Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 65-65)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } في السر ولا يستحقون اسم الإيمان في السر { حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ } يجعلوك حاكماً ويترافعوا إليك : { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أي : فيما اختلف بينهم من الأمور والتبس { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ } في قلوبهم : { حَرَجاً } أي : ضيقاً { مِّمَّا قَضَيْتَ } بينهم { وَيُسَلِّمُواْ } أي : ينقادوا لأمر ويذعنوا لحكمك { تَسْلِيماً } تأكيد للفعل ، بمنزلة تكريره ، أي : تسليماً تامّاً بظاهرهم وباطنهم من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ، كما ورد في الحديث : " والذي نفسي بيده ! لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " . تنبيهات الأول : روى البخاريّ عن الزهريّ عن عروة قال : خاصم الزبير رجلاً في شراج الحرة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك " ، فقال الأنصاري : يا رسول الله ! أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " اسق يا زبير ، ثم احبس الماء ، حتى يرجع إلى الجَدْر ، ثم أرسل الماء إلى جارك " واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري ، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة . قال الزبير : فما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } . قال ابن كثير : هكذا رواه البخاري في ( كتاب التفسير ) في ( صحيحه ) من حديث معمر ، وفي كتاب ( المساقاة ) من حديث ابن جريج ومعمر أيضاً ، وفي كتاب ( الصلح ) من حديث شعيب بن أبي حمزة ، ثلاثتهم عن الزهريّ عن عروة فذكره ، وصورته الإرسال وهو متصل في المعنى ، وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرّح بالإرسال فقال : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيبُ عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان يخاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحَرّة ، كان يستقيان بها كلاهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير : " " اسق ، ثم أرسل الماء إلى جارك " ، فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله ! أن كان ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال للزبير : " اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر " فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ، قبل ذلك ، أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم . قال عروة : فقال الزبير : والله ! ما أحسب هذه الآية أنزلت إلا في ذلك : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } . هكذا رواه الإمام أحمد وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير فإنه لم يسمع منه ، والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله ، فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في ( تفسيره ) ، فقال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب ؛ أن عروة بن الزبير حدثه ؛ أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام ؛ أنه خاصم رجلاً … الحديث ) . قال ابن كثير : وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب به ، ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث به ، وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير ، وهكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير ، والله أعلم . وروى ابن أبي حاتم عن الزهري عن سعيد بن المسيب في هذه الآية قال : نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة ، اختصما في ماء ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقى الأعلى ثم الأسفل . قال ابن كثير : هذا مرسل ، لكن فيه فائدة تسمية الأنصاري . انتهى . قال الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) : وحكى الواحديّ وشيخه الثعلبيّ والمهدويّ أنه حاطب بن أبي بلتعة ، وتعقب بأن حاطباً وإن كان بدريّاً ، لكنه من المهاجرين ، لكن مستند ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عبد العزيز عن الزهريّ عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ … } الآية ، قال : نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة ، اختصما في ماء … الحديث ، وإسناده قويّ مع إرساله ، فإن كان سعيد بن المسيب سمعه من الزبير ، فيكون موصولاً ، وعلى هذا فيؤوّل قوله ( من الأنصار ) على إرادة المعنى الأعم ، كما وقع ذلك في حق غير واحد كعبد الله بن حذافة ، وأما قول الكرمانيّ بأن حاطباً كان حليفاً للأنصار - ففيه نظر . وأما قوله ( من بني أمية بن زيد ) فلعله كان مسكنه هناك ، كعمر ، ثم قال : ويترشح بأن حاطباً كان حليفاً لآل الزبير بن العوام من بني أسد وكأنه كان مجاوراً للزبير ، والله أعلم . أقول : وقع في التفسير المنسوب لابن عباس ، ههنا ، ذكر حاطب بن أبي بلتعة وتلقيبه بالمنافق وإدراجه تحت قوله تعالى : { رَأَيْتَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ } [ النساء : 61 ] وفي صحة هذا عن ابن عباس نظر ، وكيف ؟ وقد كان رضي الله عنه من البدريين ، وقد انتفى النفاق عمن شهدها . قال التوربشتيّ : يحتمل أنه أصدر ذلك منه بادرةُ النفس ، كما وقع لغيره ممن صحت توبته ، إذا لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصرة التي هي المدح ولو شاركهم في النسب ، قال : بل هي زلة من الشيطان تمكن به منها عند الغضب ، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم في تلك الحالة . انتهى . ولما همّ عمر رضي الله عنه بضرب عنقه في قصة الظعينة ، قال حاطب : لا تعجل عليّ يا رسول الله ! والله ! إني لمؤمن بالله ورسوله ، وما ارتددت ولا بدلت ، فأقرّه صلى الله عليه وسلم ، وكفّ عمر عنه ، وقال صلى الله عليه وسلم لعمر : " إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك يا عمر ؟ لعل الله قد اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ، فذرفت عينا عمر … الحديث . ولله در أصحاب الصحاح حيث أبهموا في قصة الزبير اسم خصمه ستراً عليه كيلا يغض من مقامه ، وهكذا ليكن الأدب ، وكفانا أصلا عظيماً في هذا الباب إبهام التنزيل الجليل في كثير من قصصه الكريمة ، فهو ينبوع المعارف والآداب على مرور السنين والأحقاب ، هذا كله على الجزم بأنها نزلت في قصة الزبير وخصمه . وقال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : والراجح رواية الأكثر ، وأن الزبير كان لا يجزم بذلك ، ثم قال الحافظ ابن حجر : وجزم مجاهد والشعبي بأن الآية إنما نزلت فيمن نزلت فيه الآية التي قبلها وهي قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ … } الخ فروى إسحاق بن راهويه في ( تفسيره ) بإسناد صحيح عن الشعبي ، قال : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة ، فدعا اليهوديّ المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة ، ودعا المنافق اليهوديّ إلى حاكمهم ، لأنه علم أنهم يأخذونها ، فأنزل الله هذه الآيات ، إلى { … وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } . وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد ، نحوه . وروى الطبري بإسناد صحيح عن ابن عباس أن حاكم اليهود يومئذ كان أبا برزة الأسلمي قبل أن يسلم ويصحب . وروي بإسناد آخر صحيح إلى مجاهد ؛ أنه كعب بن الأشرف . انتهى . وقال ابن كثير : ذكر سبب آخر غريب جدّاً ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ابن عبد الأعلى قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود قال : اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما ، فقال المقضي عليه : ردنا إلى عمر بن الخطاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم انطلقا إليه " ، فلما أتيا إليه ، فقال الرجل يا ابن الخطاب ! قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا ، فقال : ردنا إلى عمر بن الخطاب فرددنا إليك ، فقال : أكذاك ؟ قال : نعم : فقال عمر : مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما ، فخرج إليهما مشتملا على سيفه فضرب الذي قال : ردنا إلى عمر ، فقتله ، وأدبر الآخر ، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! قتل عمر ، والله ! صاحبي ، ولولا أني أعجزته لقتلني . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن " ، فأنزل الله : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ … } الآية فهدر دم ذلك الرجل وبرئ عمر من قتله ، فكره الله أن يسنّ ذلك بعد ، فأنزل : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } الآية وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود به ، وهو أثر غريب مرسل ، وابن لهيعة ضعيف ، والله أعلم . طريق أخرى : قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في ( تفسيره ) : حدثنا شعيب بن شعيب ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا عتبة بن حمزة ، حدثني أبي أن رجلين اختصما إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل ، فقال المقضي عليه : لا أرضى ، فقال صاحبه : فما تريد ؟ قال : أن نذهب إلى أبي بكر الصديق ، فذهبا إليه ، فقال الذي قضى له : قد اختصمنا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقضى لي ، فقال أبو بكر : أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى صاحبه أن يرضى ، فقال : نأتي عمر بن الخطاب ، فقال المقضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه ، فأبى أن يرضى ، فسأله عمر بن الخطاب ، فقال كذلك فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده سله ، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى ، فقتله ، فأنزل الله : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ … } الآية . انتهى . وقال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : روى الكلبيّ في تفسيره عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهوديّ خصومة ، فقال اليهوديّ : انطلق بنا إلى محمد ، وقال المنافق : بل نأتي كعب بن الأشرف ، فذكر القصة ، وفيه أن عمر قتل المنافق وأن ذلك سبب نزول هذه الآيات وتسمية عمر الفاروق ، وهذا الإسناد ، وإن كان ضعيفاً ، لكن تقوى بطريق مجاهد ، ولا يضره الاختلاف ، لإمكان التعدد . وأفاد الواحدي بإسناد صحيح عن سعيد عن قتادة أن اسم الأنصاري المذكور قيس ، ورجح الطبري في ( تفسيره ) وعزاه إلى أهل التأويل في ( تهذيبه ) أن سبب نزولها هذه القصة ، ليتسق نظام الآيات كلها في سبب واحد ، قال : ولم يعرض بينها ما يقتضي خلاف ذلك . ثم قال : ولا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه وقعت في أثناء ذلك فيتناولها عموم الآية ، والله أعلم . انتهى . قال الرازي : اعلم أن قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } قَسَمٌ من الله تعالى على أنهم لا يصيرون موصوفين بصفة الإيمان إلا عند حصول شرائط : أولها : قوله تعالى : { حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } وهذا يدل على أن من لم يرض بحكم الرسول لا يكون مؤمنا . الشرط الثاني : قوله : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } . واعلم أن الراضي بحكم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يكون راضياً في الظاهر دون القلب ، فبيّن في هذه الآية ، أنه لا بد من حصول الرضا به في القلب ، واعلم أن ميل القلب ونفرته شيء خارج عن وسع البشر ، فليس المراد من الآية ذلك . بل المراد منه أن يحصل الجزم واليقين في القلب بأن الذي يحكم به الرسول هو الحق والصدق . الشرط الثالث : قوله : { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } . واعلم أن من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقاً وصدقاً ، قد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول ، فبيّن تعالى أنه ، كما لا بد في الإيمان من حصول ذلك اليقين في القلب ، فلا بد أيضاً من التسليم معه في الظاهر ، فقوله : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } المراد به الانقياد في الباطن ، وقوله : { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } المراد منه الانقياد في الظاهر ، والله أعلم . الثالث : قال الرازي : ظاهر الآية يدل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس ، لأنه لا يدل على أنه يجب متابعة قوله وحكمه على الإطلاق وأنه لا يجوز العدول منه إلى غيره ، ومثل هذه المبالغة المذكورة في هذه الآية قلما يوجد في شيء من التكاليف ، وذلك يوجب تقديم عموم القرآن والخبر على حكم القياس ، وقوله : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } مشعر بذلك ، لأنه متى خطر بباله قياس يفضي إلى نقيض مدلول النص ، فهناك يحصل الحرج في النفس ، فبيّن تعالى أنه لا يكمل إيمانه ، إلا بعد ألا يلتفت إلى ذلك الحرج ، ويسلم النص تسليماً كليّاً ، وهذا الكلام قويّ حسن لمن أنصف . الرابع : ( لا ) في قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ } قيل : إنها ردٌّ لمقدَّر ، أي : تفيد نفي أمر سبق ، والتقدير : ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ، ثم استأنف القسم بقوله : { وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ } وقيل : مزيدة لتأكيد النفي الذي جاء فيما بعد أعني الجواب ، لأنه إذا ذكر في أول الكلام وفي آخره كان أوكد وأحسن ، وقيل : إنها مزيدة لتأكيد معنى القسم ، وارتضاه الزمخشري ، قال كما زيدت في : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] لتأكيد وجوب العلم ، قال في ( الانتصاف ) يشير إلى أن ( لا ) لما زيدت مع القسم ، وإن لم يكن المقسم به ، دَلَّ ذلك على أنها إنما تدخل فيه لتأكيد القسم ، فإذا دخلت حيث يكون المقسم عليه نفياً ، تعين جعلها لتأكيد القسم ، طرداً للباب ، أو الظاهر عنده ، والله أعلم ، أنها هنا لتوطئة النفي المقسم عليه ، والزمخشريّ لم يذكر مانعاً من ذلك ، وحاصل ما ذكره مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات ، وذلك لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة ، على أن في دخولها على القسم المثبت نظراً ، وذلك أنها لم ترد في الكتاب العزيز إلا مع القسم حيث يكون بالفعل ، مثل : { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } [ البلد : 1 ] { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [ القيامة : 1 ] { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ } [ التكوير : 15 ] { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } [ الواقعة : 75 ] { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } [ الحاقة : 38 - 39 ] ، ولم تدخل أيضاً إلا على القسم بغير الله تعالى ، ولذلك سرٌّ يأبى كونها في هذه الآية لتأكيد القسم ويعين كونها للتوطئة : وذلك أن المراد بها في جميع الآيات التي عددناها تأكيد تعظيم المقسم به ، إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له ، فكأنه بدخولها يقول : إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها ، كلا إعظام ، يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك ، وهذا التأكيد إنما يؤتى به رفعاً لتوهم كون هذه الأشياء غير مستحقة للتعظيم ، وللإقسام بها ، فيزاح هذا الوهم بالتأكيد ، في إبراز فعل القسم مؤكدا بالنفي المذكور ، وقد قرر الزمخشري هذا المعنى في دخول ( لا ) عند قوله : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [ القيامة : 1 ] على وجه مجمل ، هذا بسطه وإيضاحه ، فإذا بين ذلك ، فهذا الوهم الذي يراد إزاحته في القسم بغير الله ، مندفع في الإقسام بالله ، فلا يحتاج إلى دخول ( لا ) مؤكدة للقسم ، فيتعين حملها على الموطئة ، ولا تكاد تجدها ، في غير الكتاب العزيز ، داخلة على قسم مثبت ، وأما دخولها في القسم ، وجوابه نفي ، فكثير مثل : @ فَلاَ وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيّ لاَ يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنّي أَفرّ @@ وكقوله : @ أَلاَ نَادَتْ أُمَامَةُ باحتمالٍ لِتَحْزُنَنِي ، فَلاَ بِكِ مَا أُبَالِي @@ وقوله : @ رَأَى بَرْقَا فَأوْضع فوق بَكْرٍ فَلاَ بِكِ مَا أَسَال وَلا أغاما @@ وقوله : @ فَخَالِفْ فَلاَ واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً من الأرض إلاَّ أنت للذلِّ عَارِفُ @@ وهو أكثر من أن يحصى ، فتأمل هذا الفصل فإنه حقيق بالتأمل . انتهى . الخامس : أعلم أن كل حديث صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأن رواه جامعو الصحاح ، أو صححه من يرجع إليه في التصحيح من أئمة الحديث ، فهو مما تشمله هذه الآية ، أعني قوله تعالى : { مِّمَّا قَضَيْتَ } فحينئذ يتعين على كل مؤمن بالله ورسوله الأخذ به وقبوله ظاهراً وباطناً ، وإلا بأن التمس مخارج لرده أو تأويله ، بخلاف ظاهره ، لتمذهبٍ تقلَّده وعصبية رُبِيَ عليها ، كما هو شأن المقلدة أعداء الحديث وأهله - فيدخل في هذا الوعيد الشديد المذكور في هذه الآية ، الذي تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة . قال الإمام الشافعيّ في الرسالة التي أرسلها إلى عبد الرحمن بن مهديّ : أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه قال : أرسله عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا ، فذهبت معه إلى عمر ، فسأل عن وليدة من ولائد الجاهلية ، فقال : أما الفراش فلفلان ، وأما النطفة فلفلان ، فقال : صدقت ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالفراش . قال الشافعي : وأخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذئب قال : أخبرني مخلد بن خفاف قال : ابتعت غلاماً فاستغللته ، ثم ظهرتُ منه على عيب فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز ، فقضى لي برده ، وقضى عليّ برد غلته ، فأتيت عروة فأخبرته فقال : أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مثل هذا ، أن الخراج بالضمان ، فعجلت إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر بن عبد العزيز : فَمَا أَيْسَرَ عَلَيَّ من قضاء قضيتُه ، واللهُ يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق - فبلغتني فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج الذي قضى به عليّ له . قال الشافعيّ : وأخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب قال : قضى سعيد بن إبراهيم على رجل بقضيةٍ ، برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، فأخبرته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بخلاف ما قضى به ، فقال سعد لربيعة : هذا ابن أبي ذئب ، وهو عندي ثقة ، يخبرني عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بخلاف ما قضيت به ، فقال له ربيعة : قد اجتهدتَ ومضى حكمك ، فقال سعد : واعجباً ، أنفذ قضاء سعد بن أم سعد وأردّ قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ! بل أرد قضاء سعد بن أم سعد بن أم سعد وأنفذ قضاء رسول لله صلى الله عليه وسلم ، فدعى سعد بكتاب القضية فشقه ، فقضى للمقضيّ عليه . قال الشافعيّ : أخبرنا أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابيّ ، قال : حدثني ابن أبي ذئب عن المقبريّ عن أبي شريح الكعبيّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح : " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود " قال أبو حنيفة : فقلت لابن أبي ذئب : أتأخذ بهذا ، يا أبا الحارث ؟ فضرب صدري وصاح عليّ صياحاً كثيراً ، ونال منيّ وقال : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أتأخذ به ؟ نعم ، آخذ به ، وذلك القرض عليّ وعلى من سمعه ، إن الله تبارك وتعالى اختار محمداً صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه ، واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه ، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين داخرين ، لا مخرج لمسلم من ذلك . وما سكت حتى تمنيت أن يسكت . انتهى . قال الإمام الفُلاّني في ( إيقاظ الهمم ) بعد نقل ما مرّ : تأمل فعل عمر بن الخطاب وفعل عمر بن عبد العزيز وفعل سعد بن إبراهيم ، يظهر لك أن المعروف عند الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعند سائر العلماء المسلمين ، أن حكم الحاكم المجتهد ، إذا خالف نص كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجب نقضه ومنع نفوذه ، ولا يعارَض نص الكتاب والسنة بالاحتمالات العقلية والخيالات النفسانية والعصبية الشيطانية ، بأن يقال : لعلّ هذا المجتهد قد اطلع على هذا النص وتركه لعلةٍ ظهرت له ، أو أنه اطلع على دليل آخر ، ونحو هذا ، مما لهج به فرق الفقهاء المعصبين ، وأطبق عليه جهلة المقلدين فافهم . انتهى . وقال وليّ الدين التبريزيّ في ( مشكاة المصابيح ) في ( الفصل الثالث عشر ) من ( باب الجماعة وفضلها ) : وعن بلال بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم " ، فقال بلال : والله ! لنمنعهن ، فقال عبد الله : أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول أنت : لنمنعهن ؟ ( وفي رواية سالم عن أبيه ) قال : فأقبل عليه عبد الله فسبه سبّاً ما سمعت سبه مثله قط ، وقال : أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقول : والله ! لنمنعهن . رواه مسلم ، وعن مجاهد عن عبد الله بن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المساجد " ، فقال ابنٌ لعبد الله بن عمر : فإنَّا نمنعهن ، فقال عبد الله : أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول هذا ؟ قال : فما كلمه عبد الله حتى مات ، رواه الإمام أحمد . وقال الطيبيّ شارح ( المشكاة ) : عجبت ممن سميّ بالسنيّ ، إذا سمع من سنة رسول الله وله رأي ، رجح رأيه عليها ، وأيّ فرق بينه وبين المبتدع ؟ أما سمع : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " ؟ وها هو ابن عمر ، وهو من أكابر الصحابة وفقهائها ، كيف غضب لله ورسوله وهجر فلذة كبده لتلك الهنة ، عبرة لأولي الألباب . وروى الإمام مسلم في ( صحيحه ) في ( كراهة الخذف ) قبيل ( كتاب الأضاحي ) ، عن سعيد بن جبير أن قريباً لعبد الله بن مغفل خذف ، قال فنهاه وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف ، وقال : " إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدوّاً ، ولكنها تكسر السن ، وتفقأ العين " فقال فعاد ، فقال : أحدثك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ثم تخذف ، لا أكلمك أبداً . قال النوويّ : فيه جواز هجران أهل البدع والفسوق ، وأنه يجوز هجرانهم دائماً ، فالنهي عنه فوق ثلاثة أيام إنما هو في هجرٍ لحظ نفسه ومعايش الدنيا ، وأما هجر أهل البدع ، فيجوز على الدوام ، كما يدل عليه هذا مع نظائر له ، لحديث كعب بن مالك . قال السيوطيّ : وقد ألفت مؤلفاً سميته ( الزجر بالهجر ) لأني كثير الملازمة لهذه السنة . ا . هـ . أقول : حديث الخذف ساقه الحافظ الدارميّ في ( سننه ) تحت باب ( تعجيل عقوبة من بلغه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث فلم يعظمه ولم يوقره ) ورواه من طرق متنوعة ، وفي بعضها : أحدثك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخذف ثم تخذف ؟ والله ! لا أشهد لك جنازة ولا أعودك في مرض ولا أكلمك أبداً . وأسند الدارميّ في هذا الباب عن قتادة عن ابن سيرين ؛ أنه حدث رجلاً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل : قال فلان وفلان : كذا وكذا ! فقال ابن سيرين : أحدثك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وتقول : قال فلان وفلان ؟ لا أكلمك أبداً ، وأسند أيضاً فيه عن عبد الرحمن بن حرملة قال : جاء رجل إلى سعيد بن المسيب يودعه بحج أو عمرة ، فقال له : لا تبرح حتى تصلي ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق ، إلا رجل أخرجته حاجة وهو يريد الرجعة إلى المسجد " ، فقال : إن أصحابي بالحرة ، قال فخرج ، قال : فلم يزل سعيد يولَع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه . وذكر الدراميّ رضي الله عنه قبل هذا الباب ( باب ما يتّقى من تفسير حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم وقول غيره عند قوله صلى الله عليه وسلم ) وأسند عن معتمر عن أبيه عن ابن عباس أنه قال : أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال فلان . قال الإمام شمس الدين بن القيّم في ( إعلام الموقعين ) : ترى كثيراً من الناس إذا جاء الحديث يوافق قول من قلده ، وقد خالفه راويه يقول : الحجة فيما روى لا في قوله ، فإذا جاء قول الراوي موافقاً لقول من قلده ، والحديث يخالفه قال : لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نسخه ، وإلا كان قدحاً في عدالته ، فيجمعون في كلامهم بين هذا وهذا ، بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد ، وهذا من أقبح التناقض ، والذي ندين لله به ، ولا يسعنا غيره ، أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه ، أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه وترك كل ما خالفه ، ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائناً من كان ، لا راويه ولا غيره : إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديث ولا يحضره وقت الفتيا ، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة ، أو أن يتأول فيه تأويلاً مرجوحاً ، أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارضاً في نفس الأمر ، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه ، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه ، ولو قدّر انتقاء ذلك كله ، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه ، لم يكن الراوي معصوماً ، ولم توجب مخالفته ، لما رواه سقوط عدالته ، حتى تغلب سيئاته حسناتِه ، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك . ا . هـ . وقال الفُلاّنيّ رحمه الله تعالى في ( الإيقاظ ) : قال عثمان بن عمر : جاء رجل إلى مالك بن أنس فسأله عن مسألة فقال له : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا ، فقال الرجل : أرأيتَ ؟ فقال مالك : { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النور : 63 ] قال مالك : لم تكن من فتيا الناس أن يقال لهم : لِمض قلت هذا ؟ كانوا يكتفون بالرواية ويرضون بها . قال الجنيد رضي الله عنه : الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم . ا . هـ . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( فتوى له ) : قد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أن الله تعالى افترض على العباد طاعته وطاعة رسوله ، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه ، في كل ما أمر به ونهى عنه ، إلا رسوله صلى الله عليه وسلم ، حتى كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيّها صلى الله عليه وسلم ورضي عنه يقول : أطيعوني ما أطعت الله ، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ، واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوماً في كل ما أمر به ونهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال غير واحد من الأئمة : كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء الأئمة الأربعة قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه ، وذلك هو الواجب ، وقال أبو حنيفة : هذا رأيي ، وهذا أحسن ما رأيت ، فمن جاء برأي خير منه قبلناه ، ولهذا ، لما اجتمع أفضل أصحابه ، أبو يوسف بإمام دار الهجرة ، مالك بن أنس وسأله عن مسألة الصاع ، وصدقة الخضروات ، ومسألة الأحباس ، فأخبره مالك رضي الله عنه بما دلت عليه السنة في ذلك - فقال : رجعت لقولك يا أبا عبد الله ، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت . ومالك رحمه الله كان يقول : إنما أنا بشر أصيب وأخطئ فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة : أو كلام هذا معناه . والشافعي رحمه الله كان يقول : إذا صح الحديث بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط ، وإذا رأيت الحجة موضوعة على طريق فهي قولي . ثم قال ابن تيمية : وإذا قيل لهذا المستفني المسترشد : أنت أعلم أم الإمام الفلانيّ ؟ كانت هذه معارضة فاسدة ، لأن الإمام الفلانيّ قد خالفه في هذه المسألة من هو نظيره من الأئمة ، ولست من هذا ولا من هذا ، ولكن نسبة هؤلاء الأئمة إليّ نسبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبن مسعود وأبيّ ومعاذ ونحوهم إلى الأئمة وغيرهم ، فكما أن هؤلاء الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع ، فإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله وإلى رسوله ، وإن كان بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر ، وكذلك موارد النزاع بين الأئمة ، وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما في مسألة تيمم الجنب ، وأخذوا بقول أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه وغيره ، لما احتج بالكتاب والسنة ، وتركوا قول عمر رضي الله عنه في دية الأصابع ، وأخذوا بقول معاوية بن أبي سفيان ، لما كان من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " هذه وهذه سواء " ، وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس رضي الله عنهما في المتعة ، فقال له : قال أبو بكر وعمر ، فقال ابن عباس : يوشك أن ينزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر ، وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما ، لما سألوه عنها ، فأمر بها فعارضوه بقول عمر ، فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه ، فألحوا عليه فقال لهم ، أرسول الله أحق أن يتبع أم عمر ؟ مع علم الناس بأن أبا بكر وعمر أعلم من ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ، ولو فتح هذا الباب لأوجب أن يعرض عن أمر الله ورسوله ، وبقي كل إمام في أتباعه بمنزلة النبيّ في أمته ، وهذا تبديل للدين وشبيه بما عاب الله به النصارى في قوله : { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] ، والله سبحانه أعلم . انتهى . وقال الإمام ابن القيّم في خطبة ( زاد المعاد ) : فالله سبحانه علق سعادة الدارين بمتابعته صلى الله عليه وسلم ، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته ، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح والعزة والكفاية والنصرة والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة ، ولمخالفيه الذلة والصغار والخوف والضلال والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة ، وقد أقسم صلى الله عليه وسلم بأن لا يؤمن أحد حتى يكون هو أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين . وأقسم سبحانه بأنه لا يؤمن من لم يحكّمه في كل ما تنازع فيه هو وغيره ، ثم يرضى بحكمه ، ولا يجد في نفسه حرجاً مما حكم به ، ثم يسلم له تسليما ، وينقاد له انقياداً . وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : 36 ] ، فقطع سبحانه وتعالى التخيير بعد أمره وأمر رسوله ، فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره صلى الله عليه وسلم ، بل إذا أمر فأمره حتم ، وإنما الخيرة في قوله غيره ، إذا خفي أمره ، وكان ذلك الغير من أهل العلم به وبسنته . فبهذه الشروط يكون قول غيره سائغ الاتْباع ، لا واجب الاتّباع ، فلا يجب على أحدٍ اتباع قول أحدٍ سواه ، بل غايته أنه يسوغ له اتباعه ، ولو ترك الأخذ بقول غيره ، لم يكن عاصياً لله ورسوله ، فأين هذا ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه ، ويحرم عليهم مخالفته ، ويجب عليهم ترك كل قول لقوله ، فلا حكم لأحد معه ، ولا قول لأحد معه ، كما لا تشريع لأحد معه ، وكل حيّ سواه ، فإنما يجب اتباعه على قوله ، إذا أمر بما أمر به ونهى عما نهى عنه ، فكان مبلغاً محضاً ومُخبرا ، لا منشئاً ومؤسساً ، فمن أنشأ أقوالاً وأسس قواعد ، بحسب فهمه وتأويله ، لم يجب على الأمة اتباعها ولا التحاكم إليها ، حتى تعرض على ما جاء به ، فإن طابقته ووافقته وشهد لها بالصحة ، قبلت حينئذ ، وإن خالفته وجب ردها واطراحها ، وإن لم يتبين فيها أحد الأمرين ، جعلت موقوفة ، وكان أحسن أحوالها أن يجوز الحكم والإفتاء بها ، وأما أنه يجب ويتعين ، فَكَلاّ . انتهى .