Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 43-43)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } نزلت هذه الآية قبل تحريم الخمر في جماعة كانوا يشربونها ثم يصلّون ، أي : من مقتضى إيمانكم الحياء من الله ، ومن الحياء منه أن لا تقوموا إلى الصلاة وأنتم سكارى لا تعلمون ما تخاطبونه ، فالحياء من الله يوجب ذلك ، وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه ، للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهي ، وتوجيه النهي إلى قربان الصلاة ، مع أن المراد هو النهي عن إقامتها ، للمبالغة في ذلك . قال الحافظ ابن كثير : كان هذا النهي قبل تحريم الخمر ، كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } [ البقرة : 219 ] ، الآية ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر ، فقال : اللهم ! بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه ، فقال : اللهم ! بين لنا في الخمر بيانا شافيا ، فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات ، حتى نزلت : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ] إلى قوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] فقال عمر : انتهينا انتهينا . ولفظ أبي داود عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر فذكر الحديث ، وفيه : نزلت الآية التي في النساء : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ، ينادي : لا يقربن الصلاة سكران . وروى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن سعد رضي الله عنه قال : نزلت فيّ أربع آيات : صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعا أناساً من المهاجرين وأناساً من الأنصار ، فأكلنا وشربنا حتى سكرنا ، ثم افتخرنا ، فرفع رجل لحي بعير فغرز بها أنف سعد فكان سعد مغروز الأنف ، وذلك قبل تحريم الخمر ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ } الآية . والحديث بطوله عند مسلم ورواه أهل السنن إلا ابن ماجه . وروى أبو داود والنسائيّ عن عليّ رضي الله عنه ، أن أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر . فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافرُونَ } فخلط فيها ، فنزلت : { لاَ تَقْرَبُواْ } الآية . وروى ابن أبي حاتم عن عليّ رضي الله عنه : قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة ، فقدموا فلاناً ، قال فقرأ : قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ } . الآية ، وكذا رواه الترمذيّ وقال : حسن صحيح { وَلاَ جُنُباً } عطف على قوله : { وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ } إذ الجملة في موضع النصب على الحال ، والجنب الذي أصابته الجنابة ، يستوي فيه المذكر والمؤنث ، والواحد والجمع ، لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } أي : ماريّن بلا لبث { حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } من الجنابة : أي : لا تقربوا موضع الصلاة ، وهو المسجد ، وأنتم جنب ، إلا مجتازين فيه ، إما للخروج منه أو للدخول فيه . روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في معنى الآية قال : لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل ، قال : تمر به مرّاً ، ولا تجلس ثم رواه عن كثير من الصحابة ، منهم ابن مسعود وثلة من التابعين . وروى ابن جرير عن الليث قال حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن قول الله عز وجل : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد تصيبهم الجنابة ، ولا ماء عندهم فيريدون الماء . ولا يجدون ممراً إلا في المسجد ، فأنزل الله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } . قال الحافظ ابن كثير : ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حبيب رحمه الله ، ما ثبت في صحيح البخاريّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سدوا كل خوخة في المسجد ، إلا خوخة أبي بكر " . وهذا قاله صلى الله عليه وسلم في آخر حياته ، علما منه أن أبا بكر رضي الله عنه سيلي الأمر بعده ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيراً للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين ، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه رضي الله عنه ، ومن روى : إلا باب عليّ ، كما وقع في بعض السنن ، فهو خطأ والصواب ما ثبت في الصحيح . ومن هذا التأويل احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد ، ويجوز له المرور . وثمة تأويل آخر في قوله تعالى : { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } وهو أن المراد منه المسافرون ، أي : لا تقربوا الصلاة جنباً في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين ، فيكون هذا الاستثناء دليلاً على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصلاة عند العجز عن الماء ، وقد روى ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش عن عليّ في هذه الآية ، قال : لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافراً تصيبه الجنابة ، فلا يجد الماء ، فيصلي حتى يجد الماء ، ثم رواه من وجه آخر عن عليّ : ورواه عن جماعة من السلف أيضاً : أنه في السفر . قال ابن كثير : ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصعيد الطيب طهور المسلم ، وإن لم تجد الماء عشر حجج ، فإذا وجدت الماء فَأَمِسّهُ بشرتك فإن ذلك خير لك " ، وفي هذا التأويل بقاء لفظ الصلاة على معناه الحقيقيّ في الجملتين المتعاطفتين ، وفي التأويل السابق تكون الصلاة ، في الجملة الثانية محمولة على مواضعها . قال في ( فتح البيان ) : وبالجملة ، فالحال الأولى أعني قوله : { وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ } تقوّي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي ، من دون تقدير مضاف ، وسبب نزول الآية السابق يقوّي ذلك ، وقوله : { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } يقويّ تقدير المضاف ، أي : لا تقربوا مواضع الصلاة ، ويمكن أن يقال : إن بعض قيود النهي ( أعني لا تقربوا وهو قوله : { وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ } ) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقيّ ، وبعض قيود النهي ( وهو قوله : { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } ) ، يدل على أن المراد مواضع الصلاة ، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدال عليه ، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد ، وهما : لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى ، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنباً إلا حال عبوركم المسجد من جانب إلى جانب ، وغاية ما يقال في هذا : إنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وهو جائز بتأويل مشهور . وقال ابن جرير ( بعد حكايته للتأويلين ) : وأولى القولين بالتأويل لذلك ، تأويل من تأوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } إلا مجتازي طريق فيه ، وذلك أنه قد بيّن حكم المسافر إذا عدِمَ الماء ، وهو جنب ، في قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } إلى آخره ، فكان معلوماً بذلك أن قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } لو كان معنيّا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } معنى مفهوم ، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك . وإن كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة ، مصلين فيها ، وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها أيضاً جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل . قال : و ( العابر السبيل ) المجتازه مرّا وقطعاً ، يقال منه : عبرت هذا الطريق فأنا أعبُره عَبْراً وعبوراً ، ومنه قيل : عبر فلان النهر إذا قطعه وجازه ، ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار : هي عُبْر أسفار ، وعَبْر أسفار ، لقوتها على الأسفار . ا . هـ . قال ابن كثير : وهذا الذي نصره ( يعني ابن جرير ) هو قول الجمهور وهو الظاهر من الآية ، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها ، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضاً ، والله أعلم . وقوله تعالى : { حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } غاية للنهي عن قربان الصلاة ومواضعها ، حال الجنابة ، والمعنى : لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا ، إلا حال عبوركم السبيل . تنبيهات الأولى : في الآية تحريم الصلاة على السكران حال سكره حتى يصحو ، وبطلانها وبطلان الاقتداء به ، وعلى الجنب حتى يغتسل إلا أن يكون مسافراً ، فيباح له التيمم . الثاني : تمسك بالآية من قال : إن طلاق السكران لا يقع لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد ، وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور والمزنيّ واختاره الطحاويّ ، والمسألة مبسوطة في ( زاد المعاد ) للإمام ابن القيّم . الثالث : في الآية دليل على أن ردة السكران ليست بردة : لأن قراءة سورة الكافرين ، بطرح اللاءات ، كفر ، ولم يحكم بكفره حتى خاطبهم باسم الإيمان ، وما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالتفريق بينه وبين امرأته ، ولا بتجديد الإيمان ، ولأن الأمة اجتمعت على أن من أجرى كلمة الكفر على لسانه مخطئاً ، لا يحكم بكفره ، قاله النسفيّ . الرابع : استدل بأحد التأويلين السابقين على تحريم دخول المسجد على السكران ، لما يتوقع منه من التلويث وفحش القول ، فيقاس به كل ذي نجاسة يخشى منها التلويث والسباب ونحوه ، كذا في ( الإكليل ) . الخامس : استدل ابن الفرس بتوجيه الخطاب لهم في الآية على تكليف السكران ودخوله تحت الخطاب ، وفيه نظر ، لأن الخطاب عام لكل مؤمن ، وعلى تقدير أنه قصد به الذين صلوا في حال السكر ، فإنما نزل بعد صحوهم ، كذا في ( الإكليل ) . السادس : في قوله تعالى : { حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } رد على من أباح جلوس الجنب مطلقاً إذا توضأ ، لأن الله تعالى جعل غاية التحريم الغسل ، فلا يقوم مقامه الوضوء ، كذا في ( الإكليل ) . أقول : إنما يكون هذا حجة لو كانت الآية نصّا في تأويل واحد ، وحيث تطرق الاحتمال لها ، على ما رأيت ، فلا . وقد تمسك المبيح ، وهو الإمام أحمد ، بما روى هو وسعيد بن منصور في ( سننه ) بسند صحيح ، أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك . قال سعيد بن منصور في ( سننه ) : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، هو الدراورديّ ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار قال : رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون ، إذا توضؤوا وضوء الصلاة . قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم . السابع : قال العلامة أبو السعود : لعل تقديم الاستثناء على قوله : { حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ } للإيذان من أول الأمر ، بأن حكم النهيّ في هذه الصورة ليس على الإطلاق ، كما في صورة السكر ، تشويقاً إلى البيان ، وروماً لزيادة تقرره في الأذهان . الثامن : قال أيضاً : في الآية الكريمة إشارة إلى أن المصلي حقه أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه ، وأن يزكي نفسه عما يدنسها ، ولا يكتفي بأدنى مراتب التزكية ، عند إمكان أعاليها . التاسع : أشعر قوله تعالى : { حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } بالنهي عن الصلاة حال النعاس ، كما روى الإمام أحمد والبخاري والنسائي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول " وفي رواية : " فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه " . وقد روى ابن جرير عن الضحاك في الآية قال : لم يعن بها سكر الخمر ، وإنما عنى بها سكر النوم . قال ابن جرير : والصواب أن المراد سكر الشراب . قال الرازي : ويدل عليه وجهان : الأول : أن لفظ السكر حقيقة في السكر من شرب الخمر ، والأصل في الكلام الحقيقة . والثاني : أن جميع المفسرين اتفقوا على أن هذه الآية إنما نزلت في شرب الخمر ، وقد ثبت في أصول الفقه أن الآية إذا نزلت في واقعة معينة ، ولأجل سبب معين ، امتنع ألا يكون ذلك السبب مراداً بتلك الآية . العاشر : قال الحافظ ابن كثير : قد يحتمل أن يكون المراد من الآية التعريض بالنهي عن السكر بالكلية ، لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات ، من الليل والنهار ، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما ، والله أعلم . وعلى هذا فيكون كقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] ، وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام ، والمداومة على الطاعة لأجل ذلك . انتهى . الحادي عشر : قال الرازي : قال بعضهم : هذه الآية ، أي : { لاَ تَقْرَبُواْ } الخ منسوخة بآية المائدة ، وأقول : الذي يمكن ادعاء النسخ فيه أن يقال : نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدوداً إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول . والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية ، فهذا يقتضي جواز قربان الصلاة مع السكر إذا صار بحيث يعلم ما يقول ، ومعلوم أن الله تعالى لما حرم الخمر بآية المائدة ، فقد رفع هذا الجواز ، فثبت أن آية المائدة ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية ، هذا ما حضر ببالي في تقرير هذا النسخ . والجواب عنه : أنا بيّنا أن حاصل هذا النهي راجع إلى النهي عن الشرب الموجب للسكر عند القرب من الصلاة ، وتخصيصُ الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه إلا على سبيل الظن الضعيف ، ومثل هذا لا يكون نسخاً . انتهى . { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ } أي : ولم تجدوا بقربكم ماءً تستعملونه ، ومنه فَقْدُ من يناوله إياه ، أو خشيته الضرر به { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ } لا تجدونه فيه { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ } أي : أو كنتم محدثين ، والغائط : هو المكان المنخفض ، فالمجيء منه كناية عن الحدث ، لأن المعتاد أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس . قال الخازن : كانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث ، فكنوا به عن الحدث ، وذلك أن الرجل منهم ، كان إذا أراد قضاء الحاجة ، طلب غائطا من الأرض ، يعني مكاناً منخفضاً منها يحجبه عن أعين الناس ، فسمي الحدَث بهذا الاسم ، فهو من باب تسمية الشيء باسم مكانه . انتهى . وإسناد المجيء إلى واحد مبهم من المخاطبين دونهم ، للتفادي عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا منه أو يستهجن التصريح به ، كذا قاله أبو السعود . ثم قال : وكذلك إيثار الكناية فيما عطف عليه من قوله عز وجل : { أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } على التصريح بالجماع ، قال الشهاب : وفي ذكر { أَحَدٌ } دون غيره إشارة إلى أن الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه . { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } قال المهايميّ : أي فلا تستحيوا من الله ، بل اعتذروا إليه { فَتَيَمَّمُواْ } أي : اقصدوا { صَعِيداً } أي : تراباً أو وجه الأرض { طَيِّباً } أي : طاهراً { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } تعليل للترخيص والتيسير ، وتقرير لهما ، فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين ، لا بد أن يكون ميسراً لا معسراً . وفي هذه الآية مسائل : الأول : الظاهر أن قوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُواْ } راجع إلى جميع ما قبلها وحينئذ لا يجوز التيمم في الكل إلا عند عدم الماء ، وأما ما قيل أنه راجع إلى قوله تعالى : { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } لأنه قد وجد المانع ههنا من تقييد السفر والمرض ، بعدم الوجود للماء ، وهو أن كل واحد منهما عذر مستقل في غير هذا الموضع كالصوم - فلا يفيد ، لأن عدم الوجود معتبر فيهما لإباحة التيمم قطعاً ، إذ ليس السفر بمجرده مبيحاً ، وكذلك المرض . وأما ما يقال من أنه قد يباح للمريض التيمم مع وجود الماء إذا خشي الضرر به ، فعدم الوجود في حقه إذن غير قيد ، فالجواب : أن هذا داخل تحت عدم الماء لأن من تعذر عليه استعماله هو عادم له ، إذ ليس المراد الوجود الذي لا ينفع ، فمن كان يشاهد ماء في قعر بئر ، يتعذر عليه الوصول إليه بوجه من الوجوه ، فهو عادم له ، وهكذا خوف السبيل الذي يسلك إلى الماء ، وهكذا من كان يحتاجه للشرب فهو عادم له ، ولئن سلمنا ، تنزلاً ، أن المراد مطلق الوجود فنقول : المدعي أنه تعالى جوز التيمم للمريض إذا لم يجد الماء ، وليس فيه دلالة على منعه من التيمم عند وجوده لعارض يمنعه من الماء . فإن قيل : من أين تستدلون حينئذ على إباحة تيممه ؟ قلنا : من التحقيق الذي ذكرناه وهو أن المتعذر استعماله معدوم شرعاً وكذا من قوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] وقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [ البقرة : 195 ] ، وقوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ مِنْ حَرَج } [ الحج : 78 ] ومما أخرجه أبو داود وابن ماجة والدارقطنيّ من حديث جابر رضي الله عنه قال : " خرجنا في سفر ، فأصاب رجلاً منا حجر فشجه في رأسه ، ثم احتلم فسأل أصحابه ، فقال : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبيّ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ بذلك فقال : " قتلوه ، قتلهم الله ، ألا سألوا إذ لم يعلموا ؟ فإنما شفاء العيّ السؤال ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر ( ويعصب ) على جرحه ، ثم يمسح عليه ، ويغسل سائر جسده " ومما رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم والدارقطنيّ عن عمرو بن العاص قال : " احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت ، أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح ، فذكروا ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : " يا عمرو ! صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ " فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت : إني سمعت الله يقول : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً " ، فهذا وما قبله يدل على جواز العدول إلى التيمم لخشية الضرر . قال مجد الدين ابن تيمية : في حديث عمرو من العلم ، أن التمسك بالعمومات حجة صحيحة . انتهى . وقد روى ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ } قال : نزلت في رجل من الأنصار كان مريضاً فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم فيناوله فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية . قال ابن كثير : هذا مرسل . الثانية : ما يصدق عليه مفهوم عدم الوجود المقيد بالقيام إلى الصلاة ، هو المعتبر في تسويغ التيمم ، كما هو الظاهر من الآية ، لا عدم الوجود مع طلب مخصوص ، كما قيل : إنه يطلب في كل جهة من الجهات الأربع في ميل أو ينتظر إلى آخر الوقت حتى لا يبقى إلا ما يسع الصلاة بعد التيمم إذ لا دليل على ذلك ، فإذا دخل الوقت المضروب للصلاة ، وأراد المصلي القيام إليها فلم يجد حينئذ ما يتوضأ به ، أو يغتسل في منزله أو مسجده ، أو ما يقرب منهما ، كان ذلك عذراً مسوغاً للتيمم ، فليس المراد بعدم الوجود في ذلك ألا يجده بعد الكشف والبحث وإخفاء السؤال ، بل المراد ألا يكون معه علم أو ظن بوجود شيء منه هنالك ، ولم يتمكن في تلك الحالة من تحصيله بشراء أو نحوه . فهذا يصدق عليه أنه لم يجد الماء عند أهل اللغة ، والواجب حمل كلام الله تعالى على ذلك ، مع عدم وجود عرف شرعيّ ، وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم ما يشعر بما ذكرناه ، فإنه تيمم في المدينة من جدار . كما ثبت ذلك في الصحيحين من دون أن يسال ويطلب ، ولم يصح عنه في الطلب شيء تقوم به الحجة ، فهذا ، كما يدل على وجوب الطلب ، يدل على عدم وجوب انتظار آخر الوقت ، ويدل على ذلك حديث الرجلين اللذين تيمما في سفر ثم وجدا الماء ، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر : فقال صلى الله عليه وسلم للذي لم يعد : " أصبت السنة " ، أخرجه أبو داود والحاكم وغيرهما من حديث أبي سعيد ، فإنه يردّ قول من قال بوجوب الانتظار إلى آخر الوقت على المتيمم ، سواء كان مسافراً أو مقيماً ، كذا في ( الروضة الندية ) . الثالثة : دلت الآية على أن المسافر إذا لم يجد الماء تيمم ، طال سفره أو قصر . الرابعة : قرئ في السبع ( لامستم ولمستم ) والملامسة واللمس يردان ، لغةً بمعنى : الجس باليد ، وبمعنى : الجماع ، قال المجد في ( القاموس ) لمس يلمِسه ويلمُسه : مسّه بيده ، والجارية جامعها ، ثم قال : والملامسة المماسة والمجامعة . ومن ثمة اختلف المفسرون والأئمة في المعنيّ بذلك هنا ، فمن قائل بأن اللمس حقيقةٌ في الجس باليد ، مجازٌ في غيره ، والأصل حمل الكلام على حقيقته لأنه الراجح ، لا سيما على قراءة ( لمستم ) إذ لم يشتهر في الوقاع كالملامسة ، وروي عن ابن مسعود من طرق متعددة أنه قال : الملامسة ما دون الجماع ، وعنه : القبلة من المس وفيها الوضوء ، رواهما ابن جرير . وروى الطبرانيّ بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال : يتوضأ الرجل من المباشرة ، ومن اللمس بيده ، ومن القبلة ، وكان يقول في هذه الآية : { أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } : هو الغمز . وروى ابن جرير عن نافع أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة ، ويرى فيها الوضوء ، ويقول : هي من اللَّماس . وذكر ابن أبي حاتم أنه روي عن كثير من التابعين نحو ذلك ، قالوا : ومما يؤيد بقاء اللمس على معناه الحقيقيّ قوله تعالى : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَٰباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } [ الأنعام : 7 ] ، أي : جسّوه … وقال صلى الله عليه وسلم لماعز ، حين أقر بالزنى ، يعرّض له بالرجوع عن الإقرار : " لعلك قبلت أو لمست ؟ " وفي الحديث الصحيح : " واليد زناها اللمس " وقالت عائشة : قلّ يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا ، فيقبل ويلمس . ومنه ما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة ، وهو يرجع إلى الجس باليد . واستأنسوا أيضاً بالحديث الذي رواه أحمد عن معاذ ؛ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال : يا رسول الله ! ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها ، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئاً إلا أتاه منها غير أنه لم يجامعها ، قال فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ } [ هود : 114 ] الآية ، قال : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " توضأ ثم صلّ " ، قال معاذ : فقلت : يا رسول الله ! أله خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ فقال : " بل للمؤمنين عامة " ورواه الترمذي وقال : ليس بمتصل ، والنسائيّ مرسلاً ، قالوا : فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها . فصل ومن قائل : إن المعنيّ باللمس هنا الجماع ، وذلك لوروده في غير هذه الآية بمعناه ، فدل على أنه من كنايات التنزيل ، قال تعالى : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] ، وقال تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ الأحزاب : 49 ] ، وقال في آية الظهار : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [ المجادلة : 3 ] . وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية : { أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } قال : الجماع . وروى ابن جرير عنه ، قال : إن اللمس والمس والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء ، وقد صح من غير وجه عن ابن عباس أنه قال ذلك ، وقد تقرر أن تفسيره أرجح من تفسير غيره ، لاستجابة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بتعليمه تأويل الكتاب ، كما أسلفنا بيان ذلك في مقدمة التفسير ، ويؤيد عدم النقض بالمس ما رواه مسلم والترمذيّ وصححه عن عائشة قالت : فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد ، وهما منصوبتان ، وهو يقول : " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناءً عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك " . وروى النسائيّ عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي وإني لمعترضته بين يديه اعتراض الجنازة ، حتى إذا أراد أن يوتر مسّني برجله . قال الحافظ ابن حجر في ( التلخيص ) : إسناده صحيح ، وقوله في ( الفتح ) : يحتمل أنه كان بحائل أو أنه خاص به صلى الله عليه وسلم ، تكلف ، ومخالفة للظاهر . وعن إبراهيم التيميّ عن عائشة رضي الله عنها . أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ . رواه أبو داود : والنسائيّ : قال أبو داود : هو مرسل ، إبراهيم التيميّ لم يسمع من عائشة ، وقال النسائيّ : ليس في هذا الباب أحسن من هذا الحديث ، وإن كان مرسلاً ، وصححه ابن عبد البر وجماعة . وشهد له ما تقدم وما رواه الطبرانيّ في المعجم الصغير من حديث عمرة عن عائشة قالت : فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فقلت : إنه قام إلى جاريته مارية ، فقمت ألتمس الجدار فوجدته قائماً يصلي ، فأدخلت يدي في شعره لأنظر : أغتسل أم لا ؟ فلما انصرف قال : " أخذك شيطانك يا عائشة " ، وفيه محمد بن إبراهيم عن عائشة ، قال ابن أبي حاتم : ولم يسمع منها . قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى الله بقوله : { أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } : الجماع دون غيره من معاني اللمس ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ ، ثم أسنده من طرق ، وبه يعلم أن حديث عائشة قرينة صرفت إرادة المعنى الحقيقيّ من اللمس ، وأوجبت المصير إلى معناه المجازيّ . وأما ما روي عن ابن عمر وابن مسعود ، فنحن لا ننكر صحة إطلاق اللمس على الجسّ باليد ، بل هو المعنى الحقيقيّ ، ولكنا ندعي أن المقام محفوف بقرائن توجب المصير إلى المجاز ، وأما قولهم : بأن القبلة فيها الوضوء ، فلا حجة في قول الصحابيّ : لا سيما إذا وقع معارضا لما ورد عن الشارع ، ويؤيد ذلك قول اللغويين ، أن المراد بقول بعض الأعراب للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن امرأته لا تردّ يد لامس ، الكناية عن كونها زانية ، ولهذا قال له صلى الله عليه وسلم : " طلقها " . وأما حديث معاذ الذي استأنسوا به فلا دلالة فيه على النقض ، لأنه لم يثبت أنه كان متوضئاً قبل أن يأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوضوء ، ولا ثبت أنه كان متوضئاً عند اللمس ، فأخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قد انتقض وضوؤه كذا في ( نيل الأوطار ) . وقال ابن كثير : هو منقطع بين ابن أبي ليلى ومعاذ ، فإنه لم يلقه ، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة المكتوبة ، كما تقدم في حديث الصديق : " ما من عبد يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له " ، وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله : { ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 135 ] الآية . الخامسة : التيمم : لغةً ، القصد . يقال : تيممته وتأممته وآممته أي : قصدته ، وأما الصعيد فهو فعيل بمعنى الصاعد . قال الزجاج : الصعيد وجه الأرض ، تراباً كان أو غيره ، لا أعلم اختلافاً بين أهل اللغة في ذلك . وفي ( المصباح ) الصعيد في كلام العرب يطلق على وجوه : على التراب الذي على وجه الأرض ، وعلى وجه الأرض ، وعلى الطريق وفي ( القاموس ) : الصعيد التراب أو وجه الأرض . قال الأزهريّ : ومذهب أكثر العلماء أن الصعيد في قوله تعالى : { صَعِيداً طَيِّباً } هو التراب . انتهى . واحتجوا بما في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً ، وجعلت تربتها لنا طهوراً ، إذا لم نجد الماء " . وفي لفظ : " وجعل ترابها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء " . قالوا : فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان ، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه ، قالوا : وحديث جابر المتفق عليه : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهوراً " ، خصصه ما قبله لأن الخاص يحمل عليه العام ، واحتجوا أيضاً بأن الطيّب لا يكون إلا تراباً . قال الواحديّ : إنه تعالى أوجب في هذه الآية كون الصعيد طيّباً ، والأرض الطيبة هي التي تنبت بدليل قوله تعالى : { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [ الأعراف : 58 ] ، فوجب في التي لا تنبت أن لا تكون طيبة ، فكان قوله : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } أمراً بالتيمم بالتراب فقط ، وظاهر الأمر للوجوب ، واحتجوا أيضاً بآية المائدة ، قالوا : الآية ههنا مطلقة ولكنها في سورة المائدة مقيّدة وهي قوله سبحانه وتعالى : { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } [ المائدة : 6 ] وكلمة ( من ) للتبعيض وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه . قال الزمخشري : وقولهم : إن ( من ) لابتداء الغاية ، قول متعسف ، ولا يفهم أحد من العرب ، من قول القائل : ( مسحت برأسه من الدهن ومن الماء ومن التراب ) إلا معنى التبعيض ، ثم قال : والإذعان للحق أحق من المراء . انتهى . وأجاب القائلون ، بجواز التيمم بالأرض وما عليها ، عن هذه الحجج - بأن الظاهر من لفظ الصعيد : وجه الأرضِ لأنه ما صعد أي : علا وارتفع على وجه الأرض ، وهذه الصفة لا تختص بالتراب . ويؤيد ذلك حديث : " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " ، وهو متفق عليه من حديث جابر وغيره ، وما ثبت في رواية بلفظ : " وتربتها طهوراً " كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة - فهو غير مستلزم لاختصاص التراب بذلك عند عدم الماء ، لأن غاية ذلك أن لفظ التراب دل بمفهومه على أن غيره من أجزاء الأرض لا يشاركه في الطهورية ، وهذا مفهوم لقب لا ينتهض لتخصيص عموم الكتاب والسنة ، ولهذا لم يعمل به من يعتد به من أئمة الأصول ، فيكون ذكر التراب ، في تلك الرواية من باب التنصيص على بعض أفراد العام ، وهكذا يكون الجواب عن ذكر التراب في غير هذا الحديث ، ووجه ذكره أنه الذي يغلب استعماله في هذه الطهارة ، ويؤيد هذا ما ثبت من تيممه صلى الله عليه وسلم من جدار . وأما الاستدلال بوصف الصعيد بالطيب ، ودعوى أن الطيب لا يكون إلا تراباً طاهراً منبتاً لقوله تعالى : { وَٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَٱلَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } [ الأعراف : 58 ] - فغير مفيد للمطلوب إلا بعد بيان اختصاص الطيب بما ذكر ، والضرورة تدفعه ، فإن التراب المختلط بالأزبال أجود إخراجا للنبات ، كذا في ( الروضة الندية ) . وأما الاستدلال بآية المائدة وظهور التبعيض في ( من ) فذاك إذا كان الضمير عائدا إلى الصعيد . قال الناصر في ( الانتصاف ) : وثمة وجه آخر وهو عود الضمير على الحدث المدلول عليه بقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ } إلى آخرها فإن المفهوم منه : وإن كنتم على حدث في حال من هذه الأحوال : سفر أو مرض ، أو مجيء من الغائط ، أو ملامسة النساء فلم تجدوا ماء تتطهرون به من الحدث ، فتيمموا منه ، يقال : تيممت من الجنابة ، قال : وموقع ( من ) على هذا مستعمل متداول ، وهي على هذا الإعراب إما للتعليل أو لابتداء الغاية ، وكلاهما فيها متمكن ، والله أعلم . السادسة : أفاد قوله تعالى : { فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } أن الواجب في التيمم عن وضوء أو غسل هو مسح الوجه واليدين فقط ، وهذا إجماع ، إلا أن في اليدين مذاهب للأئمة ، فمن قائل بأنهما يمسحان إلى المرفقين ؛ لأن لفظ اليدين يصدق في إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين ، كما في آية الوضوء ، وعلى ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة : { فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] ، وقالوا : وحمل ما أطلق ههنا ، على ما قيد في آية الوضوء ، أولى لجامع الطهورية . وروى الشافعيّ عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن الأعرج عن ابن الصمة قال : " مررت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلمت عليه فلم يرد عليّ ، حتى قام إلى الجدار فحتّه بعصا كانت معه ، ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ، ثم رد عليّ " . وهذا الحديث منقطع ، لأن الأعرج ، وهو عبد الرحمن بن هرمز ، لم يسمع هذا من ابن الصمة ، وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة ، وكذا هو مخرج في الصحيحين عن عمير مولى ابن عباس قال : دخلنا على أبي جهيم بن الحارث ، فقال أبو جهيم : " أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل ، فلقيه رجل فسلم عليه ، فلم يردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، حتى أقبل على الجدار ، فوضع يده على الحائط ، فمسح بوجهه ويديه ، ثم ردّ عليه السلام " . ولأبي داود عن نافع قال : انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس ، فقضى ابن عمر حاجته ، فكان من حديثه يومئذ أن قال : مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكة من السكك ، وقد خرج من غائط أو بول ، فسلم عليه فلم يرد عليه ، حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ، ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه ، ثم رد على الرجل السلام ، وقال : " إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام ، إلا أني لم أكن على طهر " . وفي رواية : فمسح ذراعيه إلى المرفقين ، فهذا أجود ما في الباب ، فإن البيهقي أشار إلى صحته ، كذا في ( لباب التأويل ) . قال ابن كثير في حديث أبي داود ما نصه : ولكن في إسناده محمد بن ثابت العبديّ وقد ضعفه بعض الحفاظ ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر ، قال البخاريّ ، وأبو زرعة وابن عديّ : هو الصحيح . وقال البيهقيّ : رَفْعُ هذا الحديث منكر . قال ابن كثير : وذكر بعضهم ما رواه الدارقطنيّ عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين " ، ولكن لا يصح ، لأن في إسناده ضعفاً لا يثبت الحديث به . انتهى . وذلك لأن فيه عليّ بن ظبيان ، قال الحافظ ابن حجر : هو ضعيف ، ضعفه القطان وابن معين وغير واحد ، وبه يعلم أن ما استدل به على إيجاب الضربتين ، مما ذكر ، ففيه نظر ، لأن طرقها جميعها لا تخلوا من مقال ، ولو صحت لكان الأخذ بها متعيناً لما فيها من الزيادة . فصل ذهب الزهريّ إلى أنه يمسح اليدين إلى المنكبين ، ويدل على ذلك ما روي عن عمار بن ياسر قال : تمسّحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد لصلاة الفجر ، فضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا وجوههم مسحة واحدة ، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى ، فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط من بطون أيديهم . أخرجه أبو داود . قال الحافظ في ( الفتح ) : وأما رواية الآباط ، فقال الشافعيّ وغيره : إن كان ذلك وقع بأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم فكل تيمم صح للنبيّ صلى الله عليه وسلم بعده فهو ناسخ له ، وإن كان وقع بغير أمره فالحجة فيما أمر به . فصل والحق الوقوف في صفة التيمم على ما ثبت في الصحيحين من حديث عمار ، من الاقتصار على ضربة واحدة للوجه والكفين . قال عمار : " أجنبت فلم أصب الماء ، فتمعكت في الصعيد وصليت ، فذكرت ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : " إنما كان يكفيك هكذا " ، وضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه " ، متفق عليه . وفي لفظ : " إنما كان يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين " رواه الدارقطنيّ . وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عمار بن ياسر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في التيمم : " ضربة للوجه واليدين " وفي لفظ : " إن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره بالتيمم للوجه والكفين " رواه الترمذي وصححه . قال ابن عبد البر : أكثر الآثار المرفوعة عن عمار ضربة واحدة ، وما روي عنه من ضربتين فكلها مضطربة ، وأما الجواب عن المتفق عليه من حديث عمار بأن المراد منه بيان صورة الضرب ، وليس المراد منه جميع ما يحصل به التيمم - فتكلف واضح ، ومخالفة للظاهر . وقد سرى هذا إلى العلامة السنديّ في ( حواشي البخاريّ ) حيث كتب على حديث عمار ما نصه : قد استدل المصنف ( يعني البخاريّ ) بهذا الحديث على عدم لزوم الذراعين في التيمم في موضع ، وعلى عدم وجوب الضربة الثانية في موضع آخر ، وكذا سيجيء في روايات هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قدم في هذه الواقعة الكفين على الوجه ، فاستدل به القائل لعدم لزوم الترتيب ، فلعل القائل بخلاف ذلك يقول : إن هذا الحديث ليس مسوقاً لبيان عدد الضربات ولا لبيان تحديد اليد في التيمم ولا لبيان عدم لزوم الترتيب ، بل ذلك أمر مفوض إلى أدلة خارجة ، وإنما هو مسوق لرد ما زعمه عمار من أن الجنب يستوعب البدن كله ، والقصر في قوله : " إنما كان يكفيك " معتبر بالنسبة إليه ، كما هو القاعدة أن القصر يعتبر بالنظر إلى زعم المخاطب ، فالمعنى : إنما يكفيك استعمال الصعيد في عضوين : وهما الوجه واليد . وأشار إلى اليد بـ ( الكف ) ، ولا حاجة إلى استعماله في تمام البدن ، وعلى هذا يستدل على عدد الضربات وتحديد اليد ولزوم الترتيب أو عدمه بأدلة أخر ، كحديث : " التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين " ، وغير ذلك ، فإنه صحيح كما نص عليه بعض الحفاظ ، وهو مسوق لمعرفة عدد الضربات وتحديد اليد ، فيقدم على غير المسوق لذلك ، والله تعالى أعلم . انتهى كلامه . وقوله : فإنه حديث صحيح ، فيه ما تقدم . وقد قال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) في ( فصل هديه صلى الله عليه وسلم بالتيمم ) ما نصه : كان صلى الله عليه وسلم يتيمم بضربة واحدة للوجه والكفين ، ولم يصح عنه أنه تيمم بضربتين ، ولا إلى المرفقين . قال الإمام أحمد : من قال : إن التيمم إلى المرفقين فإنما هو شيء زاده من عنده ، وكذلك كان يتيمم بالأرض التي يصلي عليها ، ترابا كانت أو سبخة أو رملاً . وصح عنه أنه قال : " حيثما أدركتْ رجلاً من أمتي الصلاةُ فعنده مسجده وطهوره " ، وهذا نص صريح في أن من أدركته الصلاة في الرمل فالرمل له طهور . ولما سافر صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في غزوة تبوك ، قطعوا تلك الرمال في طريقهم ، وماؤهم في غاية القلة ، ولم يُرْوَ عنه أنه حمل معه التراب ، ولا أمر به ، ولا فعله أحد من أصحابه ، مع القطع بأن في المفاوز ، الرمالُ أكثر من التراب ، وكذلك أرض الحجاز وغيره ، ومن تدبر هذا ، قطع بأنه كان يتيمم بالرمل ، والله أعلم . وهذا قول الجمهور . وأما ما ذكر في صفة التيمم من وضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور اليمنى ، ثم إمرارها إلى المرفق ، ثم إدارة بطن كفه على بطن الذراع ، وإقامة إبهامه اليسرى كالمؤذن إلى أن يصل إلى إبهامه اليمنى ، فيطبقها عليها - فهذا مما يعلم قطعاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يفعله ، ولا علّمه أحداً من أصحابه ، ولا أمر به ، ولا استحسنه ، وهذا هديه ، إليه التحاكم ، وكذلك لم يصح عنه التيمم لكل صلاة ، ولا أمر به ، بل أطلق وجعله قائماً مقام الوضوء . وهذا يقتضي أن يكون حكْمُه حكْمَه ، إلا فيما اقتضى الدليل خلافه . انتهى . السابعة : ذكر هنا الحافظ ابن كثير سبب مشروعية التيمم قال : وإنما ذكرنا ذلك ههنا ، لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة ، وبيانه : أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر ، والخمر إنما حرم بعد أُحُدٍ بيسير ، في محاصرة النبيّ صلى الله عليه وسلم لبني النضير ، وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل ، ولا سيما صدرها ، فناسب أن يذكر السبب هنا ، وبالله الثقة . قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة ، أنها استعارت من أسماء قلادة . فهلكت ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً في طلبها ، فوجدوها . فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء ، فصلوا بغير وضوء ، فشكوْا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل التيمم ، فقال أسيد بن الحضير لعائشة : جزاك الله خيراً ، فوالله ! ما نزل بك أمر تكرهينه ، إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيراً . طريق أخرى : قال البخاريّ : حدثنا عبد الله بن يوسف قال : أنبأنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ، عن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في بعض أسفاره : حتى إذا كنا بالبيداء ، أو بذات الجيش ، انقطع عقد لي . فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء ، وليس معهم ماء ، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فجاء أبو بكر ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي ، قد نام . فقال : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ؟ قالت عائشة : فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول ، فجعل يطعنني بيده في خاصرتي ، فلا يمنعني من التحرك إلا مكانُ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء ، فأنزل الله آية التيمم . فتيمموا . فقال أسيد بن الحضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر . قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته . وقد رواه البخاريّ أيضاً عن قتيبة بن سعيد عن مالك . ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك . انتهى كلام ابن كثير . وأورد الواحديّ في ( أسباب النزول ) هذا الحديث عند ذكر آية النساء أيضاً . وقال ابن العربي : لا نعلم أي الآيتين عنت عائشة . قال ابن بطال : هي آية النساء أو آية المائدة . وقال القرطبي : هي آية النساء ، ووجهه بأن آية المائدة تسمى آية الوضوء ، وآية النساء لا ذكر فيها للوضوء ، فيتجه تخصيصها بآية التيمم . قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : وخفي على الجميع ما ظهر للبخاريّ من أن المراد بها آية المائدة بغير تردد ، لرواية عمرو بن الحارث ، إذ صرح فيها بقوله : فنزلت : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } [ المائدة : 6 ] الآية . وقال الحافظ قبلُ : استدل به ( أي بحديث عائشة ) على أن الوضوء كان واجباً عليهم قبل نزول آية الوضوء ، ولهذا استعظموا نزولهم على غير ماء ، ووقع من أبي بكر في حق عائشة ما وقع . قال ابن عبد البر : معلوم عند جميع أهل المغازي أنه صلى الله عليه وسلم لم يصلّ منذ افترضت الصلاة عليه إلا بوضوء ، ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند ، قال : وفي قوله في هذا الحديث ( آية التيمم ) إشارة إلى أن الذي طرأ عليهم من العلم حينئذ حكم التيمم لا حكم الوضوء ، قال : والحكمة في نزول آية الوضوء مع تقدم العمل به ، ليكون فرضه متلوّاً بالتنزيل . قال السيوطيّ في ( لباب النقول ) بعد تصويب هذا الكلام : فإن فرض الوضوء كان مع فرض الصلاة بمكة ، والآية مدنية . انتهى . وقال الحافظ ابن حجر أيضاً في قول أسيد ( ما هي بأول بركتكم ) : يشعر بأن هذه القصة كانت بعد قصة الإفك ، فيقوّى قول من ذهب إلى تعدد ضياع العقد ، وممن جزم بذلك محمد بن حبيب الأخباريّ فقال : سقط عقد عائشة في غزوة ذات الرقاع وفي غزوة بني المصطلق . وقد روى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال : لما نزلت آية التيمم لم أدر كيف أصنع … الحديث . فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بني المصطلق ، لأن إسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة ، وهي بعدها بلا خلاف قال : وسيأتي في المغازي أن البخاريّ يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبي موسى ، وقدومُه كان في وقت إسلام أبي هريرة ، ومما يدل على تأخر القصة عن قصة الإفك ما رواه الطبرانيّ من طريق عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة قالت : لما كان من أمر عقدي ما كان وقال أهل الإفك ما قالوا ، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أخرى فسقط أيضاً عقدي حتى حبس الناس على التماسه ، فقال لي أبو بكر : يا بنية ! في كل سفرة تكونين عناءً وبلاءً على الناس ؟ فأنزل الله عز وجل الرخصة في التيمم . فقال أبو بكر : إنك لمباركة ( ثلاثاً ) ، وفي إسناده محمد بن حميد الرازيّ وفيه مقال ، وفي سياقه من الفوائد بيان عتاب أبي بكر الذي أبهم في حديث الباب ، والتصريح بأن ضياع العقد كان مرتين في غزوتين ، والله أعلم . انتهى كلام الحافظ . وقال الإمام شمس الدين ابن القيّم في ( زاد المعاد ) في ( غزوة المريسيع ، وهي غزوة بني المصطلق ) : إنها كانت في شعبان سنة خمس ، وبعد ذكرها قال : قال ابن سعد : وفي هذه الغزوة سقط عقد لعائشة فاحتبسوا على طلبه ، فنزلت آية التيمم ، ثم ساق حديث الطبرانيّ المتقدم وقال : هذا يدل على أن قصة العقد التي نزل التيمم لأجلها بعد هذه الغزوة ، وهو الظاهر ، ولكن فيها كانت قصة الإفك بسبب فقد العقد والتماسه ، فالتبس على بعضهم إحدى القصتين بالأخرى . انتهى . وقد روي سبب نزول الآية المذكورة أيضاً عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرّس بأولات الجيش ومعه عائشة فانقطع عقد لها من جَزْع ظَفَارِ فحبس الناس ابتغاءُ عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء ، فتغيظ عليها أبو بكر ، وقال : حبست الناس وليس معهم ماء ! فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم رخصة التطهُّر بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئاً ، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الآباط ، ورواه أيضاً ابن جرير عن أبي اليقظان رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلك عقد لعائشة فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الصبح ، فتغيظ أبو بكر على عائشة ، فنزلت عليه الرخصة ، المسح بالصعيد ، فدخل أبو بكر فقال لها : إنك لمباركة ، نزل فيك رخصة ، فضربنا بأيدينا : ضربة لوجوهنا وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط . وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في سبب نزولها وجهاً آخر عن الأسلع بن شريك رضي الله عنه قال : كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض ، فأمرت رجلاً من الأنصار فرحلها ثم رضفت أحجاراً فأسخنت بها ماءً واغتسلت ، ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال : " يا أسلع ! مالي أرى رحلتك قد تغيرت ؟ " قلت : يا رسول الله ! لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال : " ولم ؟ " قلت : إني أصابتني جنابة فخشيت القرّ على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجارا فأسخنت بها ماءً فاغتسلت به ، فأنزل الله عز وجل : { لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ } إلى قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } . قال ابن كثير : وقد روي من وجه آخر ، عنه .