أمرين : الأول : الخبر . وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم " أمسك أربعاً وفارق باقيهن " وروي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة ، فقال عليه الصلاة السلام : " أمسك أربعاً وفارق واحدة " . واعلم أن هذا الطريق ضعيف لوجهين : الأول : أن القرآن لما دل على عدم الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخاً للقرآن بخبر الواحد وإنه غير جائز . والثاني : وهو أن الخبر واقعة حال ، فلعله عليه الصلاة والسلام إنما أمره بإمساك أربع ومفارقة البواقي ، لأن الجمع بين الأربعة وبين البواقي غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع . وبالجملة فلهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله . الطريق الثاني : وهو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع ، وهذا هو المعتمد ، وفيه سؤالان : الأول : أن الإجماع لا يَنسخَ ولا يُنسخ فكيف يقال : الإجماع نسخ هذه الآية . الثاني : أن في الأمة أقواماً شذاذاً لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع ، والإجماع مع مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد . والجواب عن الأول : أن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم . وعن الثاني : أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا عبرة بمخالفته . انتهى كلام الرازيّ ، وقوله ( من أهل البدعة ) لا يجوز أخذه على عمومه لما ستراه . قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى في ( وبل الغمام ) : الذي نقله إلينا أئمة اللغة والإعراب وصار كالمجمع عليه عندهم ، أن العدل في الأعداد يفيد أن المعدود لما كان متكثراً يحتج استيفاؤه إلى أعداد كثيرة كانت صيغة العدل المفردة في قوة تلك الأعداد ، فإن كان مجيء القوم مثلاً اثنين اثنين ، أو ثلاثة ثلاثة ، أو أربعة أربعة ، وكانوا ألوفاً مؤلفة ، فقلت : جاءني القوم مثنى ، أفادت هذه الصيغة أنهم جاءوا اثنين اثنين ، حتى تكاملوا . فإن قلت : مثنى وثلاث ورباع ، أفاد ذلك أن القوم جاءوك تارة اثنين اثنين ، وتارة ثلاثة ثلاثة ، وتارة أربعة أربعة ، فهذه الصيغ بينت مقدار عدد دفعات المجيء لا مقدار عدد جميع القوم ، فإنه لا يستفاد منها أصلاً ، بل غاية ما يستفاد منها أن عددهم متكثر تكثراً تشق الإحاطة به . ومثل هذا إذا قلت : نكحت النساء مثنى ، فإن معناه نكحتهن اثنتين اثنتين ، وليس فيه دليل على أن كل دفعة من هذه الدفعات لم يدخل في نكاحه إلا بعد خروج الأولى ، كما أنه لا دليل في قولك : جاءني القوم مثنى ، أنه لم يصل الاثنان الآخران إليك إلا وقد فارقك الاثنان الأولان ، إذا تقرر هذا فقوله تعالى : { مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ } يستفاد منه جواز نكاح النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً . والمراد جواز تزوج كل دفعة من هذه الدفعات في وقت من الأوقات ، وليس في هذا تعرض لمقدار عددهن ، بل يستفاد من الصيغ الكثرة من غير تعيين ، كما قدمنا في مجيء القوم . وليس فيه أيضاً دليل على أن الدفعة الثانية كانت بعد مفارقة الدفعة الأولى ، ومن زعم أنه نقل إلينا أئمة اللغة والإعراب ما يخالف هذا ، فهذا مقام الاستفادة منه ، فليتفضل بها علينا ، وابن عباس ، إن صح عنه في الآية أنه قصر الرجال على أربع فهو فرد من أفراد الأمة . وأما القعقعة بدعوى الإجماع فما أهونها وأيسر خطبها عند من لم تفزعه هذه الجلبة وكيف يصح إجماع خالفته الظاهرية وابن الصباغ ، والعمرانيّ ، والقاسم بن إبراهيم ، نجم آل الرسول ، وجماعة من الشيعة ، وثلة من محققي المتأخرين ، خالفه أيضاً القرآن الكريم ، كما بيناه . وخالفه أيضاً فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما صح ذلك تواتراً ، من جمعه بين تسع أو أكثر في بعض الأوقات . { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ } [ الحشر : 7 ] . { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] . { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] ودعوى الخصوصية مفتقرة إلى دليل ، والبراءة الأصلية مستصحبة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح تنقطع عنده المعاذير . وأما حديث أمره صلى الله عليه وسلم لغيلان ، لما أسلم وتحته عشر نسوة ، بأن يختار منهن أربعاً ويفارق سائرهن ، كما أخرجه الترمذيّ وابن ماجة وابن حبان ، فهو وإن كان له طرق ، فقد قال ابن عبد البر : كلها معلولة ، وأعله غيره من الحفاظ بعلل أخرى ، ومثل هذا لا ينْتَهّض للنقل عن الدليل القرآنيّ والفعل المصطفويّ الذي مات صلى الله عليه وسلم عليه والبراءة الأصلية . ومن صحح لنا هذا الحديث على وجه تقوم به الحجة ، أو جاءنا بدليل في معناه ، فجزاه الله خيراً ، فليس بين أحد وبين الحق عداوة . وعلى العالم أن يوفي الاجتهاد حقه لا سيما في مقامات التحرير والتقرير ، كما نفعله في كثير من الأبحاث ، وإذا حاك في صدره شيء فليكن تورعه في العمل لا في تقرير الصواب ، فإياك أن تحامي التصريح بالحق الذي تبلغ إليه ملكتك ، لقيل وقال . ولا سيما في مثل مواطن يجبن عنها كثير من الرجال ، فإنك لا تُسئل يوم القيامة عن الذي ترتضيه العباد بل عن الذي يرتضيه المعبود ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل ، ومن ورد البحر استقل السواقيا . انتهى . وقال الشوكاني قدس سره أيضاً في ( نيل الأوطار ) : حديث قيس بن الحارث ( وفي رواية الحرث بن قيس ) في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وقد ضعفه غير واحد من الأئمة . قال أبو القاسم البغويّ : ولا أعلم للحارث بن قيس حديثاً غير هذا . وقال أبو عَمْرو النمري : ليس له إلا حديث واحد ولم يأت به من وجه صحيح ، وفي معنى هذا الحديث غيلان الثقفيّ وهو عن الزهريّ عن سالم عن ابن عمر قال : أسلم غيلان الثقفيّ وتحته عشر نسوة ، في الجاهلية ، فأسلمن معه ، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً ، رواه أحمد وابن ماجة والترمذيّ ، وحكم أبو حاتم أبو زرعة بأن المرسل أصح . وحكى الحاكم عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه معمر بالبصرة ، قال : فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة ، وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقي بظاهر الحكم ، وأخرجوه من طرق عن معمر من حديث أهل الكوفة وأهل خراسان وأهل اليمامة عنه . قال الحافظ : ولا يفيد ذلك شيئاً ، فإن هؤلاء كلهم ، إنما سمعوا منه بالبصرة ، وعلى تقدير أنهم سمعوا منه بغيرها ، فحديثه الذي حدث به في غير بلده مضطرب ، لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة ، وأما إذا رحل فحدث من حفظه بأشياء وهم فيها ، اتفق على ذلك أهل العلم ، كابن المدينيّ والبخاريّ وابن أبي حاتم ويعقوب بن شيبة وغيرهم . وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث ليس بصحيح ، والعمل عليه ، وأعله بتفرد معمر في وصله وتحديثه به في غير بلده . وقال ابن عبد البر : طرقه كلها معلولة . وقد أطال الدارقطنيّ في ( العلل ) تخريج طرقه . ورواه ابن عيينة ومالك عن الزهريّ مرسلاً ، ورواه عبد الرزاق عن معمر كذلك ، وقد وافق معمراً على وصله بحر بن كنيز السقاء عن الزهريّ ، ولكنه ضعيف ، وكذا وصله يحيى بن سلام عن مالك ، ويحيى ضعيف . وفي الباب عن نوفل بن معاوية ، عند الشافعيّ ، أنه أسلم وتحته خمسة نسوة ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أمسك أربعاً وفارق الأخرى " ، وفي إسناده رجل مجهول ، لأن الشافعيّ قال : حدثنا بعض أصحابنا عن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهل عن عوف بن الحرث عن نوفل بن معاوية قال : أسلمت ، فذكره ، وفي الباب أيضاً عن عروة بن مسعود وصفوان بن أمية عند البيهقيّ . وقوله : " اختر منهن أربعاً " ، استدل به الجمهور على تحريم الزيادة على أربع ، وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعاً ، ولعل وجهه قوله تعالى : { مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ } ومجموع ذلك لا باعتبار ما فيه من العدل ، تسع . وحكي ذلك عن ابن الصباغ والعمرانيّ وبعض الشيعة . وحكى أيضاً عن القاسم بن إبراهيم ، وأنكر الإمام يحيى الحكاية عنه ، وحكاه صاحب البحر عن الظاهرية ، وقوم مجاهيل . وأجابوا عن حديث قيس بن الحارث المذكور بما فيه من المقال المتقدم ، وأجابوا عن حديث غيلان الثقفيّ بما تقدم فيه من المقال ، وكذلك أجابوا عن حديث نوفل بن معاوية بما قدمنا من كونه في إسناده مجهول ، قالوا : ومثل هذا الأصل العظيم لا يكتفي فيه بمثل ذلك ، ولا سيما وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع بين تسع أو إحدى عشرة ، وقد قال تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] . وأما دعوى اختصاصه بالزيادة على الأربع فهو محل النزاع ، ولم يقم عليه دليل . وأما قوله تعالى : { مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ } فالواو فيه للجمع لا للتخيير ، وأيضاً لفظ مثنى معدول به عن اثنين اثنين ، وهو يدل على تناول ما كان متصفاً من الأعداد بصفته الأثنينية ، وإن كان في غاية الكثرة البالغة إلى ما فوق الألوف ، فإنك تقول جاءني القوم مثنى أي : اثنين اثنين ، وهكذا ثلاث ورباع ، وهذا معلوم في لغة العرب لا يشك فيه أحد . فالآية المذكورة تدل بأصل الوضع على أنه يجوز للإنسان أن يتزوج من النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً ، وليس من شرط ذلك أن لا تأتي الطائفة الأخرى في العدد إلا بعد مفارقته للطائفة التي قبلها ، فإنه لا شك أنه يصح ، لغة وعرفاً ، أن يقول الرجل ، لألف رجل عنده : جاءني هؤلاء اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة ، فحينئذ الآية تدل على إباحة الزواج بعدد من النساء كثير ، سواء كانت الواو للجمع أو للتخيير . لأن خطاب الجماعة بحكم من الأحكام بمنزلة الخطاب به لكل واحد منهم ؛ فكأن الله سبحانه وتعالى قال لكل فرد من الناس : أنكح ما طاب لك من النساء مثنى وثلاث ورباع ، ومع هذا فالبراءة الأصلية مستصحبة ، وهي بمجردها كافية في الحل حتى يوجد ناقل صحيح ينقل عنها . وقد يجاب بأن مجموع الأحاديث المذكورة في الباب لا تقصر عن رتبة الحسن لغيره ، فتنتهض بمجموعها للاحتجاج ، وإن كان كل واحد لا يخلوا عن مقال ، ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة ، كما صرح به الخطابيّ ، فلا يجوز الإقدام على شيء منها إلا بدليل ، وأيضاً هذا الخلاف مسبوق بالإجماع على عدم جواز الزيادة على الأربع ، كما صرح بذلك في ( البحر ) . وقال في ( الفتح ) : اتفق العلماء على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم الزيادة على أربع نسوة يجمع بينهن ، وقد ذكر الحافظ في ( الفتح ) و ( التلخيص ) الحكمة في تكثير نسائه صلى الله عليه وسلم فليراجع ذلك . انتهى . وقال قدس سره في تفسيره ( فتح القدير ) : وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع ، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة ، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد ، كما يقال للجماعة : اقتسموا هذا المال ، وهو ألف درهم ( أو هذا المال الذي في البدرة ) درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة . وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته ، أو عيّن مكانه ، أما لو كان مطلقاً ، كما يقال : اقتسموا الدراهم ، ويراد بها ما كسبوه ، فليس المعنى هكذا ، والآية من الباب الآخر لا من الباب الأول ، على أن من قال لقوم يقتسمون مالاً معيناً كبيراً : اقتسموه مثنى وثلاث ورباع ، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين ، وبعضه ثلاثة ثلاثة ، وبعضه أربعة أربعة ، كان هذا هو المعنى العربيّ . ومعلوم أنه إذا قال القائل : جاءني القوم مثنى ، وهم مائة ألف ، كان المعنى أنهم جاؤوه اثنين اثنين ، هكذا : جاءني القوم ثلاث ورباع . والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد ، كما في قوله تعالى : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ التوبة : 5 ] { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ } [ البقرة : 43 ] ، ونحوها . ومعنى قوله : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ } : لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين وثلاثاً وثلاثاً وأربعاً وأربعاً . هذا ما تقتضيه لغة العرب ، فالآية تدل على خلاف ما استدلوا به عليه ، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً } فإنه وإن كان خطاباً للجميع فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد . فالأوْلى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن ، وأما استدلال من استدل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة وكأنه قال : انكحوا مجموع هذا العدد المذكور ، فهذا جهل بالمعنى العربيّ ، ولو قال : انكحوا اثنتين وثلاثاً وأربعاً كان هذا القول له وجه ، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا ، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون ( أو ) لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره ، وذلك ليس بمراد من النظم القرآنيّ . أخرج الشافعيّ وابن أبي شيبة وأحمد والترمذيّ وابن ماجة والدارقطني والبيهقيّ ، عن ابن عمر " أن غيلان بن سلمة الثقفيّ أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " اختر منهن ( وفي لفظ أمسك منهن ) أربعاً وفارق سائرهن " " ، وروي هذا الحديث بألفاظ من طرق . وعن نوفل بن معاوية الديليّ قال : أسلمت وعندي خمس نسوة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمسك أربعاً وفارق الأخرى " ، أخرجه الشافعيّ في مسنده . وأخرج ابن ماجة والنحاس في ( تاريخه ) عن قيس بن الحارث الأسديّ قال : " أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة ، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : " اختر منهن أربعاً وخل سائرهن " ، ففعلت ، وهذه شواهد للحديث الأول كما قال البيهقيّ . وقال قدس سره أيضاً في كتابه ( السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار ) : أما الاستدلال على تحريم الخامسة وعدم جواز زيادة على الأربع بقوله عز وجل : { مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ } ، فغير صحيح ، كما أوضحته في ( شرحي للمنتقى ) وقد قدمناه . ولكن الاستدلال على ذلك بحديث قيس بن الحارث وحديث غيلان الثقفيّ وحديث نوفل بن معاوية هو الذي ينبغي الاعتماد عليه ، وإن كان في كل واحد منها مقال ، لكن الإجماع على ما دلت عليه قد صارت به من المجمع على العمل عليه . وقد حكى الإجماع صاحب ( فتح الباري ) والمهديّ في ( البحر ) والنقل عن الظاهرية لم يصح ، فإنه قد أنكر ذلك منهم من هو أعرف بمذهبهم . انتهى . تتمة روى الدارقطني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ينكح البعد امرأتين ويطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين . قال الشوكاني في : ( نيل الأوطار ) : قد تمسك بهذا من قال : إنه لا يجوز للعبد أن يتزوج فوق اثنتين . وهو مرويّ عن عليّ وزيد بن علي والناصر والحنفية والشافعية ، ولا يخفى أن قول الصحابيّ لا يكون حجة على من لم يقل بحجيته ، نعم ، لو صح إجماع الصحابة على ذلك لكان دليلاً عند القائلين بحجية الإجماع ، ولكنه قد روي عن أبي الدرداء ومجاهد وربيعة وأبي ثور والقاسم بن محمد وسالم : أنه يجوز له أن ينكح أربعاً كالحر . حكى ذلك عنهم صاحب ( البحر ) فالأوْلى الجزم بدخوله تحت قوله تعالى : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } والحكم له وعليه بما للأحرار وعليهم ، إلا أن يقوم دليل يقتضي المخالفة ، كما في المواضع المعروفة بالتخالف بين حكميهما انتهى . { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ } أي : بين هذه الأعداد . { فَوَٰحِدَةً } أي : فاختاروها ، وقرئ بالرفع أي : فحسبكم واحدة . { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ } أي : من الإماء ، بالغة ما بلغت من مراتب العدد ، لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق مثل ما يلزم في الحرائر ، ولا قسم لهن . و ( أو ) للتسوية ، أي التخيير ، والعدد يؤخذ من السياق ومقابلة الواحدة ، قال الزمخشري : سوّى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر ولا توقيت عدد ، ولعمري إنهن أقل تبعة وأقصر شغَباً وأخف مؤنة من المهائر ، لا عليك ، أكثرت منهن أم أقللت ، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل ، عزلت عنهن أم لم تعزل . انتهى . { ذٰلِكَ } أي : الاقتصار على واحدة أو على التسري : { أَدْنَىٰ } أي أقرب { أَلاَّ تَعُولُواْ } أي : من أن لا تميلوا ولا تجوروا . لانتفائه رأساً بانتفاء محله في الأول ، وانتفاء خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر ، فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر ، هذا إن قدر ( تعولوا ) مضارع عال ، بمعنى جار ومال عن الحق ، وهو اختيار أكثر المفسرين . ومن الوجوه المحتملة فيه كونه مضارع عال بمعنى كثر عياله ، قال في : القاموس : وعال فلان عولاً وعيالة : كثر عياله ، كأعول وأعيل . انتهى . وعلى هذا الوجه اقتصر الإمام المهايميّ ، قدس سره ، في تفسيره حيث قال : أي أقرب من أن لا تكثر عيالكم فيمكن معه القناعة بحيث لا يضطر إلى الجور في أموال اليتامى . انتهى . وروي هذا التأويل عن زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعيّ ، وأما قول ابن كثير في هذا التفسير : ههنا نظر ، فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراري - فجوابه ( كما قال الرازيّ ) من وجهين : الأول : ما ذكره القفّال رضي الله عنه ، وهو أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب ، وإذا اكتسبن أنفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضاً ، وحينئذ تقل العيال ، أما إذا كانت المرأة حرة ، لم يكن الأمر كذلك ، فظهر الفرق . الثاني : أن المرأة إذا كانت مملوكة ، فإذا عجز المولى عن الإنفاق عليها باعها وتخلص منها ، أما إذا كانت حرة فلا بد له من الإنفاق عليها ، والعرف يدل على أن الزوج ما دام يمسك الزوجة فإنها لا تطالبه بالمهر ، فإذا حاول طلاقها طالبته بالمهر فيقع الزوج في المحنة . انتهى . تنبيهان الأول : قال بعض المفسرين : دلت الآية على أنه يجب بالنكاح حقوق . وتدل على أن من خشي الوقوع فيما لا يجوز ، قبح منه ما دعا إلى ذلك القبيح ، فلا يجوز لمن عرف أنه يخون مال اليتيم إذا تزوج أكثر من واحدة ، أن يتزوج أكثر . وكذا إذا عرف أنه يخون الوديعة ولا يحفظها ، فإنه لا يجوز له قبول الوديعة . وتدل على أن العدل واجب بين الزوجات . وأن من عرف أنه لا يعدل فإنه لا تحل له الزيادة على واحدة . وتدل على أن زواجه الصغيرة من غير أبيها وجدّها جائز ، وللفقهاء مذاهب في ذلك معروفة . الثاني : في سرّ ما تشير إليه الآية من إصلاح النسل ، قال بعض علماء الاجتماع من فلاسفة المسلمين في مقالة عنوانها ( الإسلام وإصلاح النسل ) ما مثاله : ما زال البشر يسعى منذ ألوف من السنين وراء إصلاح ما يقتنيه من خيل وبقر وغنم ليكثر انتفاعه به ، فيختار لإناث هذه الحيوانات أفحلاً كريمة ، هي على ما يرومه من الصفات ، ليحصل منها على نسل أنفع له من أمهاته . وقد زادت رغبة الناس بهذا العصر في إصلاح النوع النافع من الحيوان ، فضربوه ورقوه باختيار الأفحُل المناسبة ، حتى حصلوا على صنف من الخيل الجياد تسابق الرياح فتجري ( 16 ) متراً في الثانية من الزمن ، وعلى صنف من البقر تحلب في اليوم الواحد خمسين أقة ، وعلى صنف من المعزى والغنم شعره أو صوفه مثل الحرير نعومةً ، ولم يقصر إصلاحهم على الحيوان ، بل تجاوز إلى النبات ، فحصلوا بفضله على أشجار كثيرة الثمر لذيذته ، وانتفعوا انتفاعاً كبيراً ما تيسر لأسلافهم . نعم إن البشر افتكروا في إصلاح الحيوان الصامت والنبات ، وعلموا ما فيه من الفوائد ، فسعوا إليه السعي الذي يرضاه العلم ، وجنوا ثمار ذلك السعي ، ولكنهم ما افتكروا في إصلاح مَا هو أهمُّ من كل ذلك : في إصلاح الحيوان الذكيّ ، والشرير أكثر من الصالح ، والجبان أكثر من الشجاع ، والكاذب أكثر من الصادق ، والكسلان أكثر من أخي الجد النشيط ، ولو أنهم أصلحوا نسلهم لما وجد في الناس من يولد مريضاً ويعيش مريضاً ، فلا ينتفع بوجوده المجتمع ، وهو كثير . قام من بين هذا الجيل فيلسوفان : ألمانيّ وإنكليزيّ ، وأخذا يعلمان بكتاباتهما المبنيّة على البراهين وجوب إصلاح الإنسان لنسل الإنسان ، ويعددان فوائد الإصلاح لنوعه ، ويبيّنان للملأِ أن الرقيّ المطلوب لا يتم إلا به ، وطفقا يلومان الناس على اعتنائهم بإصلاح المواشي وإهمالهم إصلاح أنفسهم ، الأمر الذي هو أهم من ذلك كثيراً ، وذكرا لذلك طرقاً : منها : منع أصحاب العاهات والأمراض المزمنة وأولي الجرائم الكبيرة من الزواج لينقطع نسلهم الذي يجيء غالباً على شاكلتهم . ( ومنها ) : إباحة تعدد الزوجات للنابغين من الرجال ليكثر نسلهم ، وقالا : إذا جرى المجتمع على هذا الانتخاب الصناعي قروناً عديدة كان نسل الإنسان الأخير ، بحكم ناموس الوراثة ، سالماً من الأمراض ، حسن الطوية ، ليس فيه ميل إلى الشر ، قويّاً . قويّاً . ذكيّ الفؤاد ، نابغاً في العلوم ، التي يتعلمها ، كأنه نوع أرقى من الإنسان الحاضر ، وكانت أهم طريقة أبدياها للارتقاء المنتظر للبشر في المستقبل ، هي طريقة تعدد الزوجات في الحاضر للنابغين من الناس ، فإن منع أصحاب الأمراض المزمنة والجناة من الزواج إنما يفيد في تقوية النسل وجعله ميالاً بالفطرة إلى الخير ليس إلا ، لا في جعله أذكى من آبائه وأسمى مدارك ، وتعدد الزوجات للنابغين من المسلمين ، قد جاء به الإسلام قبل هذين الفيلسوفين بأكثر من ألف وثلاثمائة سنة ، فقد أباح لهم تعددهن إلى أربع ، ليكثر نسلهم ، فيكثر عدد النابغين ، الذين بهم وحدهم تتم الأعمال الكبيرة في هذه الدنيا ، فهو من مكتشفات هذا الدين الاجتماعية . وقد جعل رضاهن بذلك شرطاً أنه لئلا يكون فيه إجحاف بحقوقهن . والعاقلة من النساء تفضل أن تكون زوجة لنابغة من الرجال - وإن كان ذا زوجات أخر - على أن تكون زوجة لرجل أحمق ، وإن اقتصر عليها ، لأنها تعلم أن أولادها من الأول ينجبون أكثر منهم من الثاني . وأما غير النابغين منهم فإن الدين يمنعهم من نكاح أكثر من واحدة ، لئلا يكثر نسلهم ، قال الله تعالى في كتابه المبين يخاطب المؤمنين : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً } الخطاب في هذه الآية لعموم الأمة ، فهي تأذن لكل أحد من المسلمين أن يتزوج بأكثر من واحدة من النساء إلى أربع ، إذا آنس من نفسه القدرة على العدل بينهن ، وإلا وجب عليه الاقتصار على واحدة لئلا يجور عليهن . والقدرة على العدل بين أربع من النساء ، متوقف على عقل كبير وسياسة في الإدارة وحكمة بالغة في المعاملة ، لا تتأتى إلا لمن كان نابغة بين الرجال ، ذا مكانة من العقل ترفعه على أقرانه ، والرجل النابغة ، إذا تزوج بأكثر من واحدة ، كثر نسله فكثر النوابغ . والشعب الذي يكثر نوابغه أقدر على الغلبة في تنازع البقاء من سائر الشعوب ، كما يدلنا عليه التاريخ . ثم خاطب الله ، في مكان آخر ، الخائفين أن لا يعدلوا بين النساء ؛ وهم غير النوابغ من المسلمين ، بقوله : { وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } [ النساء : 129 ] . فأمرهم في هذه الآية ، التي هي في المعنى تتمة للأولى ، أن لا يقترنوا بأكثر من واحدة لأنهم في درجة من العقل هي دون درجة النابغين ، لن يستطيعوا معها إتيان العدل بين النساء ، المتوقف على عقل كبير يسهل لصاحبه أن يرضيهن جمعاء ، كما يأتيه النابغون والدهاة من الناس ، وحرم على هؤلاء الذين لم يحوزوا المقدرة على العدل ، التزوج بأكثر من واحدة ، لئلا يقع الظلم من الرجال على النساء . وهو كثير الصدور من الأوساط ومن كان دونهم في سلم الارتقاء ، ولئلا يكثر نسل غير النابغين ، وهو الأهم ، فتبقى الأمة في مكانها من الانحطاط . وقد تقدم أن الخطاب في قوله تعالى : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } في الآية الأولى لعموم الأمة ، غير أن الشرط بالعدل جعله خاصة بالعادلين منهم ، وهم النابغون الذين يقتدرون على إتيان العدل بين النساء لوفور عقلهم . والغاية من أمر هذا الصنف من المسلمين أن يتزوجوا بأكثر من واحدة إلى أربع ، هو تكثير نسلهم ليستفيد من كثرة أمثالهم المجتمع ، كما أسلفنا ، ولكن النابغة لا يأتي نسله في الغالب نوابغ ، بمجرد تعدد الزوجات ، فإن الزوجة المتوسطة أو المنحطة يكون أولادها في الغالب أوساطاً أو منحطين ، وإن كان أبوهم راقياً ، فلا تحصل الفائدة المطلوبة من تعدد الزوجات وهي إصلاح النسل . بل يجب للحصول على هذا المطلب الأسنى أن يقترن النابغون بالنابغات ، ليكون أولادهم مثلهم نبوغاً أو أنبغ منهم ، بحكم سنة الوراثة ، وذلك إنما يتم إذا أحسن النابغون اختيار الأزواج ، فنكحوا ما طاب لهم والنابغة لا يطيب له أن يقترن إلا بمن جمعت نبوغاً مثل نبوغه ، إلى حسن رائع ، فإن معاشرة الحمقاء ليس مما يطيب للعاقل الراقي ، وإن الخير يطلب عند حسان الوجوه . ولذلك قال تعالى : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } ولم يقل وانكحوا من النساء ، وفي قوله تعالى : { مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ } إشارة إلى مراتب نبوغ الرجل الثلاث ، فكأنه أراد ألا يتجاوز ، الذي قلّ نبوغه ، الاقتران باثنتين ، وألا يتجاوز ، الذي نبوغه متوسط ، الاقترانَ بثلاث ، وأن يحل ، للذي نبوغه أعلى من الأولين ، الاقترانُ بأربع . وأما الخائفون أن لا يعدلوا فيجب أن لا يتجاوزوا الاقتران بواحدة ، لأنهم أناس لن يستطيعوا ، مع كل حرصهم ، أن يعدلوا بين النساء ، لقصور عقلهم في سياسة المنزل وعدم نبوغهم ، وهناك إنسان نبوغه أكبر من كل نبوغ ، هو محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي اختاره الله لوفور حكمته رسولاً منه إلى البشر ، قد أحل له أن يقترن بأكثر من أربع لقدرته على العدل بينهن . وأظنك ، بعد قراءة ما أوردت ، تعترف ، إن كنت من المنصفين ، أن الإسلام جاء ، قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام ، بسنّة للزواج ، عليها وحدها يتوقف إصلاح نسل البشر ، الذي أخذ في هذا القرن أفراد من فلاسفة الغرب يحضّون عليه ، تلك السنة : هي تعدد الزوجات بعد أن كان الرأي العام في الغرب يعيبه عليها ، هذا هو الإسلام يقرر أكبر قاعدة للترقي ، وهو إباحة تعدد الزوجات ، اللاتي يطبن لوفور جمالهن وعقلهن ، لأفراد نابغين من المسلمين ، لا يخافون لوفور عقلهم ألا يعدلوا بينهن ، ولكن المسلمين لم يأتمروا بأمر الله ، فأباحوا هذا التعدد لكل أحد من المسلمين ، للخائفين ألا يعدلوا ، ولغير الخائفين ، ففسد النسل ، والذي أعان على فساده هو كون القدرة عليه أصبحت ، بحكم الجهل ، منحصرة في المال الذي يجمعه الغاصب والسارق والكاسب ، فكثر نسل الظالمين وقلّ نسل العادلين من أهل العقل الراجح . انتهى كلامه ، وهو استنباط بديع .