Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 19-19)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ } أي : ما أمرتم به وما نهيتم عنه { عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ } متعلق بـ ( جاءكم ) أي : جاءكم على حين فتورٍ من إرسال الرسل ، وانقطاعٍ من الوحي ، إذ لم يكن بينه وبين عيسى رسولٌ ، ومدة الفترة بينهما خمسمائة وتسع وستون سنة . { أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذف المضاف ، أي : كراهة أن تعتذروا بذلك يوم القيامة وتقولوا : ما جاءنا من رسولٍ - بعد ما درس الدينُ - يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز ، وينذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم . وقد كان اختلط في تلك الفترة الحقّ بالباطل - كما سنبيّنه - { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } متعلق بمحذوف تنبئ عنه الفاء الفصيحة وتبين أنه معلل به ، أي : لا تعتذروا ( بما جاءنا ) فقد جاءكم بشير أي بشير ، ونذير أي : نذير . { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } من إرسال الرسل ، والثواب لمن أجاب الرسل ، والعقاب لمن لم يُجبْهم . قال البقاعيّ : وفي الختم بوصف القدرة ، وإتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوّة والملك ، بعد ما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل ، إشارة إلى أن إنكارهم لأن يكون من ولد إسماعيل عليه السلام نبيّ ، يلزم منه إنكارهم للقدرة . تنبيه قال ابن كثير : كانت الفترة بين عيسى ابن مريم - آخر أنبياء بني إسرائيل - وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق . كما ثبت في ( صحيح البخاريّ ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنا أولى الناس بابن مريم ليس بيني وبينه نبيّ " وهذا فيه ردّ على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبيّ يقال له خالد بن سنان . كما حكاه القضاعيّ وغيره . انتهى . وقال الحافظ ابن حجر في ( فتح الباري ) : استدل به - يعني بحديث أبي هريرة - على أنه لم يبعث بعد عيسى أحد إلا نبيّنا صلى الله عليه وسلم . وفيه نظر ؛ لأنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية - المذكورة قصتهم في سورة " يس " - كانوا من أتباع عيسى . وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيَّيْن , وكانا بعد عيسى . والجواب : أن هذا الحديث يضعف ما رد من ذلك ، فإنه صحيح بلا تردد ، وفي غيره مقال . أو المراد : إنه لم يبعث بعد عيسى نبيّ بشريعة مستقلة ، وإنما بعث بعده , مَنْ بُعِثَ , بتقرير شريعة عيسى . وقصة خالد بن سنان أخرجها الحاكم في ( المستدرك ) من حديث ابن عباس , ولها طرق جمعتُها في ترجمته في كتابي في ( الصحابة ) . انتهى . وقد ذكرت في كتابي ( إيضاح الفطرة في أهل الفترة ) في الباب الحادي عشر مَنْ كان في الفترة من الأنبياء على ما روي . فارجع إليه . قال ابن كثير : والمقصود من هذه الآية , أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على فترةٍ من الرسل , وطموسٍ من السبل , وتغيّر الأديان , وكثرة عبّاد الأوثان والنيران والصلبان ، فكانت النعمة به أتمّ النعم , والحاجة إليه أمر عام , فإن الفساد كان قد عمّ جميع البلاد , والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد . إلا قليلاً من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين . كما روى أحمد عن عياض المجاشعي - رضي الله عنه - أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب ذات يومٍ فقال في خطبته : " وإن ربّي , أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم مما علّمني في يومي هذا . كلّ مالٍ نحلته عبادي حلال . وإني خلقت عبادي حنفاءَ كلهم , وأنهم أتتهم الشياطين فأضلّتْهم عن دينهم . وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم , وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا . ثم إن الله عزّ وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم . عجميهم وعربيهم . إلا بقايا من أهل الكتاب . وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك . وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء ، تقرؤه نائماً ويقظاناً … " انتهى . وقال الأستاذ النحرير الشيخ محمد عبده مفتي مصر في ( رسالة التوحيد ) في بحث رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم ما نصّه : ليس من غرضنا في هذه الوريقات أن نلمّ بتاريخ الأمم عامة , وتاريخ العرب خاصة , في زمن البعثة المحمدية , لنبين كيف كانت حاجة سكان الأرض ماسّة إلى قارعة تهزّ عروش الملوك , وتزلزل قواعد سلطانهم الغاشم , وتخفض من أبصارهم المعقودة بعنان السماء , إلى من دونهم من رعاياهم الضعفاء ، وإلى نارٍ تنقض من سماء الحق على أُدُمِ الأنفس البشرية . لتأكل ما اعشوشبت به من الأباطيل القاتلة للعقول ، وصيحةٍ فصحى تزعج الغافلين , وترجع بألباب الذاهلين , وتنبّه المرؤوسين إلى أنهم ليسوا بأبعد عن البشرية من الرؤساء الظالمين , والهداة الضالين , والقادة الغارّين , وبالجملة تؤوب بهم إلى رشدٍ يقيم الإنسان على الطريق التي سنّها الإله { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان : 3 ] ليبلغ بسلوكها كماله , ويصل على نهجها إلى ما أُعدّ في الدارين له ، ولكنا نستعير من التاريخ كلمةً يفهمها من نظر فيما اتفق عليه مؤرّخو ذلك العهد , نظر إمعانٍ وإنصافٍ . كانت دولتا العالم ( دولة الفرس في الشرق , ودولة الرومان في الغرب ) في تنازعٍ وتجالد مستمرٍ دماء بين العالمين مسفوكة , وقوى منهوكة , وأموال هالكة , وظُلَم من الإحن حالكة . ومع ذلك , فقد كان الزهو والترف والإسراف والفخفخة والتفنّن في الملاذ بالغةً حدّ ما لا يوصف في قصور السلاطين والأمراء , والقواد ورؤساء الأديان من كل أمّة . وكان شَرَهُ هذه الطبقة من الأمم لا يقف عند حدّ . فزادوا في الضرائب , وبالغوا في فرض الإتاوات , حتى أثقلوا ظهور الرعية بمطالبهم . وأتوا ما في أيديها من ثمرات أعمالها , وانحصر سلطان القويّ في اختطاف ما بيد الضعيف . وفكّر العاقل , في الاحتيال لسلب الغافل ؛ وتبع ذلك أن استولى على تلك الشعوب ضروب من الفقر والذل والاستكانة والخوف والاضطراب , لفقد الأمن على الأرواح والأموال . غمرت مشيئة الرؤساء إرادةَ من دونهم . فعاد هؤلاء كأشباح اللاعب . يديرها من وراء حجاب , ويظنها الناظر إليها من ذوي الألباب , ففقد بذلك الاستقلال الشخصيّ , وظنّ أفراد الرعايا أنهم لم يخلقوا إلا لخدمة ساداتهم وتوفير لذّاتهم , كما هو الشأن في العجماوات مع من يقتنيها . ضلت السادات في عقائدها وأهوائها ، وغلبتها على الحق والعدل شهواتها ، ولكن بقي لها من قوة الفكر أردأ بقاياها . فلم يفارقها الحذر من أنّ بصيص النور الإلهيّ ، الذي يخالط الفطر الإنسانية ، قد يفتق الغُلُفَ التي أحاطت بالقلوب ، ويمزّق الحجب التي أسدلت على العقول ، فتهتدي العامة إلى السبيل . ويثور الجم الغفير على العدد القليل ، ولذلك لم يغفل الملوك والرؤساء أن يُنْشِئوا سحباً من الأوهام ، ويهيِّئوا كسفاً من الأباطيل والخرافات ، ليقذفوا بها في عقول العامة ، فيغلظ الحجاب ، ويعظم الرَّين ، ويختنق بذلك نور الفطرة ، ويتم لهم ما يريدون من المغلوبين لهم . وصرّح الدين ، بلسان رؤسائه ، أنه عدوّ العقل وعدوّ كل ما يثمره النظر ، إلا ما كان تفسيراً لكتاب مقدس ، وكان لهم في المشارب الوثنية ينابيع لا تنضب ، ومدد لا ينفد . هذه حالة الأقوام كانت في معارفهم ، وذلك كان شأنهم في معايشهم ، عبيد أذلاء ، حيارى في جهالة عمياء ، اللهمّ إلا بعض شوارد من بقايا الحكمة الماضية ، والشرائع السابقة ، آوت إلى بعض الأذهان ، ومعها مقت الحاضر ، ونقص العلم بالغابر . ثارت الشبهات على أصول العقائد وفروعها ، بما انقلب من الوضع ، وانعكس من الطبع ، فكان يُرَى الدنس في مظنة الطهارة ، والشرَه حيث تنتظر القناعة ، والدعارة حيث ترجى السلامة والسلام . مع قصور النظر عن معرفة السبب ، وانصرافه لأول وهلة إلى أن مصدر كلّ ذلك هو الدين . فاستولى الاضطراب على المدارك . وذهب بالناس مذهب الفوضى في العقل والشريعة معاً ، وظهرت مذاهب الإباحيين والدهريين في شعوب متعددة ، وكان ذلك ويلاً عليها ، فوق ما رزئت به سائر الخطوب . وكانت الأمة العربية قبائل متخالفة في النزاعات ، خاضعة للشهوات ، فخر كل قبيلة في قتال أختها ، وسفك دماء أبطالها ، وسبي نسائها ، وسلب أموالها . تسوقها المطامع ، إلى المعامع ، ويزين لها السيئات فسادُ الاعتقادات . وقد بلغ العرب من سخافة العقل حدّاً صنعوا أصنامهم من الحلوى ثم عبدوها ، فلما جاعوا أكلوها ، وبلغوا من تضعضع الأخلاق وهناً قتلوا فيه بناتهم تخلصاً من عار حياتهن ، أو تنصُّلاً من نفقات معيشتهنّ ، وبلغ الفحش منهم مبلغاً لم يَعُدْ معه للعفاف قيمة . وبالجملة : فكانت ربط النظام الاجتماعيّ قد تراخت عقدها في كل أمة ، وانفصمت عراها عند كل طائفة . أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم برجلٍ منهم يوحى إليه رسالته ؟ ويمنحه عنايته ؟ ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم ، التي أظلت رؤوس جميع الأمم ؟ نعم ، كان ذلك ، وله الأمر من قبل ومن بعد . انتهى . ثم أشار إلى تفريطهم في أمر الله الوارد على لسان موسى ، وتفريطهم في حقه مع حثّه إياهم على شكر الله ، ليسارعوا إلى امتثال أمره ، فقال : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ … } .