Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 49, Ayat: 5-5)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّىٰ تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي : لأن خروجه باستعجالهم ربما يغضبه ، فيفوتهم فوائد رؤيته وكلامه . وإن صبروا استفادوا فوائد كثيرة ، مع اتصافهم بالصبر ، ورعاية الحرمة لنبيهم وأنفسهم { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : لمن تاب من معصية الله ، بندائك كذلك ، وراجع أمر الله فيه وفي غيره . تنبيهات الأول : قال ابن كثير : قد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميميّ ، فيما أورده غير واحد . روى الإمام أحمد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن الأقرع بن حابس ؛ " أنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، يا محمد ، ( وفي رواية : يا رسول الله ، ) فلم يجبه . فقال : يا رسول الله ، إن حمدي لزين ، وإن ذمّي لشين ، فقال : " ذاك الله عز وجل " " . وروى ابن إسحاق ، في ذكر سنة تسع ، وهي المسماة سنة الوفود ؛ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف ، وبايعت ، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه ، فكان منهم وفد بني تميم . فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته : أن اخرج إلينا يا محمد ! فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم ، فخرج إليهم " ثم ساق ابن إسحاق نبأهم مطولاً ثم قال : وفيهم نزل من القرآن : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ الحجرات : 4 ] . الثاني : { ٱلْحُجُرَاتِ } بضمتين ، وبفتح الجيم ، وبسكونها . وقرئ بهنّ جميعاً : جمع ( حجرة ) . وهي الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها . فُعْلَة بمعنى مفعولة ، كالغرفة والقبضة . قال الزمخشريّ : والمراد حجرات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانت لكل واحدة منهن حجرة . ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرّقوا على الحجرات ، متطلبين له ، فناداه بعض من وراء هذه ، وبعض من وراء تلك ، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة ، فنادوه من ورائها . وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها . ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولمكان حرمته . والفعل - وإن كان مسنداً إلى جميعهم - فإنه يجوز أن يتولاه بعضهم ، وكان الباقون راضين ، فكأنهم نولوه جميعاً . الثالث : قال الزمخشريّ : ورود الآية على النمط الذي وردت عليه ، فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات إكبار محل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله . منها : مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به ، بالسفه والجهل ، لما أقدموا عليه . ومنها : لفظ : { ٱلْحُجُرَاتِ } وإيقاعها ، كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه . ومنها : المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم . ومنها : التعري باللام دون الإضافة . ومنها : أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم ، وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات ، تهويناً للخطب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتسلية له ، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم ، وسوء أدبهم ، وهلم جرا … من أول السورة إلى آخر هذه الآية . فتأمل كيف ابتدئ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله ، متقدمة على الأمور كلها ، من غير حصر ولا تقييد . ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر ، كأن الأول بساط للثاني ، ووطاء لذكره . ثم ذكر ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك ، فغضوا أصواتهم ، دلالة على عظيم موقعه عند الله . ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم ، وهجنته أتم ، من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر ، كما يصاح بأهون الناس قدراً ، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه ، وجسروا عليه ؛ لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول ، حتى خاطبه جِلَّة المهاجرين والأنصار بأخي السرار ، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغاً . ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب ، وتقتبس محاسن الآداب ، كما يحكى عن أبي عبيد ومكانه من العلم والزهد ، وثقة الرواية ما لا يخفى - أنه قال : ما دققت باباً على عالم قط ، حتى يخرج في وقت خروجه . انتهى . الرابع : قال ابن كثير : قال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم ، كما كان يكره في حياته ؛ لأنه محترم حيّاً ، وفي قبره صلى الله عليه وسلم . وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما ، فحصبهما . ثم ناداهما فقال : من أين أنتما ؟ قالا : من أهل الطائف . قال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً . انتهى . الخامس : روى البخاريّ عن عبد الله بن الزبير أنه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : أَمِّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : أمّر الأقرع بن حابس . فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ! فقال عمر : ما أردت خلافك ! فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما . فنزل في ذلك : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ … } [ الحجرات : 1 ] حتى انقضت الآية . وفي رواية : فأنزل الله في ذلك : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ … } [ الحجرات : 2 ] الآية . قال ابن الزبير : فما كان عمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه . وقد انفرد بهاتين الروايتين البخاريّ دون مسلم . قال الحافظ ابن حجر : وقد استُشكل ذلك ! قال ابن عطية : الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب . قال ابن حجر : قلت : لا يعارض ذلك هذا الحديث ، فإن الذي يتعلق بقصة الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورة : { لاَ تُقَدِّمُواْ } ولكن لما اتصل بها قوله : { لاَ تَرْفَعُوۤاْ } تمسك عمر منها بخفض صوته . وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم ، والذين يختص بهم ، وقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلْحُجُرَاتِ } [ الحجرات : 4 ] انتهى . وتقدم لنا مراراً الجواب عن أمثاله ، بأن قولهم : نزلت الآية في كذا ، قد يكون المراد به الاستشهاد على أن مثله مما تتناوله الآية ، لا أنه سبب لنزولها . قال الإمام ابن تيمية : قولهم نزلت هذه الآية في كذا ، يراد به تارة سبب النزول ، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية ، وإن لم يكن السبب . كما تقول : عنى بهذه الآية كذا . انتهى . وبه يجاب عما يرويه كثير من تعدد سبب النزول ، فاحفظه ، فإنه من المضنون به على غير أهله . ولو وقف عليه ابن عطية لما ضعف رواية البخاريّ ، ولما تمحل ابن حجر لتفكيك الآيات بجعل بعضها لسبب . وبعضها الآخر ، في قصة واحدة . وبالله التوفيق .