Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 116-116)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } اعلم أنا بينا أن الغرض من قوله تعالى للرسل : { مَاذَآ أُجِبْتُمْ } [ المائدة : 109 ] توبيخ مَن تمرد من أممهم . وأشد الأمم افتقاراً إلى التوبيخ والملامة النصارى ، الذين يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام ؛ لأن طعن سائر الأمم كان مقصوراً على الأنبياء . وطعن هؤلاء الملحدة تعدى إلى جلال الله وكبريائه ، حيث وصفوه بما لا يليق أن يوصف مقامه به ، وهو اتخاذ الزوجة والولد . فلا جرم ، ذكر تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة ، إشعاراً بعبوديته . فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة عليه ، تدل على أنه عبد وليس بإله ، ثم أتبع ذلك باستفهامه لينطق بإقراره ، عليه السلام ، على رؤوس الأشهاد ، بالعبودية ، وأمره لهم بعبادة الله عز وجل . إكذابا لهم في افترائهم عليه ، وتثبيتاً للحجة على قومه ؛ فهذا سر سؤاله تعالى له ، مع علمه بأنه لم يقل ذلك . وكل ذلك لتنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول الآية ومَن تأثرهم ، على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم . تنبيهات الأول : روي عن قتادة : أن هذا القول يكون يوم القيامة لقوله تعالى : { هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [ المائدة : 119 ] . وقال السدّيّ : هذا الخطاب والجواب ، في الدنيا . وصوّبه ابن جرير ، قال : وكان ذلك حين رفعه إلى السماء . واحتج ابن جرير على ذلك بوجهين : ( أحدهما ) : أن الكلام بلفظ المضيّ ؛ و ( الثاني ) : قوله : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } [ المائدة : 118 ] . قال الحافظ ابن كثير : وهذان الدليلان فيهما نظر ؛ لأن كثيراً من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضيّ ليدل على الوقوع والثبوت . ومعنى قوله : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ … } [ المائدة : 118 ] الآية . التبرؤ منهم وردّ المشيئة فيهم إلى الله تعالى . وتعليقُ ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه . كما في نظائر ذلك من الآيات . فالذي قاله قتادة وغيره هو الأظْهَرُ . فالله أعلم أنّ ذلك كائن يوم القيامة ، ليدلّ على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد . وقد روي بذلك حديث مرفوع ، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله مولى عمر بن عبد العزيز ، وكان ثقة قال : سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه ، أبي موسى الأشعريّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " إذا كان يوم القيامة دعي الأنبياء وأُمَمِهم . ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقرّ بها فيقول : { يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ … } [ المائدة : 110 ] الآية ، ثم يقول : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } " فينكر أن يكون قال ذلك ، فيؤتى بالنصارى فيُسْئَلون فيقولون : نعم هو أمرنا بذلك ! قال : فيطول شَعْر عيسى عليه السلام . فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده فيجاثيهم بين يدي الله عز وجل مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم إلى النار " . قال ابن كثير : وهذا حديث غريب عزيز . الثاني : إيثار قوله تعالى : { وَأُمِّيَ } على { مَرْيَمَ } توبيخ للمتخذين ، على توبيخ . أي مع أنك بشر تلد وتولد قبل هذا . الثالث : توهم بعضهم أن كلمة ( من دون الله ) تفيد أنّ النصارى يعتقدون أن عيسى وأمه , عليهما السلام ، مستقلان باستحقاق العبادة , بدلاً عن الله تعالى . كما يقال : اتخذت فلاناً صديقاً من دوني . فإن معناه أنه استبدله به ، لا أنه جعله صديقاً معه . وهم لم يقولوا بذلك . بل ثلثوا . فأجاب : بأن من أشرك مع الله غيره فقد نفاه معنى ؛ لأنه وحده لا شريك له , منزه عن ذلك . فإقراره بالله كلا إقرار . فيكون { مِن دُونِ ٱللَّهِ } مجازاً عن { مَعَ ٱللَّهِ } [ الأنعام : 19 ] . ولا يخفى أن هذا تكليف . لأن توبيخهم إنما يحصل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحا لا بما يلزمه بضرب من التأويل . فالصواب أن المراد اتخاذهما بطريق إشراكهما به سبحانه . كما في قوله تعالى : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَاداً } [ البقرة : 165 ] وقوله عز وجل : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] إلى قوله تعالى : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ يونس : 18 ] إذ به يتأتى التوبيخ , ويتسنى التقريع والتبكيت . هذا ما حققوه هنا . وأقول : إن كلمة ( دون ) في هذه الآية وأمثالها بمعنى ( غير ) كما حققه اللغويون . ولا تفيد , وضعا , الاستقلال والبدلية , كما توهم وسر ذكرها إفهام الشركة ؛ لأنه لولاها لتوهم دعوى انحصار الألوهية فيما عداه . مع أنهم لا يعتقدون ذلك . ولا يفهم من نحو " أتخذت صديقاً من دوني " الاستبدال . فذاك من قرينة خارجية . وإلا فالمثال لا يعينه . لجواز إرادة اتخاذه معه كما لا يخفى . فتبصر { قَالَ سُبْحَانَكَ } أي : أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن يقال هذا ويُنطق به { مَا يَكُونُ لِيۤ } أي : ما يتصور مني بعد إذ بعثتني لهداية الخلق { أَنْ أَقُولَ } أي : في حق نفسي { مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } أي : ما استقر في قلوب العقلاء عدم استحقاقي له مما يضلهم { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } استئناف مقرر لعدم صدور القول المذكور عنه عليه السلام ، بالطريق البرهانيّ . فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه تعالى به قطعاً . فحيث انتفى علمه تعالى به ، انتفى صدوره عنه حتما . ضرورة ، أن عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم . قاله أبو السعود . { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } استئناف جار مجرى التعليل لما قبله . كأنه قيل : لأنك تعلم ما أخفيه في نفسي . فكيف بما أعلنه . وقوله تعالى : { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } بيان للواقع ، وإظهار لقصوره . أي : ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك . أفاده أبو السعود . { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } .