Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 42, Ayat: 11-11)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي : من جنسكم { أَزْوَاجاً } أي : نساء { وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً } أي أصنافاً مختلفة , أو ذكوراً وإناثاً { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي : يكثركم . من ( الذرء ) وهو البث : يقال : ذرأ الله الخلق , بثهم كثّرهم , وفسر بـ ( يخلقكم ) . وضمير { فِيهِ } للبطن أو الرحم . و قال الزمخشريّ : أي : في هذا التدبير , وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً , حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل , والضمير في { يَذْرَؤُكُمْ } يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلباً فيه المخاطبون العقلاء على الغيّب مما لا يعقل , فإن قلت : ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير ؟ و هلا قيل : يذرؤكم به ؟ قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير . انتهى . وقيل ( في ) مستعارة للسببية { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } قال ابن جرير : فيه وجهان : أحدهما : أن يكون معناه : ليس هو كشيء . وأدخل المثل في الكلام ، توكيدا للكلام ، لكونهما بمعنى واحد . والآخر : أن يكون معناه : ليس مثله شيء , وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام . انتهى . وبقي ثالث وهو أن المثل بمعنى الصفة , أي : ليس كصفته صفة , ورابع : وهو ما عول عليه المحققون - أن المراد من ( مِثْلِهِ ) ذاته , كما في قولهم : مثلك لا يبخل , على قصد المبالغة في نفيه عنه , فإنه إذا نفي عمن يناسبه , كان نفيه عنه أولى , ثم سلكت هذه الطريقة في شأن من لا مثل له سبحانه - ووجه المبالغة أن الكناية من باب دعوى الشيء ببيّنة , وقد بينت الكناية في الآية بوجه آخر أشار إليه الشُّمُنِّيّ , وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه ؛ لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم , كما يقال : ليس لأخي زيد أخ . فأخو زيد ملزوم , والأخ لازمه , لأنه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد , فنُفِيَ هذا اللازم , والمراد نفي ملزومه , أي : ليس لزيد أخ . إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ , هو زيد . فكذا نفي أن يكون لمثل الله مثل , و المراد نفي مثله تعالى - إذ لو كان له مثل , لكان هو تعالى مثل مثله , لتحقق المماثلة من الجانبين فلا يصح نفي مثله ( أي نفي مثل ذلك المثل ) وبالجملة ، فأطلق نفي مثل المثل ، وأريد لازمه من نفي المثل . قال بعض الأفاضل : طالما كنت أجد في نفسي من هذا شيئاً . وذلك أن محصل هذا أن نفي المثل لازم لحقيقة الآية . وقد تقرر أولا أنها تقتضى إثباته . ولذا أوّلوها بالأوجه المذكورة . فكيف يعقل أن إثبات الشيء ونفيه يلزمان معاً لشيء واحد ؟ مع تصريحهم بأن تنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات ، وبفرض صحة أن كلا منهما لازم لها ، فقصرها على هذا دون ذاك تحكم . مع أن القصد إبطال دلالتها على المحال ، ولا يكفي فيه قولنا : إنه غير مراد كما لا يخفى ، ثم ظهر أن إثبات المثل ليس لازما لحقيقة الآية قطعا . بل هو محتمل فقط ، كما تحتمل نفيه . وإن كان الأول أقرب ، لكن عارضه في خصوص هذه المادة ، أنه لو كان له مثل إلخ . فبطل ذلك الاحتمال من أصله ، فالتعويل في نفس المثل على هذه المقدمة القطعية بخلاف المثال ، فافهم ذلك . وقال العصام : هذا - أي كون الآية من باب الكناية - وجه تلقاه الفحول بالقبول ، ورجّحوه بأن الكناية أبلغ من التصريح ، وعدم الزيادة أحق بالترجيح ، وفيه بحث وهو أن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل ؛ لأن الشيء ليس مثل مثله ، بل المثل المشارك للشيء في صفةٍ ، مع كون الشيء أقوى منه فيها وبمنزلة الأصل ، والمثل بمنزله الملحق به المتقارب منه . انتهى . ورده السيلكوَتيّ فقال : ما قيل : إن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل ؛ لأن مثل الشيء أضعف منه ، فتوهم محض ؛ لأن المماثلة هي الشركة في أخص الصفات والمساواة في جميع الوجوه مما به المماثلة ، صرّح به في ( شرح العقائد النسفية ) انتهى . ومثل هذه اللطائف الأدبية مما تتحلى به أجياد الأفهام ، وتتشعب في أودية بدائعه عيون محاسن الكلام . تنبيه قال السيوطيّ في ( الإكليل ) : في الآية ردّ على المشبهة ، وأنه تعالى ليس بجوهر ولا بجسم ولا عرض ولا لون ولا حالّ في مكان ولا زمان . انتهى . وكان حقه أن يتم الاستنباط ، فكما أن صدر الآية فيه رد على المشبهة ، فكذا تتمتها وهو قوله تعالى : { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } رد على المعطلة ، ولذا كان أعدل المذاهب مذهب السلف ، فإنهم أثبتوا النصوص بالتنزيه من غير تعطيل ولا تشبيه ، وذلك أن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله تعالى وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق ، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات ، فجمعوا بين التمثيل والتعطيل ، فمثلوا أولاً وعطلوا آخراً ، فهذا تشبيه وتمثيل منهم ، للمفهوم من أسمائه وصفاته تعالى ، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم ، فعطلوا ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات اللائقة به عز وجل ، بخلاف سلف الأمة وأجلاء الأئمة فإنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصف به نبيّه صلى الله عليه وسلم ، من غير تحريف ولا تشبيه ، قال تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } فرد على المشبهة بنفي المثلية ، ورد على المعطلة بقوله : { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } قال الحافظ ابن عبد البر : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز ، إلا أنهم لم يكيّفوا شيئاً من ذلك ، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج ، فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئاً على الحقيقة ، ويزعمون أن من أقرّ بها مشبه ، وهم عند من أقرّ بها نافون للمعبود . انتهى . قال الذهبي : صدق والله ! فإن من تأول سائر الصفات ، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام ، أدَّاه ذلك السلب إلى تعطيل الرب وأن يشابه المعدوم ، كما نقل عن حماد بن زيد أنه قال : مثل الجهمية كقوم قالوا : في دارنا نخلة ، قيل : لها سعف ؟ قالوا : لا ، قيل : لها كَرَب ؟ قالوا : لا ، قيل : لها رطب ؟ قالوا : لا ، قيل : فلها ساق ؟ قالوا : لا ، قيل : فما في داركم نخلة . قلت : كذلك هؤلاء النفاة ، قالوا : إلهنا الله تعالى . وهو لا في زمان ولا في مكان ولا يرى ولا يسمع ، ولا يبصر ولا يتكلم ، ولا يرضى ولا يريد ، ولا ولا ، وقالوا : سبحانه المنزه عن الصفات . بل نقول : سبحان الله العليّ العظيم السميع البصير المريد ، الذي كلم موسى تكليما ، واتخذ إبراهيم خليلا ، ويُرى في الآخرة ، المتصف بما وصف به نفسه ، ووصفه به رسله ، المنزه عن سمات المخلوقين وعن جحد الجاحدين . ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . وقال الذهبيّ رحمه الله أيضاً : مقال متأخري المتكلمين ، أن الله تعالى ليس في السماء ولا على العرش ولا على السماوات ولا في الأرض ولا داخل العالم ولا خارج العالم ولا هو بائن عن خلقه ولا متصل بهم ، وقالوا : جميع هذه الأشياء صفات الأجسام والله تعالى منزه عن الجسم ، قال لهم أهل السنة والأثر : نحن لا نخوض في ذلك ونقول ما ذكرناه اتباعاً للنصوص ولا نقول بقولكم ، فإن هذه السلوب نعوت للمعدوم ، تعالى الله جل جلاله عن العدم ، بل هو موجود متميز عن خلقه ، موصوف بما وصف به نفسه ، من أنه فوق العرش بلا كيف ، انتهى . وقال الإمام ابن تيمية في ( الرسالة التدمرية ) في القاعدة الأولى : إن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي ، فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، وأنه سميع بصير ونحو ذلك ، والنفي كقوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ } [ البقرة : 255 ] وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال ، إلا إذا تضمن إثباتاً ، وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال ؛ لأن النفي المحض عدم محض ، والعدم المحض ليس بشيء ، وما ليس بشيء فهو كما قيل ليس بشيء ، فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا ؛ ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع ، والمعدومُ والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال ، فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح ، كقوله : { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [ البقرة : 255 ] إلى قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة : 255 ] فنفي السنة النوم يتضمن كمال الحياة والقيام ، فهو مبين لكمال أنه الحيّ القيوم وكذلك قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة : 255 ] أي لا يكرثه ولا يثقله ، وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها ، بخلاف المخلوق القادر ، إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة ، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته ، وكذلك قوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } [ سبأ : 3 ] فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات والأرض ، وكذلك قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ ق : 38 ] فإن نفي مس اللغوب ، الذي هو التعب والإعياء ، دل عل كمال القدرة ونهاية القوة ، بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه ، وكذلك قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ } [ الأنعام : 103 ] إنما نفي الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء ، ولم ينف مجرد الرؤية ؛ لأن المعدوم لا يرى ، وليس في كونه لا يرى مدح ، إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحاً ، وإنما المدح في كونه لا يحاط به ، وإن رُئيَ ، كما أنه لا يحاط به وإن علم ، فكما أنه إذا علم لا يحاط به علما ، فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية ، فكان في نفي الإدراك من أثبات عظمته ، ما يكون مدحا وصفة كمال ، وكان ذلك دليلاً على إثبات الرؤية لا على نفيها ، لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة ، وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها ، وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتاً ، هو مما لم يصف الله به نفسه ، الذين لا يصفونه إلا بالسلوب ، لم يثبتوا في الحقيقة إلها محمودا ، بل ولا موجودا ، وكذلك من شاركهم في بعض ذلك ، كالذين قالوا لا يتكلم أو لا يُرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش ، ويقولون : ليس بداخل ا لعالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا مجانب له ، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم ، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت ؛ ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق : ميّز لنا بين هذا الرب الذي نثبته وبين المعدوم ، وكذلك كونه لا يتكلم أولا ينزل ، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال ، بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات ، فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقص ، فمن قال : لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم ، فهو بمنزلة من قال لا هو قائم بنفسه ولا بغيره ولا قديم ولا محدث ولا متقدم على العالم ولا مقارن له ، ومن قال : إنه ليس بحيّ ولا سميع ولا بصير ولا متكلم ، لزمه أن يكون ميتا أصم أعمى أبكم ، فإن قال العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر ، وما لم يقبل البصر كالحائط لا يقال له : أعمى ولا بصير ، قيل له : هذا اصطلاح اصطلحتموه ، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة ، وأيضاً فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها ، فإن الله قادر على جعل الجماد حيا كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الحبال والعصيّ ، وأيضا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصاً مما يقبل الاتصاف مع اتصافه بنقائضها ، فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس ، أعظم نقصا من الحي الأعمى الأخرس ، فإن قيل : إن البارئ لا يمكن اتصافه بذلك ، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك ، مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيها له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها ، وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات فكيف من قال ذلك على غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحي ، وأيضا فنفس نفي هذه الصفات نقص ، كما أن إثباتها كمال ، فالحياة من حيث هي هي ، مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها ، صفة كمال ، وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والعقل ونحو ذلك ، وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات ، فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به ، لكان المخلوق أكمل منه .