Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 2-2)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ } شروع في تفصيل موارد الاتقاء ومظانه بتكليف ما يقابلها أمراً ونهياً . وتقديمُ ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم ولملابستهم بالأرحام ، إذ الخطاب للأولياء والأوصياء وقلما تفوض الوصاية إلى الأجانب . واليتيم من مات أبوه ، من اليتم ، وهو الانفراد ، ومنه الدرة اليتيمة ، والقياس الاشتقاقيّ يقتضي وقوعه على الصغار والكبار . وقد خصه الشرع بمن لم يبلغ الحلم . كما روى أبو داود بإسناد حسن عن عليّ عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يُتْمَ بعد احتلام " وفي الآية وجوه : الأول : أن يُراد باليتامى الكبار الذين أونس منهم الرشد مجازاً ، باعتبار ما كان ، أوثر لقرب العهد بالصغر ، والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حينئذ ، حتى كأنّ اسم اليتيم باق بعدُ ، غير زائل . الثاني : أن يُراد بهم الكبار حقيقة ، واردةً على أصل اللغة . الثالث : أن يُراد بهم الصغار ، وبـ ( الإيتاء ) ما يدفعه الأولياء والأوصياء إليهم من النفقة والكسوة ، لا دفعها إليهم ، وفيه بُعْدٌ . الرابع : أن يُراد بهم ما ذكر . وبـ ( إيتائهم ) الأموال ، أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة [ في المطبوع ولاة ] السوء ، وقضاته ، ويكفّوا عنها أيديهم الخاطفة حتى تؤتى اليتامى إذا بلغوا سالمة غير محذوفة ، فالتجوّز في الإيتاء حينئذ باستعماله في لازم معناه وهو تركها سالمة لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك . قال الناصر في ( الانتصاف ) : هذا الوجه قويّ بقوله بعد آيات : { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 6 ] ، دل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم . والثانية : في الحض على الإيتاء الحقيقيّ عند حصول البلوغ والرشد . ويقويه أيضاً قوله عقيب الأولى : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ } الخ فهذا كله تأديب للوصيّ ما دام المال بيده واليتيم في حجره . وأما على الوجه الأول فيكون مؤدى الآيتين واحداً وهو الأمر بالإيتاء حقيقة ، ويخلص عن التكرار بأن الأولى كالمجملة ، والثانية كالمبيّنة لشرط الإيتاء : من البلوغ وإيناس الرشد ، والله أعلم . { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ } أي : ولا تستبدلوا الحرام ، وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم ، وما أبيح لكم من المكاسب ، ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } نهى عن منكر آخر كانوا يتعاطونه ، أي : لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم مخلوطة بها للتوسعة { إِنَّهُ } أي : الأكل { كَانَ حُوباً } أي : ذنباً عظيماً ، وقرئ بفتح الحاء ، وقوله تعالى : { كَبِيراً } مبالغة في بيان عظم ذنب الأكل المذكور ، كأنه قيل من كبار الذنوب . تنبيه خص من ذلك مقدار أجر الملل عند كون الوليّ فقيراً لقوله تعالى : { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ النساء : 6 ] كذا قاله البيضاويّ وتابعه أبو السعود . وعندي أنه لا حاجة إلى تخصيص هذا النهي بالفقير في هذه الآية لأنها في الغنيّ ، لقوله : { إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } فلا يشمل مساقها الفقير ، وسنوضح ذلك . لطيفة قال الزمخشريّ : فإن قلت قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم ، فلم ورد النهي عن أكله معها ؟ قلت : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال وهم على ذلك يطمعون فيها ، كان القبح أبلغ والذم أحق ، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم وسمّع بهم ليكون أزجر لهم . انتهى . قال الناصر في ( الانتصاف ) : أهل البيان يقولون : المنهيّ متى كان درجات فطريق البلاغة النهي عن أدناها تنبيهاً على الأعلى ، كقوله تعالى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } [ الإسراء : 23 ] ، وإذا اعتبرت هذا القانون بهذه الآية وجدته ببادئ الرأي مخالفاً لها إذ أعلى درجات أكل مال اليتيم في النهي أن يأكله وهو غنيّ عنه ، وأدناها أن يأكله وهو فقير إليه ، فكان مقتضى القانون المذكور أن ينهى عن أكل مال اليتيم من هو فقير إليه حتى يلزم نهي الغنيّ عنه من طريق الأولى ، وحينئذ فلا بد من تمهيد أمر يوضح فائدة تخصيص الصورة العليا بالنهي في هذه الآية . فنقول : أبلغ الكلام ما تعددت وجوه إفادته ، ولا شك أن النهي عن الأدنى ، وإن أفاد النهي عن الأعلى ، إلا أن للنهي عن الأعلى أيضاً فائدة أخرى جليلة ، لا تؤخذ من النهي عن الأدنى ، وذلك أن المنهيّ كلما كان أقبح كانت النفس عنه أنفر والداعية إليه أبعد . ولا شك أن المستقر في النفوس أن أكل مال اليتيم مع الغنى عنه أقبح صور الأكل . فخصص بالنهي تشنيعاً على من يقع فيه ، حتى إذا استحكم نفوره من أكل ماله على هذه الصورة الشنعاء دعاه ذلك إلى الإحجام عن أكل ماله مطلقاً . ففيه تدريب للمخاطب على النفور من المحارم ، ولا تكاد هذه الفائدة تحصل لو خصص النهي بأكله مع الفقر ، إذ ليست الطباع في هذه الصورة مُعينة على الاجتناب ، كإعانتها عليه في الصورة الأولى ، ويحقق مراعاة هذا المعنى تخصيصه الأكل ، مع أن تناول مال اليتيم على أي وجه كان ، منهيّ عنه ، كان ذلك بالادخار أو بالتباس أو ببذله في لذة النكاح مثلاً ، أو غير ذلك . إلا أن حكمة تخصيص النهي بالأكل أن العرب كانت تتذمم بالإكثار من الأكل ، وتعدّ البطنة من البهيمة ، وتعيب على من اتخذها ديدنه ، ولا كذلك سائر الملاذ ، فإنهم ربما يتفاخرون بالإكثار من النكاح ويعدونه من زينة الدنيا ، فلما كان الأكل عندهم أقبح الملاذ خص النهي به ، حتى إذا نفرت النفس منه بمقتضى طبعها المألوف جرها ذلك إلى النفور من صرف مال اليتيم في سائر الملاذ أو غيرها ، أكلاً أو غيره . ومثل هذه الآية في تخصيص النهي بما هو أعلى قوله تعالى : { لاَ تَأْكُلُواْ ٱلرِّبَٰواْ أَضْعَٰفاً مُّضَٰعَفَةً } [ آل عمران : 130 ] ، فخص هذه الصورة لأن الطبع عن الانتهاء عنها أعون . ويقابل هذا النظر في النهي نظر آخر في الأمر ، وهو أنه تارة يخص صورة الأمر الأدنى تنبيهاً على الأعلى ، وتارة يخص صورة الأعلى لمثل الفائدة المذكورة من التدريب ، ألا ترى إلى قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة : { وَإِذَا حَضَرَ ٱلْقِسْمَةَ أُوْلُواْ ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينُ فَٱرْزُقُوهُمْ } [ النساء : 8 ] الآية ، كيف خص صورة حضورهم وإن كانت العليا بالنسبة إلى غيبتهم ، وذلك أن الله تعالى علم شح الأنفس على الأموال ، فلو أمر بإسعاف الأقارب واليتامى من المال الموروث ولم يذكر حالة حضورهم القسمة ، لم تكن الأنفس بالمنبعثة إلى هذا المعروف كانبعاثها مع حضورهم ، بخلاف ما إذا حضروا ، فإن النفس يرقّ طبعها وتنفر من أن تأخذ المال الجزل وذو الرحم حاضر محروم ، ولا يسعف ولا يساعد ، فإذا أمرت في هذه الحالة بالإسعاف هان عليها امتثال الأمر وائتلافها على امتثال الطبع ، ثم تدربت بذلك على إسعاف ذي الرحم مطلقاً حضر أو غاب . فمراعاة هذا وأمثاله من الفوائد لا يكاد يُلْقَى إلا في الكتاب العزيز ، ولا يعثر عليه إلا الحاذق الفطن المؤيد بالتوفيق ، نسأل الله أن يسلك بنا في هذا النمط ، فخذ هذا القانون عمدة ، وهو : أن النهي ، إن خص الأدنى فلفائدة التنبيه على الأعلى ، وإن خص الأعلى ، فلفائدة التدريب على الانكفاف عن القبح مطلقاً من الانكفاف عن الأقبح ، ومثل هذا ، النظر في جانب الأمر ، والله الموفق . انتهى .