Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 77-77)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ } وهم المؤمنون عند استئذانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال ، قبل أن يؤمروا به { كُفُّوۤاْ أَيْدِيَكُمْ } أي : عن القتال ، فإنكم لم تؤمروا به { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ } أي : أتموا الصلوات الخمس بوضوئها وركوعها وسجودها ، وما يجب فيها من مواقيتها ، وأعطوا زكاة أموالكم { فَلَمَّا كُتِبَ } أي : فرض { عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ } أي : الجهاد في سبيل الله حين قوي حالهم { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } أي : طائفة منهم وهم المنافقون ، وإدخالهم مع المؤمنين لما كانوا يظهرونه من أنفسهم أنهم منهم { يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ } أي : يخافون أهل مكة الكفار أن يقتلوهم { كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ } أي : كما يخشون الله أن ينزل عليهم بأسه { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } أي : أكثر خوفاً منه . فإن قيل : ظاهر قوله : { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } يوهم الشك ، وذلك على علام الغيوب محال ، أجيب : بأن { أَوْ } إما بمعنى ( بل ) أو هي للتنويع على أن معنى : أن خشية بعضهم كخشية الله ، وخشية بعضهم أشد منها ، أو للإبهام على السامع ، بمعنى أنهم على إحدى الصفتين من المساواة والشدة ، وهو قريب مما في قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] يعني أن من يبصرهم يقول : إنهم مائة ألف أو يزيدون . تنبيه حكى المفسرون هنا رواية عن ابن عباس ، أن هذه الآية نزلت في جماعة من الصحابة المهاجرين وأنهم كانوا يلقون من مشركي مكة ، قبل الهجرة ، أذى شديداً ، فيشكون ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقولون : ائذن لنا في قتالهم ، فيقول لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم : " كفوا أيدكم ، فإني لم أومر بقتالهم ، واشتغلوا بإقامة دينكم من الصلاة والزكاة " ، ثم بعد الهجرة إلى المدينة ، لما أمروا بقتالهم في وقعة بدر ، كرهه بعضهم ، فنزلت الآية . وعندي : أن هذه الآية كسوابقها نزلت في المنافقين ، تقريعاً لهم وتحذيراً للمخلصين ، من شاكلتهم ، والقول بنزولها في بعض المؤمنين لا يصح لوجوه : منها - أن في إسنادها عن ابن عباس من ليس على شرط الصحيح . ومنها - أن طلبهم للجهاد وهم في مكة ، مع قلة العدَد والعُدَد ، وممالأة العدوّ عليهم من كل جانب - في غاية البعد . ومنها - أن السياق في المنافقين : وقد ابتدئ الكلام في شأنهم من قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ } [ النساء : 60 ] - إلى قوله تعالى الآتي - : { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ … } [ النساء : 89 ] الآية ، كما يظهر من التدبر الصادق ومنها - أن هذا السياق اشتمل على أمور تدل على أنها مختصة بالمنافقين ، لأنه تعالى قال في وصفهم : { يَخْشَوْنَ ٱلنَّاسَ كَخَشْيَةِ ٱللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } . ولا يكون هذا الوصف إلا لكافر أو منافق . وحكى تعالى عنهم أنهم قالوا : { وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ } ولم يعهد هذا عن المؤمنين ، بل المحفوظ مبادرتهم للجهاد ، كما روى ابن إسحاق في ( السيرة ) أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استشار الناس في غزوة بدر ، فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن ، ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! امض لما أراك الله ، فنحن معك ، والله ! لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق ! لو سرت بنا إلى بَرْك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه . ثم قال سعد بن معاذ : امض ، يا رسول الله ! لما أردت ، فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق ! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا لصُبُرٌ في الحرب صُدُقٌ في اللقاء . ومنها - أنه تعالى ذكر بعد ذلك قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] ، ولا شك أن هذا من كلام المنافقين ، ثم صرح تعالى في آخر الكلام عليهم بقوله : { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } [ النساء : 88 ] فزال اللبس وبرح الخلفاء . وما أشبه هذه الآيات بقوله تعالى في ( سورة محمد ) : { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } [ محمد : 20 ] أي : تأمرنا بالجهاد - { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا ٱلْقِتَالُ رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } [ محمد : 20 ] إلى قوله : { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ ٱللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } [ محمد : 29 ] . { وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا ٱلْقِتَالَ } أي : الجهاد في سبيلك { لَوْلاۤ أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي : هلا عافيتنا وتركتنا حتى نموت بآجالنا { قُلْ } أي : تزهيداً لهم فيما يؤملونه بالقعود من المتاع الفاني ، وترغيباً فيما ينالونه بالجهاد من النعيم الباقي { مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا } أي : ما يتمتع وينتفع به في الدنيا { قَلِيلٌ } سريع التقضي ، وشيك الانصرام ، وإن أخرتم إلى ذلك الأجل { وَٱلآخِرَةُ } أي : ثوابها الذي من جملته الثواب المنوط بالجهاد { خَيْرٌ } أي : لكم من ذلك المتاع الفاني لكثرته وعدم انقطاعه ، وصفائه عن الكدورات ، وإنما قيل : { لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ } حثاً لهم على اتقاء العصيان والإخلال بموجب التكليف . { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } عطف على مقدر ، ينسحب عليه الكلام ، أي : تجزون ولا تنقصون أدنى شيء من أجور أعمالكم ، التي من جملتها مسعاكم في شأن القتال ، فلا ترغبوا عنه . ( والفتيل ) ما في شق النواة من الخيط ، يضرب به المثل في القلة والحقارة . وقرئ : ( يظلمون ) بالياء ، إعادة للضمير إلى ظاهر ( مَن ) ، أفاده أبو السعود . روى ابن أبي حاتم قال : قرأ الحسن : { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ } [ النساء : 77 ] ، قال : رحم الله عبداً صحبها على حسب ذلك ، وما الدنيا كلها ، أولها وآخرها ، إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه ، وقال ابن معين : كان أبو مصهر ينشد : @ ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب فإن تُعجب الدنيا رجالاً فإنها متاع قليل والزوال قريب @@ ثم بين تعالى أنه لا ينفعهم الفرار من الموت ، لأنه لا خلاص لهم منه ، بقوله : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ٱلْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ … } .