Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 53-53)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } قال الزمخشريّ : قرئ بالنصب عطفاً على ( أَنْ يَأْتِيِ ) ، وبالرفع على أنه كلام مبتدأ . أي : ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت . وقرئ ( يقول ) بغير ( واو ) وهي مصاحف مكة والمدينة والشام كذلك . على أن جواب قائل يقول ، فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ ؟ فقيل : يقولون الذين آمنوا : أهؤلاء الذين أقسموا ؟ ( فإن قلت ) : لمن يقولون هذا القول ؟ ( قلت ) : إمّا أن يقوله بعضهم لبعض تعجّباً من حالهم ، واغتباطاً بما منّ الله عليهم من التوفيق في الإخلاص { أَهُـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي : حلفوا لكم بأغلاظ الأيمان { إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } أي : إنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار . وإمّا أن يقولوه لليهود ، لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة . كما حكى الله عنهم : { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } [ الحشر : 11 ] . أي : فقد تباعدوا عنكم . فيظهر أنهم لم يكونوا مع المؤمنين ولا مع اليهود { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } أي : في الدنيا ، إذْ ظهر نفاقهم عند الكل . وفي الآخرة ، إذْ لم يبقَ لهم ثواب . قال الزمخشريّ : هذه الجملة من قول المؤمنين . أي : بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أَعْيَن الناس ، وفيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم ! أو من قول الله عز وجلّ ، شهادة لهم بحبوط الأعمال ، وتعجيباً من سوء حالهم … انتهى . وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطبين ، ما لا يخفى . تنبيهات الأول : في سبب نزول هذه الآيات الكريمات . روي عن السدّي ، أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أُحُدٍ : أمَّا أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهوديّ فأواليه وأتهوّد معه ، لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث . وقال الآخر : وأما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصرانيّ بالشام فأواليه وأتنصّر معه . فأنزل الله تعالى : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ … } [ المائدة : 51 ] الآيات . وقال عكرمة : نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة . فسألوه : ماذا هو صانع بنا ؟ فأشار بيده إلى حلقه ، أي : إنه الذبح . رواه ابن جرير . وقيل : نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول . روى ابن جرير عن عطية بن سعد قال : " جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنّ لي موالي من يهود كثير عددهم . وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولّى الله ورسوله . فقال عبد الله بن أُبيّ : إني رجل أخاف الدوائر . لا أبرأ من ولاية موالِيَّ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدِ الله بن أُبيّ : " يا أبا الحباب ! ما بخلتَ به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه " . قال : قد قبلت ، فأنزل الله عز وجلّ : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُو … } [ المائدة : 51 ] " الآيتين . ثم روى ابن جرير عن الزهريّ قال : " لما انهزم أهل بدر ، قال المسلمون لأوليائهم من يهود : آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيومٍ مثل يوم بدر … فقال مالك بن صيف : غرّكم إن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال ! أما لو أَمْرَرْنَا العزيمة أن نستجمع عليكم ، لم يكن لكم يدٌ أن تقاتلونا . فقال عبادة بن الصامت : يا رسول الله ، إنّ أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم ، كثيراً سلاحهم ، شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم ، ولا مولَى لي إلا اللهُ ورسوله … فقال عبد الله بن أبيّ : لكني لا أبرأ من ولاية يهود . إني رجل لا بدَّ لي منهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا الحباب ، أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت , فهو لك دونه " . فقال إذاً أقبل ! قال : فأنزل الله : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ … } [ المائدة : 51 ] - إلى قوله - : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } ] المائدة : 67 ] " . وقال محمد بن إسحاق : " فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه . فقام إليه عبد الله بن أبيّ بن سلول حين أمكنه الله منهم , فقال : يا محمد ، أحسن في مواليّ - وكانوا حلفاء الخزرج - قال : فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : يا محمد ، أحسن في مواليّ . قال : فأعرض عنه . فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسلني " وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظُلَلاً , ثم قال : " ويحك ! أرسلني " قال : لا , والله ! لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ . أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع , قد منعوني من الأحمر والأسود , تحصدهم في غداة واحدة ؟ إني امرؤ أخشى الدوائر . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هُمْ لك " " . قال محمد بن إسحاق : فحدّثني أبي , إسحاق بن يسار , عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم , تشبث بأمرهم عبد الله بن أبيّ , وقام دونهم . ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان أحد بني عوف من الخزرج , لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبيّ - فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرّأ إلى الله عز وجل , وإلى رسوله من حلفهم وقال : يا رسول الله ، أتولى الله ورسوله والمؤمنين , وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم . … ففيه وفي عبد الله بن أُبيّ نزلت الآيات : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ } [ المائدة : 51 ] - إلى قوله - { فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [ المائدة : 56 ] . وروى الإمام أحمد عن أسامة بن زيد قال : " دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ نعوده , فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : " قد كنت أنهاك عن حب يهود " . فقال عبد الله : فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات " وكذا رواه أبو داود . الثاني : قال بعض مفسري الزيدية : ثمرات الآية أحكام : الأول : أنه لا يجوز موالاة اليهود ولا النصارى . قال الحاكم : والمراد موالاتهم في الدين . وجعل الزمخشريّ الموالاة في النصرة والمصافاة . وبيّن وجوب المجانبة للمخالف في الدين , كما تقدم . والبعد والمجانبة استحباب , إذ قد جازت المخالطة في مواضع الإجماع , وذلك حيث لا يوهم محبتهم ولا بأنهم على حق . الحكم الثاني : أن للإمام أن يسقط الحدّ إذا خشي , أو يؤخره . وقد ذكر هذا , الأمير يحيى والراضي بالله والحاكم . وهذا مأخوذ من سبب النزول , وترك النبيّ صلى الله عليه وسلم بني قينقاع لعبد الله بن أبيّ . الحكم الثالث : صحة الموالاة منهم لبعضهم بعضاً . وقد قال عليّ بن موسى القمّيّ : الآية تدل على أنهم ملة واحدة ، فتصح المناكحة بينهم والموارثة ، والمذهب خلاف ذلك ، والدلالة على ما ذكر محتملة ، لأنها تحتمل أن المراد : بعضهم أولياء بعض في معاداة المسلمين ؛ أو يعني : بعض اليهود وليّاً لبعض اليهود . الحكم الرابع : أن من تولاهم فهو منهم . ولا خلاف في أنه صار عاصياً لله كما عصوه . ولكن أين تبلغ حد معصيته ؟ وقد اختلف في ذلك , فقيل : معنى قوله : { فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] أي : حكمه حكمهم في الكفر , وهذا حديث يقرّهم على دينهم ، فكأنه قد رضيه . وقيل : من تولاهم على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد أنه منهم في وجوب عداوته والبراءة منه . قال الحاكم : ودلالة الآية مجملة . فهي لا تدل على أنه كافر إلا أن يحمل على الموافقة في الدين . الحكم الخامس : ذكره الحاكم , أنه لا يجوز الاستعانة بهم . قلنا : ذكر الراضي بالله : أنه صلى الله عليه وسلم قد حالف اليهود على حرب قريش وغيرها إلى أن نقضوه يوم الأحزاب , وجدد صلى الله عليه وسلم الحِلْف بينه وبين خزاعة ، حتى كان ذلك سبب الفتح . وكانت خزاعة عَيْبَة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسلمهم وكافرهم . قال الراضي بالله : وهو ظاهر قول آبائنا عليهم السلام . وقد استعان عليّ عليه السلام بقتلة عثمان , واستعان صلى الله عليه وسلم بالمنافقين . قال الراضي بالله : ويجوز الاستعانة بالفسّاق على حرب المبطلين , فتكون هذه الاستعانة غير موالاة . التنبيه الثالث : في التفسير المتقدّم ما نصه : وفي الآية الكريمة زواجر عن موالاة اليهود والنصارى من وجوه : الأول : النهي بقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ } [ المائدة : 51 ] ، وسائر الكفار لاحقٌ بهم . الثاني : قوله تعالى : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ المائدة : 51 ] ، والمعنى : أن الموالاة من بعضهم لبعض لاتحادهم بالكفر , والمؤمنون أعلى منهم . الثالث : قوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] ، وهذا تغليظ وتشديد ومبالغة ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تراءى ناراهما " ، ومثل قوله عليه السلام : " لا تستضيئوا بنارِ المشركين " الرابع : ما أخبر الله به أنه لا يهديهم . الخامس : وصفهم بالظلم , والمراد : الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار . السادس : أنه تعالى أخبر أنّ الموالاة لهم من ديدن الذين في قلوبهم مرض , أي : شكّ ونفاق . السابع : ما أخبر الله تعالى به من علة الموالين , وأنّ ذلك خشية الدوائر ، لا أنّه بإذنٍ من الله ولا من رسوله . الثامن : قطع الله لِمَا زين لهم الشيطان من خشية رجوع دولة الكفر فقال تعالى : { فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ } [ المائدة : 52 ] ، و ( عسى ) في حق الله تعالى لواجب الحصول بالفتح لمكة أو لبلاد الشرك . التاسع : ما بشر الله تعالى به من إهانتهم بقوله : { أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } [ المائدة : 52 ] ، قيل : إذلال الشرك بالجزية ، وقيل : قتل قريظة وإجلاء النضير ، وقيل : أن يورث المسلمين أرضهم وديارهم . العاشر : ما ذكره الله تعالى من الأمر الذي يؤول إليه حالهم ، وأنهم يصبحون نادمين على ما أسرّوا في أنفسهم من غشّهم للمسلمين ونصحهم للكافرين ، وقيل : من نفاقهم ، وقيل : من معاقدتهم للكفار ، وذلك حين معاينتهم للعذاب ، وقيل : في الدنيا ، بما صاروا فيه من الذلة والصغار . الحادي العاشر : - ما ذكره الله تعالى من تعجب المؤمنين من فضيحة أعداء الله وخبثهم في إيمانهم بقوله تعالى : { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـۤؤُلاۤءِ … } . الآية . الثاني عشر : ما أخبر الله من حالهم بقوله تعالى : { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } ، قيل : خسروا حظهم من موالاتهم ، وقيل : أهلكوا أنفسهم ، وقيل : خسروا ثواب الله . انتهى .