Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 46-46)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ } بيان للموصول وهو { ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَٰبِ } [ النساء : 44 ] فإنه متناول لأهل الكتابين ، وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين منهم ، وتحذيرهم عن مخالطتهم ، والاهتمام بحملهم على الثقة بالله عز وجل ، والاكتفاء بولايته ونصرته . وقوله تعالى : { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } هو وما عطف عليه بيان لاشترائهم بالمذكور ، وتفصيل لفنون ضلالهم ، فقد روعيت في النظم الكريم طريقة التفسير بعد الإبهام ، والتفصيل إثر الإجمال ، روماً لزيادة تقرير يقتضيه الحال ، أفاده أبو السعود . قال الإمام ابن كثير : قوله : { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } أي : يتناولونه على غير تأويله ، ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل ، قصداً منهم وافتراءً . وقال العلامة الرازيّ : في كيفية التحريف وجوه : أحدها : إنهم كانوا يبدلون اللفظ بلفظ آخر . ثم قال : والثاني : أن المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ من معناه الحق إلى معنى باطل بوجوه الحيل اللفظية ، كما يفعله أهل البدعة في زماننا هذا ، بالآيات المخالفة لمذاهبهم ، وهذا هو الأصح . والثالث : أنهم كانوا يدخلون على النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويسألونه عن أمر فيخبرهم ليأخذوا به ، فإذا خرجوا من عنده حرّفوا كلامه . انتهى . وقال الإمام ابن القيّم رحمه الله تعالى في ( إغاثة اللهفان ) : قد اختلف في التوراة التي بأيديهم ، هل هي مبدلة أم التبديل وقع في التأويل دون التنزيل ؟ على ثلاثة أقوال : قالت طائفة : كلها أو أكثرها مبدل ، وغلا بعضهم حتى قال : يجوز الاستجمار بها . وقالت طائفة من أئمة الحديث والفقه الكلام : إنما وقع التبديل في التأويل . قال البخاريّ في ( صحيحه ) : يحرفون : يزيولون ، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله ، ولكنهم يتأولونه على غير تأويله ، وهو اختيار الرازيّ أيضاً . وسمعت شيخنا يقول : وقع النزاع بين الفضلاء ، فأجاز هذا المذهب ووهّى غيره ، فأنكر عليه ، فأظهر خمسة عشر نقلاً به ، ومن حجة هؤلاء ، أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها ، وانتشرت جنوباً وشمالاً ، ولا يعلم عدد نسخها إلا الله ، فيمتنع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ ، حتى لا تبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة ، وهذا مما يحيله العقل ، قالوا : وقد قال الله لنبيه : { قُلْ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عمران : 93 ] قالوا : وقد اتفقوا على ترك فريضة الرجم ، ولم يمكنهم تغييرها من التوراة ، ولذا لما قرؤوها على النبيّ صلى الله عليه وسلم وضع القارئ يده على آية الرجم ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك فرفعها فإذا هي تلوح تحتها ، وتوسطت طائفة فقالوا : قد زيد فيها وغُيَّر أشياء يسيرة جداً ، واختاره شيخنا في ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) قال : وهذا كما في التوراة عندهم : إن الله سبحانه قال لإبراهيم : اذبح ابنك بكرك أو وحيدك ، إسحاق ، ثم قال : قلت والزيادة باطلة من وجوه عشرة ، ثم ساقها فارجع إليه ، وقد نقلها عنه هنا الإمام صديق خان ، فانظره في تفسيره ( فتح الرحمن ) . لطيفة قال الزمخشري : فإن قلت : كيف قيل ههنا : { عَن مَّوَاضِعِهِ } وفي المائدة : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [ الآية : 41 ] ؟ قلت : أما { عَن مَّوَاضِعِهِ } فعلى ما فسرنا من إزالته عن موضعه التي أوجبت حكمة الله وضعه فيها ، بما اقتضت شهواتهم من إبدال غيره مكانه ، وأما : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [ المائدة : 41 ] فالمعنى أنه كانت له مواضع ، هو فَمِِنٌ بأن يكون فيها ، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له بعد مواضعه ومقارّه ، والمعنيان متقاربان . وقال الرازيّ : ذكر الله تعالى ههنا : { عَن مَّوَاضِعِهِ } وفي المائدة : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [ الآية : 41 ] والفرق : إنا إذا فسرنا التحريف بالتأويلات الباطلة ، فههنا قوله : { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } معناه أنهم يذكرون التأويلات الفاسدة لتلك النصوص ، وليس فيه بيان أنهم يخرجون تلك اللفظة من الكتاب ، وأما الآية المذكورة في سورة المائدة ، فهي دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين ، فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يخرجون اللفظ أيضاً من الكتاب ، فقوله : { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ } إشارة إلى التأويل الباطل وقوله : { مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } [ المائدة : 41 ] إشارة إلى إخراجه عن الكتاب . وقال الناصر في ( الانتصاف ) : الظاهر أن الكلم المحرف إنما أريد به ، في هذه الصورة مثل : { غَيْرَ مُسْمَعٍ } و : { وَرَٰعِنَا } ولم يقصد ههنا تبديل الأحكام ، وتوسطها بين الكلمتين بين قوله : { يُحَرِّفُونَ } وبين قوله : { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } والمراد أيضاً مشاهد بيّن على أن المحرف هما وأمثالهما ، وأما في سورة المائدة فالظاهر ، والله أعلم ، أن المراد فيها بـ : { ٱلْكَلِمَ } الأحكام ، وتحريفها وتبديلها ، كتبديلهم الرجم بالجلد ، ألا تراه عقبه بقوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } [ المائدة : 41 ] ؟ ولاختلاف المراد بالكلم في السورتين ، قيل في سورة المائدة : يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، أي : ينقلونه عن الموضع الذي وضعه الله فيه ، فصار وطنه ومستقره ، إلى غير الموضع ، فبقي كالغريب المتأسف عليه الذي يقال فيه هذا غريب من بعد مواضعه ومقارّه ، ولا يوجد هذا المعنى في مثل : { رَٰعِنَا } و { غَيْرَ مُسْمَعٍ } وإن وجد على بعد فليس الوضع اللغويّ مما يعبأ بانتقاله عن موضعه كالوضع الشرعيّ ، ولولا اشتمال هذا النقل على الهزء والسخرية لما عظم أمره ، فلذلك جاء هنا : { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } غير مقرون ما قرن به الأول من صورة التأسف ، والله أعلم . انتهى . وقال العلامة أبو السعود : والمراد بالتحريف ههنا ، إما ما في التوراة خاصة وإما ما هو أعم منه ، ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودة الصادرة عنهم في أثناء المجاورة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا مساغ لإرادة تلك الكلمات خاصة بأن يجعل عطف قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } وما بعده ، على ما قبله عطفاً تفسيرياً ، لأنه يستدعي اختصاص حكم الشرطية الآتية وما بعدها بهنّ من غير تعرض لتحريفهم التوراة ، مع أنه معظم جناياتهم المعدودة فقولهم : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } ينبغي أن يجري على إطلاقه من غير تقييد بزمان أو مكان ولا تخصيص بمادة دون مادة ، بل وأن يحمل على ما هو أعم من القول الحقيقيّ ومما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ، أي يقولون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبيّ صلى الله عليه وسلم أوْ لا ، بلسان المقال أو الحال : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } عناداً أو تحقيقاً للمخالفة . انتهى . قال ابن كثير : ويقولون سمعنا أي : سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه . هكذا فسره مجاهد وابن زيد ، وهو المراد ، وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم وأنهم يتولون عن كتاب الله بعد ما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة . { وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } عطف على : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } داخل تحت القول أي : ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته - عليه الصلاة والسلام - خاصة ، وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر ، بأن يحمل على معنى { وَٱسْمَعْ } حال كونك غير مسمع كلاماً أصلاً ، بصمم أو موت ، أي : مدعواً عليك بلا سمعت ، أو غير مسمع كلاماً ترضاه ، وللخير بأن يحمل على : اسمع منا غير مسمع مكروهاً ، كانوا يخاطبون به النبيّ صلى الله عليه وسلم استهزاءً به ( عليهم اللعنة ) مظهرين له إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون المعنى الأول مطمئنون به { وَرَٰعِنَا } عطف على ما قبله ، أي : ويقولون في أثناء خطابهم له صلى الله عليه وسلم هذا أيضاً ، وهي كلمة ذات وجهين أيضاً محتملة للخير بحملها على معنى ارقبنا وانظرنا نكلمك ، وللشر بحملها على شبه كلمة عبرانية كانوا يتسابّون بها ، أو على السب بالرعونة أي : الحمق ، وبالجملة فكانوا سخرية بالدين وهزؤاً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، يكلمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام . { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ } أي : فتلاً بها وصرفاً للكلام من وجه إلى وجه وتحريفاً ، أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون : { وَرَٰعِنَا } موضع { وَٱنْظُرْنَا } و : { غَيْرَ مُسْمَعٍ } موضع ( لا أسمعت مكروهاً ) أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقاً ، فإن قلت : كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرحوا وقالوا : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } ؟ قلت : جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء ، ويجوز أن يقولوه فيما بينهم ويجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لما لم يؤمنوا جعلوا كأنهم نطقوا به ، كذا في الكشاف . وأصل : { لَيّاً } لوياً لأنه من لويت أدغمت الواو في الياء لسبقها بالسكون ، ومثله ( الطيّ ) { وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ } أي : قدحاً فيه بالاستهزاء والسخرية وانتصابهما على العليّة لـ { يَقُولُونَ } باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين ، أي : يقولون ذلك لصرف الكلام عن وجهه إلى السب والطعن في الدين ، أو على الحالية ، أي : لاوين وطاعنين في الدين ، أفاده أبو السعود . { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ } أي : عندما سمعوا ما يتلى عليهم من أوامره تعالى : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي : بدل قولهم : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } والقول هنا كسابقه أعم من أن يكون بلسان المقال أو بلسان الحال : { وَٱسْمَعْ } أي : لو قالوا عند مخاطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم بدل قولهم : { ٱسْمَعْ } فقط بلا زيادة { غَيْرَ مُسْمَعٍ } المحتمل للشر : { وَٱنْظُرْنَا } يعني : بدل قولهم : ( راعنا ) المحتمل للمعنى الفاسد كما سلف : { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ } في الدنيا بحقن دمائهم وأموالهم وعلوّ رتبتهم بإحاطة الكتب السماوية ، وفي الآخرة بضعف الثواب ، أفاده المهايميّ . قال أبو السعود : وصيغة التفضيل - إما على بابها واعتبار أصل الفضل في المفضل عليه بناءً على اعتقادهم ، أو بطريق التهكم ، وإما بمعنى اسم الفاعل : { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } أي : ولكن لم يقولوا ذلك واستمروا على كفرهم فطردهم الله عن رحمته وأبعدهم عن الهدى ، بسبب كفرهم : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } منصوب على الاستثناء من { لَّعَنَهُمُ } أي ولكن لعنهم الله إلا فريقاً قليلاً منهم ، آمنوا فلم يلعنوا ، أو على الوصفية لمصدر محذوف ، أي : إلا إيماناً قليلاً أي : ضعيفاً ركيكاً لا يعبأ به ، فإنهم كانوا يؤمنون بالله والتوراة وموسى ، ويكفرون ببقية المرسلين وكتبهم المنزلة ، ورجَّح أبو علي الفارسيّ هذا ، قال : لأن { قَلِيلاً } لفظ مفرد : ولو أريد به ( ناس ) لُجمِعَ نحو قوله : { إِنَّ هَـٰؤُلاۤءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } [ الشعراء : 54 ] ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه قد جاء فعيل مفرداً ، والمراد به الجمع قال تعالى : { وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] ، وقال : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ } [ المعارج : 10 - 11 ] أفاده الرازيّ ، وقد جوز على هذا أن يراد بالقلة : العدم بالكلية ، كقوله : @ قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك @@ أي هو كثير الهم مختلف الوجوه والطرق لا يقف أمله على فن واحد بل يتجاوزه إلى فنون مختلفة ، صبور على النوائب لا يكاد يتشكى منها ، فاستعمل لفظ ( قَليِل ) وأراد به نفي الكل ، أو منصوب على الاستثناء من فاعل { فَلاَ يُؤْمِنُونَ } أي : فلا يؤمن منهم إلا نفر قليل ، وأما قول الخفاجيّ : كان الوجه فيه الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب . وأبي السعود : بأنه فيه نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختار - فمردود بأن النصب عربيّ جيد ، وقد قرئ به في السبع في ( قَلِيلٌ ) من قوله تعالى : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] وفي ( امرأتك ) من قوله تعالى : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ } [ هود : 81 ] ، كما قاله ابن هشام في التوضيح .