Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 48, Ayat: 1-1)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } قال الرازيّ : في الفتح وجوه : أحدها : فتح مكة ، وهو ظاهر . وثانيها : فتح الروم وغيرها . وثالثها : المراد من الفتح ، صلح الحديبية . ورابعها : فتح الإسلام بالحجة والبرهان ، والسيف والسنان . وخامسها : المراد منه الحكم ، كقوله : { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ } [ الأعراف : 89 ] ، وقوله : { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ } [ سبأ : 26 ] . انتهى . ولا يخفى أن الوجوه المذكورة كلها ، مما يصدق عليها الفتح الربانيّ ، وجميعها مما تحقق مصداقه . إلا أن سبب نزول الآية ، الذي حفظ الثقات زمنه ، يبين المراد من الفتح بياناً لا خلاف معه ، وهو أنه الوجه الثالث المذكور . قال الإمام ابن كثير : نزلت هذه السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، حين صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، ليقضي عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ، ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك ، على تكرّهٍ من جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب ، رضي الله عنهم ، كما سيأتي تفصيله في موضعه من تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى . فلما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه حيث أُحْصِرَ ورجع ، أنزل الله عز وجل هذه السورة ، فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل ذلك الصلح فتحاً ، باعتبار ما فيه من المصلحة ، وما آل الأمر إليه ، كما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية . وعن جابر رضي الله عنه قال : ما كنا نعد الفتح إلا يوم الحديبية . وروى البخاريّ عن البراء رضي الله عنه قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحاً ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان ، يوم الحديبية . وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال : نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم : { لِّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] مرجعه من الحديبية . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد أنزلت عليّ آية أحب إليّ مما على الأرض " ، ثم قرأها عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم - أخرجاه في الصحيحين من رواية قتادة به . وروى الإمام أحمد عن مجمّع بن جارية الأنصاريّ رضي الله عنه - وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن - قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا عنها ، إذا الناس ينفرون الأباعر . فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس ؟ قالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجنا مع الناس نرجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه ، فقرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } . قال : " فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي : رسولَ الله ! أو فتح هو ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " إي والذي نفس محمد بيده ! إنه لفتح " " ورواه أبو داود في الجهاد . ثم قال ابن كثير : فالمراد بقوله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } - أي : بيناً ظاهراً - هو صلح الحديبية ، فإنه حصل بسببه خير جزيل ، وأَمِن الناس ، واجتمع بعضهم ببعض ، وتكلم المؤمن مع الكفار ، وانتشر العلم النافع والإيمان . انتهى . وقال الإمام ابن القيم في ( زاد المعاد ) في الكلام على ما في غزوة الحديبية من الفقه واللطائف ، ما مثاله : كان صلح الحديبية مقدمة وتوطئة بين يدي هذا الفتح العظيم ، أمِنَ الناس به ، وكلّم بعضهم بعضاً ، وناظره في الإسلام ، وتمكّن من اختفى من المسلمين بمكة من إظهار دينه ، والدعوة إليه ، والمناظرة عليه ، ودخل بسببه بشر كثير في الإسلام ؛ ولهذا سماه الله فتحاً في قوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } نزلت في الحديبية ، فقال عمر : يا رسول الله ! أو فتح هو ؟ قال : " نعم " . وأعاد سبحانه ذكر كون ذلك فتحاً قريباً . وهذا شأنه سبحانه أن يقدم بين يدي الأمور العظيمة مقدمات تكون كالمدخل إليها , المنبئة لها وعليها ، كما قدم بين يدي قصة المسيح وخلقه من غير أب ، قصة زكريا ، وخلق الولد له ، مع كونه كبيراً ، لا يولد لمثله . وكما قدم بين يدي نسخ القبلة ، قصة البيت وبنائه وتعظيمه والتنويه به ، وذكر بانيه ، وتعظيمه ومدحه . ووطأ قبل ذلك كله بذكر النسخ وحكمته المقتضية له ، وقدرته الشاملة له . وهكذا ما قدم بين يدي مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قصة الفيل ، وبشارات الكهان به ، وغير ذلك . وكذلك الرؤيا الصالحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مقدمة بين يدي الوحي في اليقظة . وكذلك الهجرة ، كانت مقدمة بين يدي الأمر بالجهاد . ومن تأمّل أسرار الشرع والقدر ، رأى من ذلك ما تبهر حكمته أولي الألباب . انتهى .