Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 48, Ayat: 29-29)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } أي : أصحابه { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } أي : لهم شدة وغلظة على الكفار المحاربين لهم ، الصادّين عن سبيل الله ، وعندهم تَرَاحُم فيما بينهم ، كقوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] . لطائف الأولى : جوز في : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } أن يكونا مبتدأ وخبراً ، وأن يكون { رَّسُولُ ٱللَّهِ } صفة ، أو عطف بيان ، أو بدلاً ، { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } عطف عليه . وخبرهما { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ } . الثانية : قال الشهاب : قوله تعالى : { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } تكميل ، لو لم يذكر لربما توهم أنهم لاعتيادهم الشدة على الكفار قد صار ذلك لهم سجية في كل حال ، وعلى كل أحد . فلما قيل : { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } اندفع ذلك التوهم ، فهو تكميل واحتراس ، كما في الآية المتقدمة ، فإنه لما قيل : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ المائدة : 54 ] ربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر ، وأنهم موصوفون بالذل دائماً ، وعند كل أحد ، فدفع بقوله : { أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } فهو كقوله : @ حليمٌ إذا ما الحلمُ زَيَّنَ أهلَهُ على أنه عند العدوِّ مَهِيبُ @@ الثالثة : قال المهايميّ : تفيد الآية أن دين الحق قد ظهر في أصحابه صلوات الله عليه ، إذ اعتدلت قوتهم الغضبية ! بتبعية اعتدال المفكرة والشهوية ؛ إذ هم أشداء على الكفار ، لرسوخهم في صحة الاعتقاد ، بحيث يغارون على من لم يصح اعتقاده ، رحماء بينهم ، لعدم ميلهم إلى الشهوات . هذا باعتبار الأخلاق ، وأما باعتبار الأعمال ، فأنت : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } قال ابن كثير : وصفهم بكثرة العمل ، وكثرة الصلاة ، وهي خير الأعمال . ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل ، والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب ، وهو الجنة المشتملة على فضل الله عز وجل ، وهو سعة الرزق عليهم ورضاه تعالى عنهم ! وهو أكبر من الأولى ، كما قال جلَّ وعلا : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] انتهى . { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } مبتدأ وخبر ، أي : علامتهم كائنة فيها . وقوله تعالى : { مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } بيان للسيما ، كأنه قيل : سيماهم التي هي أثر السجود ، أو حال من المستكنذ في { وُجُوهِهِمْ } . قال الشهاب : وهي على ما قبله خبر مبتدأ تقديره : هي من أثر السجود . انتهى . وهل الوجوه مجاز عن الذوات ، أو حقيقة ؟ في معناها تأويلان للسلف ، فعن ابن عباس : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } يعني السمت الحسن . وقال مجاهد وغير واحد ، يعني الخشوع والتواضع . وقال منصور لمجاهد : ما كنت أراه إلا هذا الأثر في الوجه ، فقال مجاهد : ربما كان بين عيني من هو أقسى قلباً من فرعون . وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل ، حسن وجهه بالنهار . وقد رفعه ابن ماجه . والصحيح أنه موقوف . وقال بعضهم : إن للحسنة لنوراً في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الناس . وقال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه : ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه . وروى الطبرانيّ مرفوعاً : ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر - وإسناده واهٍ ، لأن فيه العرزميّ وهو متروك . وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ، ليس لها باب ولا كوة ، لخرج عمله للناس كائناً ما كان " . وأخرج أيضاً عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إن الهدى الصالح ، والسمت الصالح والاقتصاد ، جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة " ورواه أبو داود أيضاً . والتأويل الثاني في الآية ، أن ذلك آثار ترى في الوجه من ثرى الأرض ، أو ندى الطهور . روي ذلك عن ابن جبير وعكرمة . وقد كان ذلك في العهد النبويّ ، حيث لا فراش للمسجد إلا ترابه وحصباؤه . وكل من المعنيين من { سِيمَاهُمْ } رضي الله عنهم وأرضاهم . وقوله تعالى : { ذَلِكَ } أي : الوصف { مَثَلُهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ } أي : صفتهم العجيبة فيها { وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } أي : فراخه أو سنبله أو نباته { فَآزَرَهُ } أي : قوّاه { فَٱسْتَغْلَظَ } أي : فغلظ الزرع واشتد . فالسين للمبالغة في الغلظ ، أو صار من الدقة إلى الغلظ { فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ } أي : استقام على قصبه . و ( السوق ) جمع ساق { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ } أي : يعجب هذا الزرعُ الذي استغلظ فاستوى على سوقه في تمامه ، وحسن نباته ، وبلوغه وانتهائه ، الذين زرعوه . وقوله تعالى : { لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ } تعليل لما دل عليه تشبيههم بالزرع من نمائهم وقوتهم ، كأنه قيل : إنما قوّاهم وكثّرهم ليغيظ بهم الكفار . لطائف الأولى : يجوز في قوله تعالى : { وَمَثَلُهُمْ فِي ٱلإِنجِيلِ كَزَرْعٍ } وجهان : أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبره : { كَزَرْعٍ } فيوقف على قوله : { فِي ٱلتَّوْرَاةِ } فهما مثلان ، وإليه ذهب ابن عباس . والثاني : أنه معطوف على { مَثَلُهُمْ } الأول ، فيكون مثلاً واحداً في الكتابين ، ويوقف حينئذ على : { فِي ٱلإِنجِيلِ } ، وإليه نحا مجاهد والفرّاء ، ويكون قوله : { كَزَرْعٍ } على هذا فيه أوجه : أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر . أي : مثلهم كزرع ، فسر به المثل المذكور في الإنجيل . الثاني : أنه حال من الضمير في { مَثَلُهُمْ } أي : مماثلين زرعاً هذه صفته . الثالث : أنه نعت مصدر محذوف ، أي : تمثيلاً كزرع - ذكره أبو البقاء . قال الزمخشريّ : ويجوز أن يكون { ذَلِكَ } إشارة مبهمة أوضحت بقوله : { كَزَرْعٍ } كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ ٱلأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ } [ الحجر : 66 ] - أفاده السمين . الثانية : قال السمين : الضمير المستتر في : { فَآزَرَهُ } للزرع ، والبارز للشطء . وعكس النسفيّ ، فجعل المستتر للشطء ، والبارز للزرع . أي : فقوي الشطء بكثافة الزرع وكثافته كثرة فروعه وأوراقه . قال الجمل : وما صنعه النسفي أنسب ، فإن العادة أن الأصل يتقوّى بفروعه ، فهي تعينه وتقوّيه . الثالثة : قال السمين : { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ } حال . أي : حال كونه معجباً ، وهنا تمّ المثل . الرابعة : قال الزمخشريّ : هذا مثل ضربه الله لبدء أمر الإسلام ، وترقّيه في الزيادة ، إلى أن قوي واستحكم ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قام وحده ، ثم قوّاه الله بمن آمن معه ، كما يقوّي الطاقةَ الأولى من الزرع ، ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزراع . وهذا ما قاله البغويّ من أن ( الزرع ) محمد ، و ( الشطءَ ) أصحابه والمؤمنون ، فجعلا التمثيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأمته . وأما القاضي فجعله مثالاً للصحابة فقط وعبارته : وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة ، قلّوا في بدء الإسلام ، ثم كثروا واستحكموا ، فترقّى أمرهم ، بحيث أعجب الناس . قال الشهاب : ولكل وجهة . الخامسة : قال ابن كثير : من هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه ، في رواية عنه ، تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم . قال : لأنهم يغيظونهم ، ومن غاظ الصحابة ، فهو كافر لهذه الآية . ووافقه طائفة من العلماء على ذلك - انتهى كلام ابن كثير - . ولا يخفاك أن هذا خلاف ما اتفق عليه المحققون من أهل السنة والجماعة من أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة ، كما بسط في كتاب العقائد ، وأوضحه النوويّ في شرح ( مقدمة مسلم ) ، وقبله الإمام الغزاليّ في كتابه ( فيصل التفرقة ) . وقد كان من جملة البلاء في القرون الوسطى التسرع من الفقهاء بالتكفير والزندقة . وكم أريقت دماء في سبيل التعصب لذلك ، كما يمر كثير منهم بقارئ التاريخ . على أن كلمة الأصوليين اتفقت على أن المجتهد كيفما كان ، مأجور غير مأزور ، ناهيك بمسألة عدالتهم المتعددة أقوالها ، حتى في أصغر كتاب في الأصول كمثل ( جمع الجوامع ) نعم ، إن التطرف والغلوّ في المباحث ليس من شأن الحكماء المنصفين . وإذا اشتد البياض صار بَرَصاً . { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } أي : صدقوا الله ورسوله { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً } أي : عفواً عما مضى من ذنوبهم ، وسيىء أعمالهم بحسنها { وَأَجْراً عَظِيماً } أي : ثواباً جزيلاً ، وهو الجنة .