Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 26-26)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قَالَ فَإِنَّهَا } أي : الأرض المقدسة { مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } أي : بسبب أقوالهم هذه وأفعالهم ، لا يدخلونها ولا يملكونها ، ممن قال هذه المقالة أو رضيها أحد ، فالتحريم تحريم منعٍ لا تحريم تعبد { أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ } أي : يترددون في البرية متحيرين في الأرض حتى يهلكوا كلّهم ، و ( التيه ) المفازة التي يتيه فيها سالكها فيضلّ عن وجه مقصده { فَلاَ تَأْسَ } أي : تحزن { عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين من قيد الطاعات . قال العلامة البقاعيّ : ثم بعد هلاكهم أدخلها بنيهم الذين ولدوا في التيه . وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت السورة على طلب الوفاء بها ، وافتتحت بها ، وصرح بأخذها عليهم في قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ … } [ المائدة : 12 ] الآيات ، وفي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يفعلونه معه ، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق ، وترغيب لمن أطاع منهم ، وترهيب لمن عصى . ومات في تلك الأربعين ، كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة ، وكان الغمام يظلهم من حرّ الشمس ، ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء عليهم ، وغير هذا من النعم . لأن المنع بالتيه كان تأديباً لهم ، لا غضب ؛ إذ أنهم تابوا . ثم ساق البقاعيّ - رحمه الله - شرح هذه القصة من التوراة التي بين أيديهم بالحرف ، ونحن نأتي على ملخصها تأثراً له ، فنقول : جاء في سفر ( العدد ) في الفصل الثالث عشر : إن شعب بني إسرائيل لمّا ارتحلوا من حَصِيروت ونزلوا ببرّية فاران ، كلم الرب موسى بأن يبعث رجالاً يجسّون أرض كنعان ، من كل سبط رجلاً واحداً . وكلهم يكونون من رؤساء بني إسرائيل ؛ فأرسلهم موسى وأمرهم أن ينظروا إلى الأرض ، أجيدة أم رديئة ؟ وإلى أهلها ، أشديدون أم ضعفاء ؟ قليلون أم كثيرون ؟ وأن يوافوه بشيء من ثمرها . فساروا واجتسّوا الأرض من برية صِينَ إلى رَحُوبَ عند مدخل حماة ، ثم رجعوا بعد أربعين يوماً . وكان موسى وقومه في برية فاران في قادش ، فأروهم ثمر الأرض ، وقصّوا عليهم ما شاهدوه من جودة الأرض ، وأنها تدرّ لبناً وعسلاً ، ومن شدة أهلها وقوتهم وتحصن مدنهم ؛ فاضطرب قوم موسى . فأخذ كالبُ - أحد النقباء - يسكتهم عن موسى ويقول : نصعد ونرث الأرض فإنا قادرون عليها ، وخالفه بقية النقباء وقالوا : لا نقدر أن نصعد إليهم لأنهم أشدّ منّا . وهوّلوا على بني إسرائيل الأمر وقالوا : شاهدنا أناساً طوال القامات ، سيما بني عَناقَ ، فصرنا في عيوننا كالجراد ، وكذلك كنا في عيونهم . فعند ذلك ضجّ قوم موسى ورفعوا أصواتهم وبكوا وقالوا : ليتنا متنا في أرض مصر أو في هذه البرية ، ولا تكون نساؤنا وأطفالنا غنيمة للجبابرة ، وخير لنا أن نرجع إلى مصر . وقالوا : لنُقِمْ لنا رئيساً ونرجع إلى مصر . فلما شاهد موسى ذلك منهم وقع هو وأخوه هارون على وجوههما أمام الإسرائيليين ، ومزّق ، من النقباء ، يوشع بن نون وكالب ثيابهما . وكلّما بني إسرائيل قائلين : إن الأرض التي مررنا فيها جيدة ، وإذا كان ربنا راضياً عنا فإنه يدخلنا إياها ، فلا تتمردوا ولا تخافوا أهلها فسيكونون طعمة لنا ، إذ الرب معنا . فلما سمع بنو إسرائيل كلام يوشع وكالب قالوا : لِيُرْجَمَا بالحجارة ، وكاد حينئذٍ أن يحيق ببني إسرائيل العذاب الإلهيّ ، لولا تضرع موسى إلى ربّه بأن يعفو عنهم ، كيلا يكونوا أحدوثة عند أعدائهم المصريين . فعفا تعالى عنهم ، وأعلم موسى ؛ أنّ قومه لن يروا الأرض التي أقسم عليها لآبائهم ، وأنهم يموتون جميعاً في التيه ، إلاّ كالباً . فإنه لحسن انقياده سيدخل الأرض ، وكذلك يوشع ؛ وأعلمه تعالى أيضاً بأن أطفال قومه الذين سيهلكون في التيه يكونون رعاة فيه أربعين سنة بعدد الأيام التي تجسس النقباء فيها أرض الكنعانيين . كل يوم وزره سنة ليعرفوا انتقامه ، عزّ سلطانه . ثم هلك النقباء العشرة ، الذين شَنّعوا لدى قومهم تلك الأرض ، بضربة عجلت لهم . ثم همّ قوم موسى بالصعود إلى الكنعانيين لما أخبرهم موسى بما أعلمه تعالى . فنهاهم موسى وقال لهم : لا فوز لكم الآن بالنصر الربانيّ ، وإن فعلتم فإن العدوّ يهزمكم وتسقطون تحت سيفه ، فتجبّروا وصعدوا إلى رأس الجبل ، فنزل العمالقة والكنعانيون عليهم فضربوهم وحطّموهم ، ثم بعد انقضاء الأربعين سنة فتحت الأرض المقدسة على يد يوشع ، كما شرح في ( سفره ) ، والله أعلم . تنبيهات الأول : قوله تعالى : { أَرْبَعِينَ سَنَةً } ظرف متعلق بـ ( يتيهون ) . واحتمال كونه ظرفا لـ ( محرمة ) كما ذكره غير واحد - لا يصح إلا بتكلف ؛ لما شرحناه من سياق القصة . الثاني : قال الحاكم : دلّ قوله تعالى : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ } على أنّ من لحقه عذاب الله لا يجوز أن يحزن عليه لأن ذلك حكمه ، بل يحمد الله تعالى إذا أهلك عدوّا من أعدائه . الثالث : قال ابن كثير : ذكر كثير من المفسرين ههنا أخباراً من وضع بني إسرائيل ، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين ، وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه السلام . وأن طوله ثلاثة آلاف ذراع ، وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعاً وثلث ذراع ، تحرير الحساب ، وهذا شيء يستحيى من ذكره ، ثم هو مخالف لما ثبت في ( الصحيحين ) : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً ، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن " ثم ذكروا أنّ هذا الرجل كان كافراً ، وأنه كان ولد زِنْية ، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح ، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته . وهذا كذب وافتراء ، إن الله تعالى ذكر أن نوحاً دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ، وقال تعالى : { فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ ٱلْبَاقِينَ } [ الشعراء : 119 - 120 ] ، وقال تعالى : { لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } [ هود : 43 ] ؛ وإذا كان ابنُ نوح ، الكافرُ ، غرق ، فكيف يبق عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية ؟ هذا لا يسوغ في عقلٍ ولا شرعٍ ، ثم في وجود رجلٍ يقال له عوج بن عنق ، نظر . الله أعلم . الرابع : قال ابن كثير : تضمنت هذه القصة تقريع اليهود ، وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله ، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجادلتهم ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصَفيّه من خلقه في ذلك الزمان ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم . هذا ، مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوّهم ، فرعون , من العذاب ، والنكال والغرق له ولجنوده في اليمّ وهم ينظرون , لتقرَّ به أعينهم ( وما بالعهد من قدم ) ، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم , وظهرت قبائح صنيعهم للخاصّ والعام . وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل . وقال - رحمه الله - قبل ذلك : وما أحسن ما أجاب به الصحابة - رضي الله عنهم - يوم بدرٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال النفير الذين جاءوا لمنع العير الذي كان مع أبي سفيان ، فلما فات اقتناص العير ، واقترب منهم النفير ، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة والبيض واليلب ، فتكلم أبو بكر - رضي الله عنه - فأحسن ، ثم تكلم ، من الصحابة ، من المهاجرين . ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أشيروا عليّ أيها المسلمون " ، وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار ؛ لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذٍ . فقال سعد بن معاذ : كأنك تعرض بنا يا رسول الله ؟ فوالذي بعثك بالحقّ ! لو استعرضت بنا هذا البحر ، فخضتَه ، لخضناه معك ، ما تخلّف منّا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ؛ إنّا لصبُرُ في الحرب ، صُدُق في اللقاء . لعل الله أنْ يُرِيَك منّا ما تقرّ به عينك ، فَسِرْ بنا على بركة الله . فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشطه لذلك . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : لقد شهدت من المقداد مشهداً ؛ لأَن أكون أنا صاحبه ، أحبّ إليّ مما عدل به ؛ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال : والله يا رسول الله ، لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، ولكنا نقاتل عن يمينك ، وعن يسارك ، ومن بين يديك ، ومن خلفك . فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك . وسرّه ذلك . وهكذا رواه البخاريّ في ( المغازي ) . الخامس : استنبط العمرانيون من هذه الآية أنّ من عوائق الملك حصول المذلّة للقبيل ، والانقياد لسواهم . قال الحكيم ابن خلدون في ( مقدمة العبر ) في الفصل 19 تحت العنوان المذكور : إن المذلة والانقياد كاسران لسَوْرة العصبية وشدّتها ، فإنّ انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها ، فما رئموا ( ألفوا ) للمذلّة حتى عجزوا عن المدافعة ، من عجز عن المدافعة ، فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة والمطالبة . واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام ، وأخبرهم أنّ الله قد كتب لهم ملكها ، كيف عجزوا عن ذلك ، قالوا : { إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا } [ المائدة : 22 ] ، أي : يخرجهم الله منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا ، وتكون من معجزاتك يا موسى ، ولما عزم عليهم لجوا وارتكبوا العصيان وقالوا له : { فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، وما ذلك إلا لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة ، كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها ؛ وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد ، وما رئموا من الذلّ للقبط أحقاباً حتى ذهبت العصبية منهم جملةً . مع أنهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان بما أخبرهم به موسى ، من أن الشام لهم ، وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم ، بحكم من الله قدّره لهم . فأقصروا عن ذلك وعجزوا ، تعويلاً على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة ، لما حصل لهم من خلق المذلة . وطعنوا فيما أخبرهم به نبيّهم من ذلك وما أمرهم به . فعاقبهم الله بالتيه . وهو أنّهم تاهوا في قَفْرٍ من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة ، لم يأووا فيها لعمران ، ولا نزلوا مصراً ، ولا خالطوا بشراً ، كما قصّه القرآن ، لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم ، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه . ويظهر من مساق الآية ومفهومها : أن حكمة ذلك التيه مقصودة ، وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلّقوا به ، وأفسدوا من عصبيتهم ، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر ، ولا يُسَام بالمذلة . فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ؛ يظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقلّ ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر ، سبحان الحكيم العليم . وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية ، وأنهّا هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة . وأنّ من فقدها عجز عن جميع ذلك كلّه . ا . هـ . ثم بين تعالى وخيمَ عاقبة البغي والحسد ، في جزاء بني آدم لصلبه ، تعريضاً باليهود ، وأنهم إن أصروا على بغيهم وحسدهم فسيرجعون بالصفة الخاسرة في الدارين ، فقال تعالى : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ … } .