Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 103-103)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ } أي : ما شرع وما وضع . و ( من ) مزيدة لتأكيد النفي . والبحيرة ( كسفينة ) فعيلة بمعنى المفعول من ( البحر ) وهو شق الأذن . يقال : بحر الناقة والشاة ، يبحرها : شق أذنها . وفي البحرة أقوال كثيرة ساقها صاحب القاموس وغيره . قال أبو إسحاق النحويّ : أثبت ما روينا عن أهل اللغة في البحرة : أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن ، فكان أخرها ذكراً ، بحروا أذنها ( أي : شقوها ) وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح ، ولا تمنع عن ماءٍ ترده ولا من مرعى . وإذا لقيها المعيي المنقطع به ، لم يركبها { وَلاَ سَآئِبَةٍ } وهي الناقة كانت تسيب في الجاهلية لنذر أو لطواغيتهم . أي : تترك ولا تركب ولا يحمل عليها كالبحيرة . أو كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث ، ليس بينهن ذكر ، سيبت فلم تركب ولم يجزَّ وبرها ، ولم يشرب لبنَها إلا ولدُها أو الضيف . أو كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد ، أو برئ من علة ، أو نجت دابته من مشقة أو حرب ، قال : هي ( أي ناقتي ) سائبة { وَلاَ وَصِيلَةٍ } كانوا إذا ولدت الشاة ستة أبطن عَنَاقيْن عَنَاقْين . وولدت في السابع عناقاً وجدياً ، قالوا : وصلت أخاها . فلا يذبحون أخاها من أجلها . وأحلّوا لبنها للرجال وحرموه على النساء . والعناق ( كسحاب ) الأنثى من أولاد المعز . وقيل الوصيلة كانت في الشاة خاصة ، إذا ولدت الأنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم . وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم { وَلاَ حَامٍ } وهو الفحل من الإبل بضرب الضراب المعدود . فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس ، وسيبوه للطواغيت . وقيل : هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن . ثم هو حام حمى حمى ظهره . فيترك فلا ينتفع منه بشيء ، ولا يمنع من ماء ولا مرعى . وحكى أبو مسلم : إذا نتجت الناقة عشرة أبطن ، قالوا : حمت ظهرها . وقد روي في تفسير هذه الأربعة ، أقوال أخر . ولا تنافي في ذلك ؛ لأن أهل الجاهلية لهم في أضاليلهم تفنّنات غريبة . هذا وروي ابن أبي حاتم عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة ، عن أبيه مالك ابن نضلة ، قال : " أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في خلقان من الثياب . فقال لي : " هل لك من مال ؟ " فقلت : نعم . قال : " من أيّ المال ؟ " قال : فقلت : من كل المال : الإبل والغنم والخيل والرقيق . قال : " فإذا أتاك الله مالاً كثيراً فَكَثِّر عليك " . ثم قال : " تنتج إبلك وافية آذانها " ؟ قال : قلت : نعم . قال : وهل تنتج الإبل إلا كذلك ؟ قال : " فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها ، وتقول : هذه حرم ؟ " قلت : نعم . قال : " فلا تفعل . إن كل ما آتاك الله لك حل " . ثم قال : { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } " . أما البحيرة : فهي التي يجدعون آذانها فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها . فإذا ماتت اشركوا فيها . وأما السائبة : فهي التي يسيبون لآلهتهم يذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها ، وأما الوصيلة فالشاة تلد ستة أبطن . فإذا ولدت السابع جدعت وقطعت قرنها فيقولون : قد وصلت ، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض . قال ابن كثير : هكذا ذكر تفسير ذلك مدرجاً في الحديث . وقد روي من وجه آخر عن أبي الأحوص من قوله ، وهو أشبه . وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد عن مالك بن نضلة . وليس فيه تفسير هذه . والله أعلم . { وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } أي : ما شرع الله هذه الأشياء ، ولا هي عنده قربة . ولكن المشركون افتروا ذلك وجعلوه شرعاً لهم وقربة يتقربون بها ، وليس ذلك بحاصل لهم ، بل هو وبال عليهم . وفي البخاريّ أن التبحير والتسيب وما بعدهما ، كله لأجل الطواغيت . يعني : أصنامهم ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت عمرو بن عامر الخزاعيّ يجر قُصْبَهُ في النار . وكان أول من سيّب السوائب وبَحَرَ البحيرة وغيّر دين إسماعيل " لفظ مسلم . زاد ابن جرير : " وحمى الحامي " . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر . وإني رأيته يجر أمعاءه في النار " . قال ابن كثير : عمروٌ هذا هو ابن لُحَيٍّ بن قَمَعَةَ أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جُرْهم . وكان أول من غيّر دين إبراهيم الخليل . فأدخل الأصنام إلى الحجاز ودعا الرعاء من الناس إلى عبادتها والتقرب بها . وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها . كما ذكره الله تعالى في ( سورة الأنعام ) عند قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَٰمِ نَصِيباً … } [ الأنعام : 136 ] الآيات انتهى . لطيفة قال الرازيّ : فإن قيل : إذا جاز إعتاق العبيد والإمام ، فلم لا يجوز إعتاق هذه البهائم من الذبح والإتعاب والإيلام ؟ قلنا : الإنسان مخلوق لخدمة الله تعالى وعبوديته . فإذا أزيل الرق عنه تفرغ لعبادته تعالى ، فكان ذلك قربة مستحسنة . وأما هذه الحيوانات فإنها مخلوقة لمنافع الناس . فإهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها وعلى غيره . أي وهو خلاف الحكمة التي خلقت هي لأجلها . على أن الرقيق إذا أُعتق قَدَرَ على تحصيل مصالح نفسه ، بخلاف البهيمة . ففي تسييبها إيقاع لها في أنواع من المحنة والمشقة . قال المهايميّ : قاسوه ( يعني التبحير ) على عتق الإنسان مع ظهور الفرق . لما في عتق الإنسان من تمليك التصرفات ، ولا تصرف للحيوانات العجم . ثم قال : الأول : كالعتق بلا نذر . والثاني : كالعتق بالنذر . والثالث : مشبه بما يشبه العتق . الرابع : ملك النفس بلا تمليك . ولا معنى للتمليك في الحيوانات العجم ، فهذه الأمور غير معقولة ظاهراً وباطناً ، فلا يفعلها الحكيم . تنبيه قال السيوطيّ في ( الإكليل ) : في الآية تحريم هذه الأمور . واستنبط منه تحريم جميع تعطيل المنافع . ومن صور السائبة : إرسال الطائر ونحوه . واستدل ابن الماجشون بالآية على منع أن يقول لعبده : أنت سائبة . وقال : لا يعتق . انتهى . وقال بعض مفسري الزيدية : قال الحاكم : استدل بعضهم على بطلان الوقف بالآية الكريمة ؛ لأن الملك لا يخرج عن ملك صاحبه إلا إلى مالك آخر . أو على وجه القربة إلى الله . كتحرير الرقاب . قال الحاكم : وليس بصحيح ؛ لأن الوقف قربة كالعتق . ولقائل أن يقول : يستدل بالآية على نظير ذلك . وهو ما يلقى في الأنهار والطريق وقرب الأشجار ، من طرح البيض والفراريج ونحو ذلك . فلا يجوز فعله ، ولا يزول ملك المالك . ويحتمل أن يقال : قد رغب عنه وصيره مباحاً . وأما كسر البيض على العمارة والطريق والأبواب ، فالظاهر عدم الجواز ؛ لأن في ذلك إضاعة مال ، ولم يرد بفعله دليل . انتهى . ولما بيّن تعالى أن أكثرهم لا يعقلون أن تحريم هذه الأشياء افتراء باطل حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق ، وإنما يقلدون قدماءهم - أشار إلى عنادهم واستعصائهم حينما هدوا إلى الحق ، وإلى ضلالهم ببقائهم في أسر التقليد ، بقوله سبحانه : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ … } .