Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 47-47)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا } يعني القرآن : { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } أي : موافقاً للتوراة { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } أي : نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم ، وقال العوفيّ عن ابن عباس : طمسها أن تعمى { فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ } أي : فنجعلها على هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها جزاء على الكفر ، فالفاء للتسبيب ، أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع الأقفاء ، والأقفاء إلى موضعها ، وقد اكتفى بذكر أشدهما ، فالفاء للتعقيب . قال الرازي : وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه في الخلقة والمثلة والفضيحة ، لأن ذلك يعظم الغم والحسرة { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ } أي : أو نفعل بهم أبلغ من ذلك ، وهو أن نطردهم عن الإنسانية بالمسخ الكليّ جزاءً على اعتدائهم بترك الإيمان ، كما أخزينا به أوائلهم أصحاب السبت جزاء على اعتدائهم على السبت بالحيلة على الاصطياد ، فمسخناهم قردة { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ } أي : ما أمر به : { مَفْعُولاً } أي : نافذاً كائناً لا محالة ، هذا وفي الآية تأويل آخر ، وهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه ، وهو صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة ، يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم . قال ابن كثير : وهذا كما قال بعضهم في قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يس : 8 - 9 ] أي : مثل هذا سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى ، قال مجاهد : { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } يقول : عن صراط الحق { فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ } أي : في الضلال . قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس والحسن نحو هذا . قال السديّ : { فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ } : فنمنعها عن الحق ، نرجعها كفاراً . قال الرازيّ : والمقصود على هذا بيان إلقائها في أنواع الخذلان وظلمات الضلالات ، ونظيره قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ الأنفال : 24 ] ، تحقيق القول فيه أن الإنسان في مبدأ خلقته ألف هذا العالم المحسوس ، ثم إنه عند الفكر والعبودية كأنه يسافر من عالم المحسوسات إلى عالم المعقولات ، فقدامه عالم المعقولات ، ووراءه عالم المحسوسات ، فالمخذول هو الذي يرد عن قدامه إلى خلفه ، كما قال تعالى في صفتهم : { نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ } [ السجدة : 12 ] . ثم قال الرازي : قال عبد الرحمن بن زيد : هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى ، وتأول ذلك في إجلاء قريظة والنضير إلى الشام ، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام ، كما جاؤوا منها و ( طمس الوجوه ) على هذا التأويل يحتمل معنيين : أحدهما : تقبيح صورتهم ، يقال : طمس الله صورته ، كقوله : قبح الله وجهه ، والثاني : إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها ، وثمة تأويل آخر ، وهو : أن المراد بالوجوه الوجهاء ، على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير ، أي من قبل أن نغيّر أحوال وجهائهم ، فنسلب إقبالهم ووجاهتهم ، ونكسوهم صغاراً وإدباراً . وقال بعضهم : الأظهر حمل قوله : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ } إلخ على اللعن المتعارف ، قال : ألا ترى إلى قوله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ } [ المائدة : 60 ] ، ففصل تعالى بين اللعن وبين مسخهم قردة وخنازير . وأقول : لا يخفى أن جميع ما ذكر من التأويلات ، غير الأول ، لا يساعده مقام تشديد الوعيد ، وتعميم التهديد ، فإن المتبادر من اللفظ الحقيقة ، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذر إرادتها ، ولا تعذر هنا ، كما أن المتبادر من اللعن ، المشبه بلعن أصحاب السبت ، هو المسخ ، وهو الذي تقتضيه بلاغة التنزيل ، إذ فيه الترقي إلى الوعيد الأفظع ، ولا ننكر أن تكون هذه التأويلات مما يشمله لفظ الآية ، وإنما البحث في دعوى إرادتها دون سابقها ، فالحق أن المتبادر من النظم الكريم هو الأول ، لأنه أدخل في الزجر ، ويؤيده ما روي ، أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ولفظه بعد إسناده : عن أبي إدريس عائذ الله الخَوْلانيّ قال : كان أبو مسلم الجليليّ معلم كعب ، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فبعثه إليه ينظر أهو هو ؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة ، فإذا تال يقرأ القرآن ، يقول : { يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ } فاغتسلت ، وإني لأمسّ وجهي مخافة أن أطمس ، ثم أسلمت . وروى ، من غير طريق ، نحوه أيضاً . فإن قيل : قرينة المجاز عدم وقوع المتوعد به ، فالجواب : أن عدم وقوعه لا يعين إرادة المجاز ، إذ ليس في الآية دلالة على تحتم وقوعه إن لم يؤمنوا ، ولو فهم منها هذا فهماً أولياً لكان إيمانهم بعدها إيمان إلجاء واضطرار ، وهو ينافي التكليف الشرعيّ ، إذا لم تجر سنته تعالى بهذا ، بل النظم الكريم في هذا المقام محتمل ابتداء للقطع بوقوع المتوعد به ، ولوقوعه معلقاً بأمره تعالى ومشيئته بذلك ، وهو المراد ، كما ينبىء عنه قوله تعالى : { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } [ الأحزاب : 37 ] أي : ما يأمر به ، ويريد وقوعه ، وإذا كان الوعيد منوطاً بأمره سبحانه فله أن يمضيه على حقيقته وله أن يصرفه لما هو أعلم به ، إلا أن ورود نظم الآية بهذا الخطاب المتبادر في الوقوع غير المعلق ، ليكون أدخل في الترهيب ، ومزجرة عن مخالفة الأمر ، هكذا ظهر لنا الآن ، وهو أقرب مما نحاه المفسرون هنا من أن العقاب منتظر ، أو أنه مشروط بعدم الإيمان ، إلى غير ذلك ، فقد زيفها جميعها العلامة أبو السعود ، ثم اختار أن المراد من الوعيد الأخرويّ ، قال : لأنه لم يتضح وقوعه ، وهذا فيه بُعْدٌ أيضاً ، لنبوّ مثل هذا الخطاب عن إرادة الوعيد الأخرويّ ، لا سيما والجملة الثانية التي هددوا بها ، أعني لعنهم كأصحاب السبت ، كان عقابها دنيوياً ، فالوجه ما قررناه ، وما أشبه هذه الآية ، في وعيديْهَا ، بآية يس ، أعني قوله تعالى : { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } [ يس : 66 - 67 ] ، بل هذه عندي تفسير لتلك ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، فبرح الخفاء والحمد لله . لطيفة الضمير في { نَلْعَنَهُمْ } لأصحاب الوجوه ، أو ( للذين ) على طريقة الالتفات أو ( للوجوه ) إن أريد بها الوجهاء .