Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 34-34)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } أي : من المحاربين { مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وفي هذه الآية مسائل : الأولى : روى ابن جرير وأبو داود والنسائيّ عن ابن عباس ؛ أنها نزلت في المشركين . وروى ابن جرير عن أُبيّ ، أنها نزلت في قومٍ من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم . وظاهرٌ أنّها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات . كما روى الشيخان وأهل السنن وابن مردويه وهذا لفظه : عن أنس بن مالك ؛ " أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها ، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ففعلوا فصحّوا ، فارتدّوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي وساقوا الإبل . فأرسلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فجِيء بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسَمَرَ أعينهم وألقاهم في الحرّة . قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً ، حتى ماتوا . ونزلت : { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [ المائدة : 33 ] … الآية " ولمسلم عن أنس قال : " إنما سمل النبيّ صلى الله عليه وسلم أَعين أولئك لأنهم سملوا أَعين الرعاء " وعند البخاريّ : قال أبو قلابة : فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله . الثانية : زعم بعضهم أن الآية نزلت نسخاً لعقوبة العرنيين المتقدمة . قال ابن جرير : حدثنا عليّ بن سهل ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : ذاكرت الليث بن سعد : ما كان من سَمْل النبيّ صلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا . فقال : سمعت محمد ابن عجلان يقول : أُنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك ، وعلَّمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي ولم يسمل بعدهم غيرهم . قال : وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو - يعني الأوزاعي - فأنكر أن تكون نزلت معاتبة ، وقال : بلى . كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم مِمَّن حارب بعدهم ، فرفع عنهم السمل . وروى ابن جرير أيضاً في القصة عن سعيد بن جبير قال : " فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلُ ولا بعدُ ، قال : ونهى عن المُثْلة ، قال : " لا تُمَثِّلُوا بِشْيءٍ " والنهي عن المُثْلة مرويّ في الصحيح والسنن . الثالثة : احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء ، في ذهابهم إلى أنّ المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء ؛ لقوله : { وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً } [ المائدة : 33 ] . وهذا مذهب مالك والأوزاعيّ والليث بن سعيد والشافعيّ وأحمد . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال ، فقد قيل : إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المنتهب ؛ لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس . وقال الأكثرون : إن حكم مَن في البنيان والصحراء واحد ، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء ، لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة ، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم ، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة ، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله ، والمسافر لا يكون معه غالباً إلا بعض ماله ؛ وهذا هو الصواب . حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه : إن هذه محاربة ، ودمه إلى السلطان لا إلى وليّ المقتول . ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل . وإنما كان ذلك محاربة ؛ لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة ، كلاهما لا يمكن الاحتراز منه ، بل قد يكون ضرر هذا أشدّ ، لأنه لا يدري به . وقيل : إنّ المحارب هو المجاهر بالقتال ، وإنّ هذا المغتال يكون أمره إلى وليّ أمر الدم . والأول أشبه بأصول الشريعة . الرابعة : ظاهر الآية : أن عقوبة المحاربين المفسدين أحد هذه الأنواع . فيفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحاً . قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، في الآية : من شهر السلاح في قبة الإسلام ، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه ، فإمام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله . وكذا قال سعيد بن المسّيب ومجاهد وعطاء والحسن البصريّ وإبراهيم النخعيّ والضحاك . كما رواه ابن جرير ، وحكي مثله عن أنس . قال ابن كثير : ومستند هذا القول ظاهر . وللتخيير نظائر من القرآن ، كقوله في جزاء الصيد : { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً } [ المائدة : 95 ] ، وقوله في كفارة الترفه : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [ البقرة : 196 ] ، وقوله في كفارة اليمين : { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [ المائدة : 89 ] . هذه كلها على التخيير ، فكذلك فلتكن هذه الآية . وقال الجمهور : هذه الآية منزلة على أحوال . أخرج الشافعيّ عن إبراهيم بن أبي يحيى ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس ، في قطّاع الطريق : إذا قَتَلُوا وأخذوا المال قُتلوا وصُلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا ، قُطِّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نُفوا من الأرض . وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان ، عن حجاج ، عن عطية عن ابن عباس بنحوه . وعن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعيّ والحسن وقتادة والسدّيّ وعطاء الخراسانيّ نحو ذلك . وهكذا قال غير واحدٍ من السلف والأئمة . انتهى . وفي ( النهاية ) من فقه الزيدية : يرجع في المحارب إلى رأي الإمام ، فإن كان له رأيٌ قتله أو صلبه - لأن القطع لا يدفع المضرة - وإن كان لا رأي له لكنه ذو قوة قطعه من خلاف ، وإن عدم القوة والرأي ضُرب ونُفي وهذا معنى التخيير بين هذه الأمور ، أنه يرجع إلى اجتهاد الإمام ، على ما ذكر . انتهى . ورأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية فصلاً مهماً في المحاربين في كتابه ( السياسة الشرعية ) وقد مثلّهم بقطاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرةً ، من الأعراب أو التركمان أو الأكراد أو الفلاحين ، أو فَسَقة الجند أو مَرَد الحاضرة أو غيرهم . ثم ساق رواية الشافعيّ المتقدمة عن ابن عباس وقال : هذا قول كثير من أهل العلم - كالشافعيّ وأحمد رضي الله عنهما - وهو قريب من قول أبي حنيفة - رحمه الله . ومنهم من قال : للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة فيهم وإنْ كان لم يَقْتل مثل أن يكون رئيساً مطاعاً فيهم ، ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإنْ كان لم يأخذ المال . مثل أن يكون ذا جلدٍ وقوةٍ في أخذ المال ، كما أن منهم من يرى أنه إذا أخذوا المال قتِّلوا وقطِّعوا وصلِّبوا . والأول قول الأكثر ، فمن كان من المحاربين قد قَتَل فإنه يقتله الإمام حداً لا يجوز العفو عنه بحال ، بإجماع العلماء ، ذكره ابن المنذر . ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول . بخلاف ما لو قتل رجل رجلاً لعداوة بينهما أو لخصومة ، أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة . فإن هذا دمه لأولياء المقتول ، إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا عَفَوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية لأن قتله لغرض خاص . وأما المحاربون فإنما يُقتلون لأخذ أموال الناس ، فضررهم عام بمنزلة السُّرَّاق ، فكان قتلهم حدّ الله . وهذا متفق عليه بين الفقهاء ، حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل ؛ مثل أن يكون القاتل حراً والمقتول عبداً أو القاتل مسلماً والمقتول ذمّيّاً أو مستأمناً . فقد اختلف الفقهاء : هل يقتل في المحاربة ؟ والأقوى أنه يقتل للفساد العام حدّاً ، كما يقطع إذا أخذ أموالهم ، وكما يحبس بحقوقهم ، وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة ، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردءٌ له ، فقد قيل : إنه يقتل المباشر فقط . والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة ، والردء والمباشر سواء . وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين ؛ فإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل ربيئة المحاربين . والربيئة : هو الناظور الذي يجلس على مكانٍ عالٍ ينظر منه لهم من يجيء . ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته . والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض ، حتى صاروا ممتنعين فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين . فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يدٌ على من سواهم ، وَيَرُدّ مُتَسَرِّيهم على قاعدتهم " يعني : أن جيش المسلمين إذا تسرّت منه سرية فغنمت مالاً ، فإن الجيش يشاركها فيما غنمت ؛ لأنها بظهره وقُوّته تمكنت ، لكم تُنْفَلُ عنه نفلاً ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان ينفل السرية ، إذا كانوا في بدايتهم ، الربع بعد الخمس ، فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرّت سرية ، نفلهم الثلث بعد الخمس . وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية ؛ لأنها في مصلحة الجيش . كما قسم النبيّ صلى الله عليه وسلم لطلحة والزبير يوم بدر ، لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش . فأعوانُ الطائفة المتمنعة وأنصارها منها ، فيما لهم وعليهم . وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه ، مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية . كقيس ويمن ونحوهما ، هما ظالمتان . كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " . قيل : يا رسول الله ، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : " إنه أراد قتل صاحبه " أخرجاه في ( الصحيحين ) . وتضمن كل طائفة ما أتلفته الأخرى من نفسٍ ومال وإن لم يعرف عين القاتل ؛ لأن الطائفة الواحدة المتمنع بعضها ببعض كالشخص الواحد ، وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا - كما قد يفعله الأعراب كثيراً - فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء ، كأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم . وهذا معنى قوله تعالى : { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ } [ المائدة : 33 ] ؛ تقطع اليد التي يبطش بها ، والرجل التي يمشي عليها ، وتحسم يده ورجله بالزيت المغليّ ونحوه ، لينحسم الدم فلا يخرج فيُفضي إلى تلفه ، وكذا تحسم يد السارق بالزيت . وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل ؛ فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم ، إذا رأوا دائماً مَنْ هو بينهم مقطوع اليد والرجل ، ذكروا بذلك جرمه ، فارتدعوا . بخلاف القتل ، فإنه قد يُنسَي . وقد يؤثر في بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف ، فيكون هذا أشد تنكيلاً له ولأمثاله . وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفساً ولم يأخذوا مالاً ، ثم أغمدوه ، أو هربوا ، وتركوا الحراب ، فإنهم يُنْفَوْنَ . فقيل : ( نفيهم ) : تشريدهم ، فلا يتركون يأوون في بلد ، وقيل : هو حبسهم . وقيل : هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو ذلك . والقتل المشروع : هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه ، لأن ذلك أَوْحَى ( أي : أسرع ) أنواع القتل . وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب الإحسان على كلّ شيء . فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة . وإذا ذبحتم فأحسنوا الذَّبْحَ . وليُحِدّ أحدكم شفرته ، ولْيُرحْ ذبيحته " ، رواه مسلم ، وقال : " إنّ أعف الناس قِتْلَةً أهل الإيمان " وأما الصلب المذكور : فهو رفعهم على مكان عالٍ ليراهم الناس ويشتهر أمرهم ، وهو بعد القتل ، عند جمهور العلماء . ومنهم من قال : يُصَلَّبُون ثم يقتلون وهم مصلوبون . وقد جوّز بعض الفقهاء قتلهم بغير السيف حتى قال : يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل . الخامسة : تتمة الآية : أعني قوله تعالى : { ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } تدل على أن المحاربين يعاقبون في الدنيا والآخرة مطلقاً ، ولا يكون الحدّ المذكور طهرة لهم ، ولو كانوا مسلمين . قال السيوطي في ( الإكليل ) : قال ابن الفرس : ظاهره أن عقوبة المحارب لا تكون كفارة له ، كما تكون في سائر الحدود . وقال العارف الشعرانيّ في ( ميزانه ) : سمعت شيخنا ، شيخ الإسلام زكريا رحمه الله يقول : لم يرد لنا أن أحداً يؤخذ بذنبه في الدنيا والآخرة معاً ، إلا المحاربين ، لقوله تعالى فيهم : { ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ … } الآية . وقال ابن كثير : هذا يرجح رواية نزولها في المشركين . فأما أهل الإسلام ففي ( صحيح مسلم ) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما أخذ على النساء ، ألا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَه بعضنا بعضاً . فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى ، ومن أتى منكم حداً فأقيم عليه فهو كفارته ، ومن ستره الله فأمره إلى الله . إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له . السادسة : دلّ قوله تعالى : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } على أن توبة المحاربين ، قبل الظفر بهم ، تسقط عنهم حدّ المحاربين المذكور في الآية . سواء كانوا مشركين أو مسلمين . وهو مرويّ عن عليّ وأبي هريرة والسدّيّ وغيره . وقد قال الهادي : إذا تاب المحارب قبل الظفر به ، سقط عنه كل تبعة من قتل أو دَين ، لعموم الآية . قال ابن كثير : أما على قول من قال : إنها في أهل الشرك ، فظاهر . أي : فإنهم إذا آمنوا قبل القدرة عليهم ، سقط عنهم جميع الحدود المذكورة . فلا يطالبون بشيء مما أصابوا من مالٍ أو دمٍ . قال أبو إسحاق : جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم ، ليكون ذلك داعياً لهم إلى الدخول في الإسلام . وأما المحاربون المسلمون ، فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم تحتم القتل والصلب وقطع الرجل . وهل يسقط قطع اليد . فيه قولان للعلماء . وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع ، وعليه عمل الصحابة . كما روى ابن أبي حاتم عم الشعبيّ قال : كان حارثة بن بدر التميميّ من أهل البصرة - وكان قد أفسد في الأرض وحارب - فكلم رجالاً من قريش منهم : الحسن بن عليّ وابن عباس وعبد الله بن جعفر . فكلّموا عليّاً فيه فلم يؤمنه . فأتى سعيد بن قيس الهمدانيّ ، فخلفه في داره ثم أتي عليّاً فقال : يا أمير المؤمنين ، أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً - فقرأ حتى بلغ : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } . فقال : اكتب لنا أماناً . قال سعيد بن قيس : فإنه حارثة بن بدر . وكذا رواه ابن جرير من غير وجهٍ عن مجالد عن الشعبيّ ، فقال حارثة بن بدر : @ ألا أبلغا همدان إما لقيتَها على النأي لا يَسْلَمْ عدوّ يَعيبها لَعَمْرُ أبيها إن همدان تَتقي الـ إلهَ ويقضي بالكتاب خطيبُها @@ وروى ابن جرير - من طريق سفيان الثوريّ عن السدّيّ ، ومن طريق أشعث - كلاهما . عن عامر الشعبيّ قال : جاء رجل من مراد إلى أبي موسى - وهو على الكوفة في إمرة عثمان رضي الله عنه - بعد ما صلى المكتوبة فقال : يا أبا موسى ، هذا مقام العائذ بك . أنا فلان ابن فلان المراديّ ، كنت حاربت الله ورسوله ، وسعيتُ في الأرض فساداً ، وإني تبت من قبل أن تقدروا عليّ . فقام أبو موسى فقال : إن هذا فلان ابن فلان ، وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً ، وإنه تاب من قبل أن يُقدْر عليه ، فمن لقيه فلا يَعْرِض له إلا بخير ، ( فإن يك صادقاً فسبيل من صدق ، وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه ) . فأقام الرجل ما شاء الله ، ثم إنه خرج فأدركه الله بذنوبه فقتله . ثم قال ابن جرير : حدثني عليّ ، حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : قال الليث . وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدنيّ ، وهو الآمر عندنا ، أنّ علياً الأسدي حارب وأخاف السبيل ، وأصاب الدم والمال ، فطلبه الأئمة والعامة ، فامتنع ولم يُقْدَرْ عليه حتى جاء تائباً . وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية : { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [ الزمر : 53 ] . فوقف عليه فقال : يا عبد الله ! أعد قراءتها . فأعادها عليه . فغمد سيفه ثم جاء تائباً حتى قدم المدينة من السَّحرَ ، فاغتسل ، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلّى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في غِمار أصحابه . فلما أسفر عرفه الناس فقاموا إليه . فقال : لا سبيل لكم عليّ ، جئت تائباً من قبل أن تقدروا عليّ . فقال أبو هريرة : صدق . وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم - في إمرته على المدينة في زمن معاوية - فقال : هذا عليّ جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه ولا قتل . قال ، فترك من ذلك كله . قال : وخرج عليّ تائباً مجاهداً في سبيل الله في البحر . فلقوا الروم ، فقرَّبوا سفينته إلى سفينة من سفنهم ، فاقتحم على الروم في سفينتهم ، فَهُزِموا منه إلى سفينتهم الأخرى ، فمالت بهم وبه . فغرقوا جميعاً . هذا ، وفي تفسير بعض الزيدية - نقلاً عن زيد والنفس الزكية والمؤيد بالله وأبي حنيفة ومالك والشافعيّ - أنَّ توبة المحارب تُسقط الحدود لله ، دون حقوق بني آدم من قتل أو مال ، لقوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } [ البقرة : 178 ] ، وقوله : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } [ المائدة : 45 ] ، وقوله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } [ الإسراء : 33 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " على اليد ما أخذت حتى ترد " ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " قال في ( شرح الإبانة ) : وروى زيد بن عليّ بإسناده إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ؛ أنَّ قاطع الطريق ، إذا تابَ قبل أن يؤخذ وظفر به الإمام ، ضمن المال واقتص منه . ثم قال : أما الكافر فلا خلاف أن توبته تسقط عنه جميع الحدود . انتهى . وأخرج أبو داود والنسائيّ عن ابن عباس قال : نزلت في المشركين ، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل . وليست تحرز هذه الآيةُ الرجلَ المسلم من الحدّ ، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله .