Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 93-93)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } لقتله { فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } إذ قتل وليّه عمداً . { وَلَعَنَهُ } أي : أبعده عن الرحمة { وَأَعَدَّ لَهُ } وراء ذلك { عَذَاباً عَظِيماً } أي : فوق عذاب سائر الكبائر ، سوى الشرك . قال الإمام ابن كثير : هذا تهديد شديد ووعد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم ، الذي هو مقرون بالشرك بالله ، في غير ما آية في كتاب الله ، حيث يقول سبحانه ي سورة ( الفرقان ) : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ … } [ الفرقان : 68 ] الآية ، وقال تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً … } [ الأنعام : 151 ] الآية ، والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً . فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء " وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال المؤمن مُعْنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً ، فإذا أصاب دماً حراماً بلّح " وفي حديث آخر : " لَزَوَالُ الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم " قلت : رواه الترمذيّ والنسائيّ عن ابن عمرو . وفي الحديث الآخر : " لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم لكبهم الله في النار " قلت : رواه الترمذيّ عن أبي سعيد وأبي هريرة بلفظ : " لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله عز وجل في النار " وفي الحديث الآخر : " من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله " قلت : رواه ابن ماجة عن أبي هريرة . وقد كان ابن عباس يرى أن لا توبة لقاتل المؤمن عمداً . وقال البخاري : حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا المغيرة بن النعمان قال : سمعت ابن جبير ، قال : اختلف فيها أهل الكوفة ، فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها ، فقال : نزلت هذه الآية : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } هي آخر ما نزل وما نسخها شيء . وكذا رواه هو أيضاً ومسلم والنسائي من طرقٍ عن شعبة ، به . ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن ابن مهديّ عن سفيان الثوري عن مغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } فقال : ما نسخها شيء . وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : قال لي عبد الرحمن بن أبزى : سئل ابن عباس عن قوله : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً . … } الآية ، فقال : لم ينسخها شيء ، وقال في هذه الآية : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] إلى آخرها ، قال : نزلت في أهل الشرك . وروى ابن جرير أيضاً عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } ، قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام ، وشرائع الإسلام ، ثم قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم ، ولا توبة له ، فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إلا من ندم . وروى الإمام أحمد عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس ، أن رجلاً أتى إليه فقال : أرأيت رجلاً قتل رجلاً عمداً ؟ فقال : { فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا … } الآية ، قال : لقد نزلت من آخر ما نزل ، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ؟ قال : وأنىَّ له بالتوبة ؟ وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ثكلته أمه ، رجل قتل رجلاً متعمداً يجيء يوم القيامة آخذاً قاتله بيمينه أو بيساره ، أو آخذاً رأسه بيمينه أو بشماله ، تشخب أوداجه دَماً قِبَلَ العرش يقول يا رب ! سل عبدك فيم قتلني " ! ورواه النسائي وابن ماجة . وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة ، وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف ، زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبيد ابن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم . وفي الباب أحاديث كثيرة ، فمن ذلك ما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " يجيء المقتول متعلقاً بقاتله يوم القيامة ، آخذاً رأسه بيده الأخرى ، فيقول : يا رب ! سل هذا فيم قتلني ؟ قال : فيقول : قتلته لتكون العزة لك ، قال : فإنها لي . قال : ويجيء آخر متعلقاً بقاتله فيقول : رب ! سل هذا فيم قتلني ؟ قال : فيقول : قتلته لتكون العزة لفلان ، قال : فإنها ليست له بؤ بإثمه قال ، فيهوي به في النار سبعين خريفاً " ، ورواه النسائي . وأخرج الإمام أحمد والنسائيّ عن معاوية قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً ، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً " وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا حميد قال : أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي : فقال لنا : هلما فأنتما أشب سنًّا مني ، وأوعى للحديث مني ، فانطلق بنا إلى بشر بن عاصم ، فقال له أبو العالية : حدث هؤلاء حديثك ، فقال : حدثنا عقبة بن مالك الليثيّ قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فأغارت على قوم ، فشد مع القوم رجل فاتبعه رجل من السرية شاهراً سيفه ، فقال الشادّ من القوم : إني مسلم ، فلم ينظر فيما قال ، فضربه فقتله ، فنمى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال فيه قولاً شديداً ، فبلغ القاتل ، فبينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب إذ قال القاتل : والله ! ما قال الذي قال إلا تعوذاً من القتل ، قال : فأعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنه وعمن قِبَلَه من الناس ، وأخذ في خطبته ، ثم قال أيضاً : يا رسول الله ! ما قال الذي قال إلا تعوذاً من القتل ، فأعرض عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته ، ثم لم يصبر حتى قال الثالثة : والله ! يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذاً من القتل ، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تعرف المساءة في وجهه فقال : " إن الله أبى على من قتل مؤمنا " ( ثلاث مرات ) ورواه النسائيّ ، ثم قال ابن كثير : والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها : أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل ، فإن تاب وأناب وخشع وخضع ، وعمل عملاً صالحاً ، بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته ، قال الله تعالى : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] إلى قوله : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 70 ] الآية وهذا خبر لا يجوز نسخه ، وحملُه على المشركين ، وحمل هذه الآية على المؤمنين - خلاف الظاهر ، ويحتاج حمله إلى دليل ، والله أعلم . وقال تعالى : { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ } [ الزمر : 53 ] الآية ، وهذا عام في جميع الذنوب : من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك ، كل من تاب من أيّ ذلك تاب الله عليه ، قال الله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك ، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها ، لتقوية الرجاء ، والله أعلم . وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيليّ الذي قتل مائة نفس ، ثم سأل عالما : هل لي من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه ، فهاجر إليه فمات في الطريق ، فقبضته ملائكة الرحمة . وإذا كان هذا في بني إسرائيل فَلأَنْ يكون في هذه الأمة ، التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى ؛ لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم ، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة . فأما الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً . … } الآية . فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف : هذا جزاؤه إن جازاه . وقد رواه ابن مردويه بإسناده مرفوعاً ، ولكن لا يصح ، ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه ، وكذا كل وعيد على ذنب ، لكن قد لا يكون لذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه ، على قولي أصحاب الموازنة والإحباط ، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد ، والله أعلم بالصواب ، وبتقدير دخول القاتل في النار ، إما على قول ابن عباس ومن وافقه ، أنه لا توبة له ، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحاً ينجو به فليس بمخلد فيها أبداً ، بل الخلود هو المكث الطويل ، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان . ثم قال ابن كثير : وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه من حقوق الآدميين ، وهي لا تسقط بالتوبة ، ولكن لا بد من ردها إليهم ، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه والمغصوب منه والمغبون والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولكن لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة ، فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة ، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة ، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول ، أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة ، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك ، والله أعلم . انتهى . وقال النوويّ في ( شرح مسلم ) في شرح حديث الإسرائيليّ الذي قتل مائة نفس : استدل به على قبول توبة القاتل عمداً ، وهو مذهب أهل العلم وإجماعهم ، ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس ، وأما ما نقل عن بعض السلف من خلال هذا ، فمراد قائله الزجر والتوبة ، لا أنه يعتقد بطلان توبته ، وهذا الحديث وإن كان شرع من قبلنا ، وفي الاحتجاج به خلاف ، فليس هذا موضع الخلاف ، وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره ، فإن ورد كان شرعاً لنا بلا شك ، وهذا قد ورد شرعنا به ، وذلك قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ } [ الفرقان : 68 ] إلى قوله : { إِلاَّ مَن تَابَ … } [ الفرقان : 70 ] ، الآية ، وأما قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً … } الآية ، فالصواب في معناها : أن جزاءه جهنم ، فقد يجازي بذلك وقد يجازى بغيره ، وقد لا يجازى بل يعفى عنه ، فإن قتل عمداً مستحلاً بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتدّ ، يخلد في جهنم بالإجماع ، وإن كان غير مستحل بل معتقداً تحريمه فهو فاسق عاص ، مرتكب كبيرة ، جزاؤها جهنم خالداً فيها ، لكن تفضل الله تعالى وأخبر أنه لا يخلد من مات موحداً فيها ، فلا يخلد هذا ، ولكن قد يعفى عنه ولا يدخل النار أصلاً ، وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر عصاة الموحدين ، ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يخلد في النار . قال : فهذا هو الصواب في معنى الآية ، ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة ، أن يتحتم ذلك الجزاء ، وليس في الآية إخبار بأنه يخلد في جهنم ، وإنما فيها أنها جزاؤه ، أي : يستحق أن يجازى بذلك ، وقيل : وردت الآية في رجل بعينه ، وقيل : المراد بالخلود طول المدة ، لا الدوام ، وقيل معناها : هذا جزاؤه ، إن جازاه ، وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة ، لمخالفتها حقيقة لفظ الآية ، فالصواب ما قدمناه . انتهى . وقال علاء الدين الخازن : اختلف العلماء في حكم هذه الآية ، هل هي منسوخة أم لا ؟ وهل لمن قَتَلَ متعمداً توبةٌ أم لا ؟ فَرُوي عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : أَلِمَنْ قتل مؤمناً متعمداً من توبة ؟ قال : لا ، فتلوتُ عليه الآية التي في الفرقان : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } [ الفرقان : 68 ] ، إلى آخر الآية ، قال : هذه آية مكية ، نسختها آية مدنية : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } . وفي رواية قال : اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن ، فرحلت إلى ابن عباس ، فقال : نزلت في آخر ما نزل ، ولم ينسخها شيء ، وفي رواية أخرى ، قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بالمدينة : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ … } [ الفرقان : 68 ] إلى قوله : { مُهَاناً } [ الفرقان : 69 ] . فقال المشركون : وما يُغني عنا الإسلام ، وقد عدلنا بالله ، وقد قتلنا النفس التي حرم الله ، وأتينا الفواحش ؟ فأنزل الله تعالى : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً … } [ الفرقان : 70 ] ، إلى آخر الآية ، زاد في رواية : فأما من دخل في الإسلام وعقله ثم قَتَلَ فلا توبة له ، أخرجاه في الصحيحين ، وروي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه ناظر ابن عباس في هذه الآية فقال : مِن أين لك أنها محكمة ؟ فقال ابن عباس : تكاثُفُ الوعيد فيها . وقال ابن مسعود : إنها محكمة ، وما تزداد إلا شدة ، وعن خارجة بن زيد قال : سمعت زيد بن ثابت يقول : أنزلت هذه الآية : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا } ، بعد التي في الفرقان : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } [ الفرقان : 68 ] ، بستة أشهر ، أخرجه أبو داود والنسائيّ ، وزاد النسائيّ ، في رواية : بثمانية أشهر . وقال زيد بن ثابت : لما نزلت هذه الآية في الفرقان : { وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] عجبنا من لينها ، فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد الليّنة فنسخت اللينَة ، وأراد بالغليظة هذه الآية التي في سورة النساء ، وباللينة آية الفرقان ، وذهب الأكثرون من علماء السلف والخلف إلى أن هذه الآية منسوخة ، واختلفوا في ناسخها ، فقال بعضهم : نسختها التي في الفرقان ، وليس هذا بالقويّ ، لأن آية الفرقان نزلت قبل آية النساء ، والمتقدم لا ينسخ المتأخر ، وذهب جمهور مَن قال بالنسخ إلى أن ناسخها الآية التي في النساء أيضاً ، وهي قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] وأجاب ، من ذهب إلى أنها منسوخة ، عن حديث ابن عباس المتقدم المخرّج في الصحيحين : بأن هذه الآية خبر عن وقوع العذاب بمن فعل ذلك الأمر المذكور في الآية ، والنسخ لا يدخل الأخبار ، ولئن سلمنا أنه يدخلها النسخ ، لكن الجمع بين الآيتين ممكن بحيث لا يكون بينهما تعارض ، وذلك بأن يحمل مطلق آية النساء على تقييد آية الفرقان ، فيكون المعنى : فجزاؤه جهنم إلا من تاب . وقال بعضهم : ما ورد عن ابن عباس إنما هو على سبيل التشديد والمبالغة في الزجر عن القتل ، فهو كما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال : إن لم يقتل يقال له : لا توبة لك ، وإن قتل ثم ندم وجاء تائباً يقال له : لك توبة . وقيل : إنه قد روي عن ابن عباس مثله ، وروي عنه أيضاً أن توبته تُقبل ، وهو قول أهل السنة ، ويدل عليه الكتاب والسنة ، أما الكتاب فقوله تعالى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ ٱهْتَدَىٰ } [ طه : 82 ] ، وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] . وأما السنة فما روي عن جابر بن عبد الله قال : " جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! ما الموجبتان ؟ قال : " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة ، ومن مات يشرك به شيئاً دخل النار " ، أخرجه مسلم . وروى الشيخان عن عبادة بن الصامت قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال : " تبايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " وفي رواية : " ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوني في معروف ، فمن وفى منكم فأَجْره على الله ، ومن أصاب من ذلك فَسَتَرَهُ الله عليه فأمره إلى الله ، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه " ، فبايعناه على ذلك . انتهى . وقال العلامة أبو السعود : تمسّكت الخوارج والمعتزلة بها في خلود مَنْ قتل المؤمن عمداً في النار ، ولا متمسَّك لهم فيها ، لا لما قيل من أنها في حق المستحل ، كما هو رأي عكرمة وأضرابه ، بدليل أنها نزلت في مَقِيس بن صُبَابَة الكنانيّ المرتد ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، بل لأن المراد بالخلود هو المكث الطويل لا الدوام ، لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم . وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمداً ، وكذا ما روي عن سفيان : أن أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له - محمول على الاقتداء بسنة الله تعالى في التشديد والتغليظ ، وعليه يحمل ما روي عن أنس رضي الله تعالى عنه : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " أَبَى الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة " ، وقال عون بن عبد الله وبكر بن عبد الله وأبو صالح : المعنى : هو جزاؤه إن جازاه ، قالوا : قد يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر : إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب ، ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذباً . قال الواحديّ : والأصل في ذلك أن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد ، وإن امتنع أن يخلف الوعد ، والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل المذكور ، لأنه إخبار منه تعالى أن جزاءه ذلك ، لا بأنه يجزيه بذلك ، كيف لا ؟ وقد قال الله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، ولو كان هذا إخباراً بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها ، لعارضه قوله تعالى : { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] . انتهى . وقال العلامة الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : وأما بيان الجمع بين هذه الآية وما خالفها فنقول : لا نزاع أن قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً } من صيغ العموم الشاملة للتائب وغير التائب ، بل للمسلم والكافر ، والاستثناء المذكور في آية الفرقان ، أعني قوله تعالى : { إِلاَّ مَن تَابَ } [ الفرقان : 70 ] ، بعد قوله تعالى : { وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ } [ الفرقان : 68 ] مختص بالتائبين فيكون مخصصاً لعموم قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً } أما على ما هو المذهب الحق من أنه ينبني العام على الخاص مطلقاً ، قد تقدم أو تأخر أو قارن - فظاهر ، وأما على مذهب من قال : إن العام المتأخر ينسخ الخاص المتقدم ، فإذا سلمنا تأخر قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً } على آية الفرقان ، فلا نسلم تأخرها من العمومات القاضية بأن القتل مع التوبة من جملة ما يغفره الله ، كقوله تعالى : { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] . ومن ذلك ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها ، تاب الله عليه " . وما أخرجه الترمذي وصححه من حديث صفوان بن عسّال ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بابٌ من قبل المغرب يسير الراكب في عرضه أربعين أو سبعين سنة ، خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض ، مفتوح للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها " وأخرج الترمذي أيضاً عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " وأخرج مسلم من حديث أبي موسى ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار . ويبسط يده بالنهار ، ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " ، ونحو هذه الأحاديث مما يطول تعداده - لا يقال : إن هذه العمومات مخصصة بقوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً … } الآية ، لأنا نقول : الآية أعم من وجه ، وهو شمولها للتائب وغيره ، وأخص من وجه ، وهو كونها في القاتل ، وهذه العمومات أعم من وجه ، وهو شمولها لمن كان ذنبه القتل ولمن كان ذنبه غير القتل ، وأخص من وجه ، وهو كونها في التائب ، وإذا تعارض عمومان لم يبق إلا الرجوع إلى الترجيح ، ولا شك أن الأدلة القاضية بقبول التوبة مطلقاً أرجح لكثرتها وهكذا أيضاً يقال : إن الأحاديث بخروج الموحدين من النار وهي متواترة المعنى ، كما يعرف ذلك من له إلمام بكتب الحديث ، تدل على خروج كل موحد ، سواء كان ذنبه القتل أو غيره ، والآية القاضية بخروج من قتل نفساً هي أعم من أن يكون القاتل موحداً أو غير موحد ، فيتعارضان عمومان ، وكلاهما ظنيّ الدلالة ، ولكن عموم آية القتل قد عورض بها سمعته ، بخلاف أحاديث خروج الموحدين ، فإنها إنما عورضت بما هو أعم منها مطلقاً ، كآيات الوعيد للعصاة الدالة على الخلود الشاملة للكافر والمسلم ، ولا حكم لهذه المعارضة ، أو بما هو أخص منها مطلقاً ، كالأحاديث القاضية بتخليد بعض أهل المعاصي ، نحو : " من قتل نفسه " ، وهو يبني العام على الخاص ، وبما قررناه يلوح لك انتهاض القول بقبول توبة القاتل إذا تاب ، وعدم خلوده في النار إذا لم يتب . ويتبيّن لك أيضاً أنه لا حجة فيما احتج به ابن عباس من أن آية الفرقان مكية منسوخة بقوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً … } الآية . كما أخرج ذلك عنه البخاريّ ومسلم وغيرهما ، وكذلك لا حجة له فيما أخرجه النسائي والترمذيّ عنه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يجيء المقتول متعلقاً بالقاتل يوم القيامة ، ناصيته ورأسه بيده ، وأوداجه تشخب دماً يقول : يا رب ! قتلني هذا حتى يدنيه من العرش " وفي رواية للنسائي فيقول : " أي رب ! سل هذا فيم قتلني ؟ " لأن غاية ذلك وقوع المنازعة بين يدي الله عز وجل ، وذلك لا يسلتزم أخذ التائب بذلك الذنب ، ولا تخليده في النار ، على فرض عدم التوبة ، والتوبةُ النافعة ، ههنا ، هي الاعتراف بالقتل عند الوارث ، إن كان له وارثٌ ، أو السلطان ، إن لم يكن له وارث ، والندم على ذلك الفعل ، والعزم على ترك العود إلى مثله ، لا مجرد الندم والعزم ، بدون اعتراف ، وتسليم للنفس أو الدية إن اختارها مستحقها ، لأن حق الآدميّ لا بُدَّ فيه من أمر زائد على حقوق الله ، وهو تسليمه أو تسليم عوضه بعد الاعتراف به ، فإن قلت : فعلامَ تحمل حديث أبي هريرة وحديث معاوية المذكورين في أول الباب ؟ فإن الأول يقضي بأن القاتل أو المُعين على القتل يلقى الله مكتوباً بين عينيه : الآياس من الرحمة ، والثاني يقضي بأن ذنب القتل لا يغفره الله - قلت هما محمولان على عدم صدور التوبة من القاتل ، والدليل على هذا التأويل ، ما في الباب من الأدلة القاضية بالقبول عموماً وخصوصاً ، ولو لم يكن من ذلك إلا حديث الرجل القاتل للمائة ، الذي تنازعت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، وحديث عبادة بن الصامت المذكور قبله ، فإنهما يلجآن إلى المصير إلى ذلك التأويل ، ولا سيما مع ما قدمنا من تأخر حديث عبادة ، ومع كون الحديثين في الصحيحين ، بخلاف حديث أبي هريرة ومعاوية وأيضاً في حديث معاوية نفسه ما يرشد إلى هذا التأويل ، فإنه جعل الرجل القاتل عمداً مقترناً بالرجل الذي يموت كافراً ، ولا شك أن الذي يموت كافراً مصرّاً على ذنبه غير تائب منه ، من المخلدين في النار ، فيستفاد من هذا التقييد أن التوبة تمحو ذنب الكفر ، فيكون ذلك القرين الذي هو القتل أولى بقبولها . وقد قال العلامة الزمخشري في ( الكشاف ) : إن هذه الآية فيها من التهديد والإيعاد والإبراق والإرعاد أمر عظيم وخطب غليظ ، قال : ومن ثم روي عن ابن عباس ما روي ، من أن توبة قاتل المؤمن عمداً غير مقبولة ، وعن سفيان : كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا : لا توبة له ، وذلك محمول منهم على الاقتداء بسنة الله في التغليظ والتشديد : وإلاَّ فكل ذنب ممحوٌّ بالتوبة ، وناهيك بمحو الشرك دليلاً . ثم ذكر حديث : " لَزَوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم " ، وهو عند النسائيّ من حديث بريدة ، وعند ابن ماجه من حديث البراء . وعند النسائيّ أيضاً من حديث ابن عمرو ، وأخرجه أيضاً الترمذي . انتهى كلام الشوكانيّ . وقال الإمام ابن القيّم في ( الجواب الكافي ) : لما كان الظلم والعدوان منافيين للعدل الذي قامت به السماوات والأرض ، وأرسل الله سبحانه رسله عليهم الصلاة والسلام وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط - كان ( أي الظلم ) من أكبر الكبائر عند الله ، وكانت درجته في العظمة بحسب مفسدته في نفسه : وكان قتل الإنسان المؤمن من أقبح الظلم وأشده ، ثم قال : ولما كانت مفسدة القتل هذه المفسدة - قال الله تعالى : { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] . ثم قال : وفي صحيح البخاري عن سمرة بن جندب قال : " أول ما ينتن من الإنسان بطنه فمن استطاع منكم أن لا يأكل إلا طيباً فليفعل ، ومن استطاع ألا يحول بينه وبين الجنة ملء كف من دم أهرقه فليفعل " . وفي جامع الترمذيّ عن نافع ، قال : نظر عبد الله بن عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمةً منك ، قال الترمذيّ هذا حديث حسن . وفي صحيح البخاري أيضاً عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً " ، وذكر البخاري أيضاً عن ابن عمر قال : من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها ، سفك الدم الحرام بغير حله . وفي الصحيحين عن أبي هريرة يرفعه : " سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر " وفيهما أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم : " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " . وفي صحيح البخاريّ عنه صلى الله عليه وسلم : " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً " . هذه عقوبة قاتل عدو الله ، إذا كان معاهداً في عهده وأمانه ، فكيف بعقوبة قاتل عبده المؤمن ؟ وإذا كانت امرأة قد دخلت النار في هرة حبستها حتى ماتت جوعا وعطشا ، فرآها النبيّ صلى الله عليه وسلم في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها ، فكيف عقوبة من حبس مؤمنا حتى مات بغير جرم ؟ وفي بعض السنن عن صلى الله عليه وسلم : " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق " . وقال ابن القيّم أيضاً قبل ذلك : وقد جعل الله سبحانه وتعالى جزاء قتل النفس المؤمنة عمداً ، الخلود في النار وغضب الجبار ولعنته وإعداد العذاب العظيم له ، هذا موجب قتل المؤمن عمداً ما لم يمنع منه مانع ، ولا خلاف أن الإسلام الواقع بعد القتل ، طوعاً واختياراً ، مانع من نفوذ ذلك الجزاء ، وهل تمنع توبة المسلم منه بعد وقوعه ؟ فيه قولان للسلف والخلف ، وهما روايتان عن أحمد ، والذين قالوا : لا تمنع التوبة من نفوذه رأوا أنه حق لآدميّ لم يستوفه في دار الدنيا ، وخرج منه بظلامته فلا بد أن يستوفي له في دار العدل ، قالوا : فما استوفاه الوارث فإنما استوفى محض حقه الذي خيره الله ، من استيفائه والعفو عنه ، وما ينفع المقتول من استيفاء وارثه ؟ وأي استدراك لظلامته حصل له باستيفاء وارثه ؟ وهذا أصح القولين في المسألة ، إن حق المقتول لا يسقط باستيفاء وارثه ؟ وهذا أصح القولين في المسألة ، إن حق المقتول لا يسقط باستيفاء الوارث ، وهي وجهان لأصحاب الشافعيّ وأحمد وغيرهما ، ورأت طائفة أنه يسقط بالتوبة واستيفاء الوارث ، فإن التوبة تهدم ما قبلها ، والذنب الذي قد جناه قد أقيم عليه حده ، قالوا : وإذا كانت التوبة تمحو أثر الكفر والسحر ، وهما أعظم إثماً من القتل ، فكيف تقصر عن محو أثر القتل ؟ وقد قبل الله توبة الكفار الذين قتلوا أولياءهم ، وجعلهم من خيار عباده ، ودعا الذين أحرقوا أولياءه وفتنوهم عن دينهم ودعاهم إلى التوبة . وقال تعالى : { يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] وهذا في حق القاتل ، وهي تتناول الكفر فيما دونه ، قالوا : وكيف يتوب العبد من الذنب ويعاقب عليه بعد التوبة ؟ هذا معلوم انتفاؤه في شرع الله وجزائه ، قالوا : وتوبة هذا المذنب تسليم نفسه ، ولا يمكن تسليمها إلى المقتول ، فأقام الشارع وليَّه مقامه ، وجعل تسليم النفس إليه كتسليمها إلى المقتول ، بمنزلة تسليم المال الذي عليه لوارثه ، فإنه يقوم مقام تسليمه للموروث ، والتحقيق في المسألة : أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق : حق الله ، وحق للمظلوم المقتول ، وحق للوليّ ، فإذا سلّم القاتل نفسه طوعاً واختياراً إلى الوليّ ، ندما على ما فعل ، وخوفا من الله ، وتوبة نصوحاً - فقطع حق الله بالتوبة ، وحق الوليّ بالاستيفاء أو الصلح أو العفو ، وبقي حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن ، ويصلح بينه وبينه ، فلا يبطل حق هذا ولا تبطل توبة هذا . فصل ومن العلماء من اختار التوقف في هذا المقام : منهم الإمام أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليمانيّ ، فإنه قال في كتابه ( إيثار الحق ) في ( بحث الوعد والوعيد ) ، ما نصه : لا شك أن الاستثناء من الوعد والوعيد ، وتخصيص العمومات بالأدلة المتصلة والمنفصلة مقبول ، إما على جهة الجمع ، ولا شك في جوازه وصحته وحسنه ، والإجماع على ذلك وكثرة وقوعه من سلف الأمة وخلفها ، بل لا شك في تقديمه في الرتبة والبداية بذلك قبل الترجيح ، فإن تعذر الجمع فالترجيح ، فإن وضح عمل به ، فإن لم يتضح وجب الوقف لقوله تعالى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [ الإسراء : 36 ] . ولذلك اخترت الوقف في حكم قاتل المؤمن ، بعد الانتصاف منه للمظلوم والقطع على أنه فاسق ملعون ، واجب قتله والبراءة منه ، والقطع أن جزاءه جهنم خالداً فيها ، كما قال تعالى على ما أراد ، وإنما وقفت في محل التعارض الذي أوضحته في ( العواصم ) . لا على حسب ما قيل في أن الله تعالى في هذه الآية ، هل بيّن جزاءه الذي له أن يفعله إن شاء ؟ أو بين جزاءه الذي تخيّر له في تنجيزه حين لم يبق إلا حقه بعد استيفاء حق المظلوم المقتول ؟ والله سبحانه أعلم . فمن رجح الجمع بين وعيد القاتل وبيْن قوله تعالى : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، وسائر آيات الرجاء وأحاديثه - قال بالأول ، ومن رجح وعيد القاتل في هذه الآية ، وفي الأحاديث المخصصة لقتل المؤمن ، بقطع الرجاء ، كما أوضحته في ( العواصم ) - رجح وعيد القاتل ، ومن تعارضت عليه ولم ير في تنجيز الاعتقاد مصلحة ولا له موجباً ولا إليه ضرورة - رجح الوقف ، والله عند لسان كل قائل ونيته ، ولا شك في ترجيح النص الخاص على العموم وتقديمه ، وعليه عمل علماء الإسلام في أدلة الشريعة ، ومن لم يقدمه في بعض المواضع لم يمكنه الوفاء بذلك في كل موضع ، واضطر إلى التحكم والتلوّن من غير حجة بيّنة وقد أجمع من يعتدّ به من المسلمين على تخصيص الصغائر من آيات الوعيد العامة على جميع المعاصي ، متى كان أهل الصغائر من المسلمين ، ولم يلزم من ذلك خلف في آيات الوعيد ولا كذب ولا تكذيب لشيء منها ، فكذلك سائر ما صح من أحاديث الرجاء ليس فيه مناقضة لعمومات آيات الوعيد ، ولا يستلزم تجويز الخلف على الله تعالى ، وذلك باب واحد ولذلك اشتهرت أحاديث الرجاء في عصر الصحابة والتابعين ، ولم ينكرها أحد ، بل رواتها أكابرهم وأئمتهم ، وفي ( العواصم ) من ذلك عن عليّ عليه السلام بضعة عشر أثراً ، بل المخصصات للعمومات في ذلك قرآنية ، وعمومات الوعد مانعة قبل تخصيص الوعيد من الجزم على وقوع عمومه دون عموم الوعد ، وعلى أن الخلف عند جماعات كثيرة لا يكون إلا في عدم الوفاء بالوعد بالخير ، وأما الوعيد بالشر فقد اختلف في تركه ، وأجمعوا على أنه يسمى عفواً ، كما قال كعب بن زهير . @ أنبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول @@ وإنما اختلفوا ، مع تسميته عفواً ، هل يسمى خلفاً أم لا ؟ ومن منع من ذلك ، منع صحة النقل له لغة ، واحتج على امتناعه بأنه لا يصح اجتماع اسم مدح واسم ذم على مسمى واحد . انتهى . فصل تشرع الكفارة في قتل العمد ، لما رواه الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع قال : " أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم ، فقالوا : إن صاحباً لنا قد أوجب . قال : فليعتق رقبة ، يفدي الله بكل عضو منها عضواً منه من النار " ورواه أيضاً بسند آخر عنه ، قال : " أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب ، قال : " أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار " وهذا رواه أبو داود والنسائيّ ، ولفظ أبي داود : " قد أوجب ( يعني النار ) بالقتل " . قال الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : في حديث واثلة دليل على ثبوت الكفارة في قتل العمد ، وهذا إذا عفي عن القاتل أو رضي الوارث بالدية ، وأما إذا اقتصّ منه فلا كفارة عليه بل القتل كفارته ، لحديث عبادة المذكور في الباب ، ولما أخرجه أبو نعيم في ( المعرفة ) : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " القتل كفارة " ، وهو من حديث خزيمة بن ثابت ، وفي إسناده ابن لهيعة قال الحافظ : لكنه من حديث ابن وهب عنه فيكون حسناً ، ورواه الطبرانيّ في الكبير عن الحسن بن عليّ موقوفاً عليه . ثم حذر عما يؤدي إلى القتل العمد من قلة المبالاة في الأمور بقوله : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ … } .