Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 102-102)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ } أي : سألوا هذه المسئلة ، لكن لا عينها ، بل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال . وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير { ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } أي : بسببها . حيث لم يمتثلوا ما أجيبوا به ، ويفعلوه . وقد كان بنو إسرائيل يستفتون أنبياءهم عن أشياء ، فإذا أُمِروا بها تركوها فهلكوا . والمعنى : احذروا مشابهتهم والتعرّض لما تعرّضوا له . تنبيهات الأول : روى البخاريّ في سبب نزولها في ( التفسير ) عن أبي الجويرية عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاءًَ . فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل ، تضلّ ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ … } [ المائدة : 101 ] حتى فرغ من الآية كلها . وأخرج أيضاً عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط ، قال : " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً … " قال : فغطّى أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ، لهم خنين . فقال رجل : مَن أبي ؟ قال : " فلان " ، فنزلت هذه الآية : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } [ المائدة : 101 ] . وروى البخاريّ أيضاً في كتاب ( الفتن ) عن قتادة : أنّ أنساً حدثهم قال : سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى أَحْفَوْه بالمسئلة . فصعد النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ المنبر فقال : " " لا تسألوني عن شيءٍ إلا بينت لكم " . فجعلتُ أنظر يميناً وشمالاً ، فإذا كلّ رجلٍ ، رأسه في ثوبه يبكي . فأنشأ رجل - كان إذا لاحى يُدْعَى إلى غير أبيه - فقال : يا نبيّ الله ، من أبي ؟ فقال : " أبوك حذافة " . ثم أنشأ عمر فقال : رضينا بالله ربّاً وبالإسلام ديناً ، وبحمدّ رسولاً . نعوذ بالله من سوء الفتن . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت في الخير والشرّ كاليوم قط . إنه صوّرت لِيَ الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط " " . فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ } [ المائدة : 101 ] . وفي رواية : قال قتادة يُذْكَرُ - بالبناء للمجهول - هذا الحديث … إلخ . وروى البخاريّ أيضاً في كتاب ( الاعتصام بالكتاب والسنّة ) في باب ما يكره من كثرة السؤال ، عن الزهريّ قال : أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه " أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس فصلّى الظهر . فلما سلّم قام إلى المنبر فذكر الساعة . وذكر أن بين يديها أمورا عظاما ، ثم قال : " من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه ، فوالله ! لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا " قال أنس : فأكثر الأنصار البكاء ، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : " سلوني " . فقال أنس : فقام إليه رجل فقال : أين مدخلي يا رسول الله ؟ قال : " النار " . فقام عبد الله بن حذافة فقال : من أبي يا رسول الله ؟ قال : " أبوك حذافة " . قال : ثم أكثر أن يقول : " سلوني " . فبرك عمر على ركبتيه فقال : رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا . قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ! لقد عرضت عليّ الجنة والنار آنفاً في عُرْض هذا الحائط وأنا أصلي . فلم أر كاليوم في الخير والشر " " . وعند مسلم : قال ابن شهاب : أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة : ما سمعتُ بابنٍ قطّ أعقَّ منك . أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية ، فتفضحها على أعين الناس ؟ قال عبد الله بن حذافة : والله ! لو ألحقني بعبد أسود للحقته . وروى ابن جرير عن السدّيّ قال : " غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الأيام فقام خطيبا فقال : " سلوني " - نحو ما تقدم - وزاد : فقام إليه عمر فقبل رجله وقال : رضينا بالله ربا … إلخ . وزاد : وبالقرآن إماما ، فاعف عنا عفا الله عنك . فلم يزل به حتى رضي . وأخرج أيضا عن أبي هريرة قال : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارّ وجهه حتى جلس على المنبر . فقام إليه رجل فقال : أين أنا ؟ قال : " في النار " - نحو ما مرّ - وفيه : فنزلت : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ … } [ المائدة : 101 ] الآية . قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : وبهذه الزيادة - أي على ما في البخاريّ من قول رَجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : أين أنا ؟ قال : " في النار " - يتضح أن هذه القصة سبب نزول : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ … } [ المائدة : 101 ] الآية ، فإن المساءة في حق هذا جاءت صريحة ، بخلافها في حق حذافة فإنها بطريق الجواز ، أي : لو قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه ، فبيّن أباه الحقيقيّ ، لافتضحت أمه ، كما صرحت بذلك أمه حين عاتبته على هذا السؤال . انتهى . وروى الإمام أحمد والترمذيّ عن أبي البختريّ عن عليّ رضي الله عنه قال : " لما نزلت هذه الآية : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] قالوا : يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ فسكت ، فقالوا : أفي كلّ عام ؟ فسكت ، قال : ثم قالوا : أفي كلّ عام ؟ . فقال : " لا . ولو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم " . فأنزل الله : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ … } [ المائدة : 101 ] الآية " . قال الترمذيّ : غريب . وسمعت البخاريّ يقول : أبو البختريّ لم يدرك عليّاً . وروى ابن جرير نحوه عن أبي هريرة وأبي أمامة ، وكذا عن ابن عباس ، قال في الآية : لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك ، ولكن انتظروا . فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه . اهـ . قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل . إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان ، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسئل عنه لكان على الإباحة . الثاني : قال ابن كثير : ظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته . فالأوْلى الإعراض عنها وتركها . وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " لا يبلغني أحدٌ عن أحدٍ شيئاً . فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " ورواه أبو داود والترمذيّ . الثالث : قال الإمام ابن القيّم في ( إعلام الموقعين ) : لم ينقطع حكم هذه الآية . بل لا ينبغي للعبد أن يتعرّض للسؤال عمّا إن بدا له ساءه . بل يستعفي ما أمكنه ، ويأخذ بعفو الله . ومن ههنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا صاحب الميزاب ، لا تخبرنا . لمّا سأله رفيقه عن مائه : أطاهر أم لا ؟ وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربّه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره . فلعلّه يسوءه إن أبدي له . فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله . فإنه سبحانه يكره إبداءها . ولذلك سكت عنها . اهـ . وما ذكره من التعميم هو باعتبار ظاهرها . وأما المقصود أولاً وبالذات - كما يفيده تتمتها - فهو النهي عن السؤال بما يسوء إبداؤه في زمن الوحي . ويدل له ، ما رواه البخاريّ عن سعد بن أبي وقاص : أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إن أعظم المسلمين جرماً ، مَنْ سأل عن شيءٍ لم يحرَّم فحرِّم من أجل مسئلته " . فإن مثل ذلك قد أمن وقوعه . وعن أبي هريرة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " ذروني ما تركتكم . فإنما هلَكَ مَنْ كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم . فإذا أمرتكم بشيءٍ فأتُوا منه ما استطعتم . وإذا نهيتكم عن شيءٍ فدعوه " رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائيّ . وعن أبي ثعلبة الخشنيّ : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها ، وحرّم أشياء فلا تقربوها ، وترك أشياء ، من غير نسيان ، فلا تبحثوا عنها " رواه الدارقطنيّ وأبو نعيم . وعن سلمان الفارسيّ قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال : " الحلال ما أحلّ الله في كتابه . والحرام ما حرّم الله في كتابه . وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه ، فلا تتكلفّوا " رواه الترمذيّ والحاكم وابن ماجه . وأخرج الشيخان عن أنس قال : كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ . وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع . وفي قصة اللعان من حديث ابن عمر : فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها . ولمسلم عن النوّاس بن سمعان قال : أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة بالمدينة ، ما يمنعني من الهجرة إلا المسألة . كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم . ومراده : أنه قدم وافداً ، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل ، خشية أن يخرج من صفة الوفد إلى استمرار الإقامة ، فيصير مهاجراً ، فيمتنع عليه السؤال . وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الإعراب ، وفوداً كانوا أو غيرهم . وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال : لمّا نزلت : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ … } [ المائدة : 101 ] الآية , كنّا قد أتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم فأتينا أعرابياً فرشوناه برداءٍ وقلنا : سل النبيّ صلى الله عليه وسلم . ولأبي يعلى عن البراء : إن كان ليأتي عليّ السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشيء فأتهيّب . وإن كنا لنتمنى الأعراب - أي قدومهم - ليسألوا , فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب , فيستفيدوها . وأمّا ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة , فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية ، ويحتمل أن النهي عن الآية لا يتناول ما يحتاج إليه ما تقرر حكمه ، أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة : كالسؤال عن الذبح بالقصَب . والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة . والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن . والأسئلة التي في القرآن : كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى والمحيض والنساء والصيد وغير ذلك … لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عمّا لم يقع ، أخذوه بطريق الإلحاق ، من جهة أن كثرة السؤال ، لمّا كانت سبباً للتكليف بما يشق ، فحقها أن تجتنب . وقد عقد الإمام الدارميّ في أوائل ( مسنده ) لذلك باباً . وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثاراً كثيرة في ذلك ، منها : عن ابن عمر : لا تسألوا عما لم يكن . فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن . وعن عمر : أحرّج عليكم أن تسألوا عمّا لم يكن . فإن لنا فيما كان شغلاً . وعن زيد بن ثابت ؛ أنه كان إذا كان إذا سئل عن الشيء ؟ يقول : كان هذا ؟ فإن قيل : لا ! قال : دعوه حتى يكون . وعن أبي بن كعب ، وعن عمار نحو ذلك . وأخرج أبو داود في ( المراسيل ) : عن أبي سلمة ومعاذ مرفوعاً : لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها . فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين مَنْ إذا قال سُدِّد - أو وفق - وإن عجلتم تشتَّتَتْ بكم السبل . وعن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعاً : لا يزال في أمتي من إذا سئل سُدِّد ، حتى يتساءلوا عمّا لم ينزل . قال بعض الأئمة : والتحقيق في ذلك ؛ أن البحث عما لا يوجد فيه نص ، على قسمين : أحدهما أن يبحث عن دخوله في دلالة النصّ على اختلاف وجوهها ؛ فهذا مطلوب لا مكروه . بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين . ثانيهما : أن يدقق النظر في وجوه الفروق ، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع ، أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طرديّ مثلا . فهذا الذي ذمه السلف . وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه : " هلك المتنطعون … " أخرجه مسلم ، فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته . ومثله : الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع ، وهي نادرة الوقوع جداً ، فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى ، لا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه . وأشد من ذلك - في كثرة السؤال - البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها . ومنها لا يكون له شاهد في عالم الحسّ . كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة … إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف . والكثير منه لم يثبت فيه شيء ، فيجب الإيمان به من غير بحث . وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة . قال بعضهم : مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن - أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق : هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أولا ؟ فيجيبه بالجواز . فإن عاد فقال : أخشى أن يكون من نهب أو غصب ، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة ، فيحتاج أن يجيبه بالمنع . ويقيّد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم ، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى . ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز . وإذا تقرر ذلك ، فمن يسدّ باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها ، فإنه يقل فهمه وعلمه ؛ ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها - ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر ، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة - فإنه يذم فعله ، وهو عين الذي كرهه السلف . ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله ، محافظاً على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ، الذين شاهدوا التنزيل . وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه ، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك ، مقتصراً على ما يصلح للحجة منها ، فإنه الذي يحمد وينتفع به . وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمَن بعدهم - كذا في فتح الباري . ثم رأيت في ( موافقات ) الإمام الشاطبيّ رحمه الله تعالى ، في أواخرها - في هذا الموضوع - مبحثاً جليلاً ، قال في أوله : الإكثار من الأسئلة مذموم . والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح . من ذلك قوله تعالى … - وساق هذه الآية وما أسلفناه من الآثار وزاد أيضاً عما نقلنا - ثم قال : … والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية ، مذموم ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وُعِظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه . وكانوا يحبون أن يجيء الأعراب فيسألون حتى يسمعوا كلامه ويحفظوا منه العلم … ثم قال : ويتبينّ من هذا أن لكراهية السؤال مواضع ، نذكر منها عشرة مواضع : أحدها : السؤال عمّا لا ينفع في الدين ، كسؤال عبد الله بن حذافة : مَن أبي ؟ وروي في ( التفسير ) أنه عليه السلام سئل : ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدراً ثم ينقص إلى أن يصير كما كان ؟ فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ … } [ البقرة : 189 ] الآية فإنما أجيب بما فيه من منافع الدين . وثانيها : أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته ، كما سأل الرجل عن الحج : أكلّ عام ؟ مع أن قوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] قاض بظاهره أنه للأبد ، لإطلاقه . ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } [ البقرة : 67 ] . وثالثها : السؤال من غير احتياجٍ إليه في الوقت ، وكأن هذا - والله أعلم - خاص بما لم ينزل فيه حكم ، وعليه يدل قوله : " ذَرُونِي ما تَرَكْتُكُمْ " وقوله : " وسكت عن أشياء رحمةً بكم ، لا عَنْ نسيان ، فلا تبحثوا عنها " . ورابعها : أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها ، كما جاء في النهي عن الأغلوطات . وخامسها : أن يسأل عن علة الحكم - هو من قبيل التعبدات ، أو السائل ممّن لا يليق به ذلك السؤال - كما في حديث قضاء الصوم دون الصلاة . وسادسها : أن يبلغ بالسؤال إلى حدّ التكلّف والتعمّق ، وعلى ذلك يدلّ قوله تعالى : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ ٱلْمُتَكَلِّفِينَ } [ ص : 86 ] ؛ ولما سئل الرجل : يا صاحب الحوض ، هل ترد حوضك السباع ؟ قال عمر بن الخطاب : يا صاحب الحوض ، لا تخبرنا ! فإنا نرد على السباع وترد علينا . وسابعها : أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي ، ولذلك قال سعيد : أعراقيّ أنت ؟ وقيل لمالك بن أنس : الرجل يكون عالماً بالسنة أيجادل عنها ؟ قال : لا . ولكن يخبر بالسنة . فإن قبلت منه ، وإلا سكت . وثامنها : السؤال عن المتشابهات ، وعلى ذلك يدل قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ … } [ آل عمران : 7 ] الآية . وعن عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه غرضاً للخصومات أسرع التنقل . ومن ذلك سؤال من سأل مالكاً عن الاستَواء ؟ فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهول ، والسؤال عنه بدعة . وتاسعها : السؤال عما شجر بين السلف الصالح . وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صِفِّين ؟ فقال : تلك دماء كف الله عنها يدي ، فلا أحب أن ألطّخ بها لساني . وعاشرها : سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام . وفي القرآن في ذم نحو هذا : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ … } [ البقرة : 204 ] . وقال : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [ الزخرف : 58 ] ، وفي الحديث : " أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم " . هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها ، يقاس عليها ما سواها ، وليس النهي فيها واحداً ، بل فيها ما تشتدّ كراهيته ، ومنها ما يخفّ ، ومنها ما يحرم ، ومنها يكون محلّ اجتهاد . وعلى جملة ، منها يقع النهي عن الجدال في الدين كما جاء : إن المراء في القرآن كفر . وقال تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِيۤ ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ … } [ الأنعام : 68 ] الآية . وأشباه ذلك من الآي والأحاديث … فالسؤال في مثل ذلك منهيّ عنه ، والجواب بحسبه . انتهى كلامه . التنبيه الرابع : قال بعض المفسّرين : لا بد من تقييد النهي في هذه الآية ( بما لا تدعو إليه حاجة ) . لأن الأمر الذي تدعوا إليه الحاجة في أمور الدين قد أذن الله بالسؤال عنه فقال : { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 والأنبياء : 7 ] . وقال صلى الله عليه وسلم : " قاتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا . فإنما شفاء العيّ السؤال " … انتهى . ولا يخفى أن الآية بقيدها - أعني { إِن تُبْدَ … } [ المائدة : 101 ] إلخ - غنية عن أن تقيّد بقيدٍ آخر كما ذكره البعض ؛ لأن المراد بها ما يشق عليهم من التكاليف الصعبة وما يفتضحون به - كما أسلفنا - مما هو خوض في الفضول ، وشروع فيما لا حاجة إليه . وفيه خطر المفسدة . والشيءُ الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة ، يجب على العاقل الاحتراز عنه . وأمّا ما تدعو إليه الحاجة فلا تشمله الآية - كما يتضح من نظمها الكريم - مع ما بيّنته السنّة في سبب النزول ، وتحرّج الصحابة عن المسائل المارّ بيانه - معلومٌ أنه فيما لا ضرورة إليها . وإلا فمسائلهم في الضروريات والحاجيات طفحت بها كتب السنة ، مما يبيّن أن هذه الآية في موضوع خاص . وقد كان صلى الله عليه وسلم يكره فتح باب كثرة المسائل ، خشية أن تفضي إلى حرج أو مساءة أو تعنّت . روى الشيخان عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية : " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال " . وروى أحمد وأبو داود : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات - وهي صعاب المسائل - والآثار في ذلك كثيرة . ثم بيّن تعالى بطلان ما ابتدعه أهل الجاهلية - من تحريم بعض بهيمة الأنعام - بقوله سبحانه - : { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ … } .