Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 68-68)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ } أي : من الدين { حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } أي : تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل نبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم واتّباعه . قال بعض المحققين : معنى قوله تعالى : { حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } أي : تعملوا طبق الواجب بأحكامهما ، وتحيوا شرائعهما ، وتطيعوا أوامرهما ، وتنتهوا بنواهيهما . فإن الإقامة هي الإتيان بالعمل على أحسن أوجهه ، كإقامة الصلاة مثلا . أي فعلها على الوجه اللائق بها . ولا يدخل في ذلك القصص التي فيهما ولا العقائد ونحوها فإنها ليست عملية . والمراد أن يعملوا بما بقي عندهم من أحكام التوراة والإنجيل على علاته وعلى ما به من نقص وتحريف وزيادة ، فإن شرائع هذه الكتب وأوامرها ونواهيها هي أقل أقسامها تحريفاً ، وأكثر التحريف في القصص والأخبار والعقائد وما ماثلها ، وهي لا تدخل في الأمر بالإقامة . ولا شك أن أحكام التوراة والإنجيل وما فيهما من شرائع ومواعظ ونصائح ونحوها ، لا تزال فيهما أشياء كثيرة لا عيب فيها ، ونافعة للبشر ، وفيها هداية عظمى للناس ، فهي مما يدخل تحت قوله تعالى : { وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ } [ آل عمران : 3 - 4 ] ، فإذا أقام أهل الكتاب أحكامهما على علاتها كانوا لا شك على شيء يعتد به ويصح أن يسمى ديناً . وإذا لم يقيموهما وجروا على خلافهما ، كانوا مجردين من كل شيء يستحق أن يسمى ديناً ، وكانوا مشاغبين معاندين ، وبدينهم غير مؤمنين إيماناً كاملا . وهذا معنى صحيح ، وهو المتبادر من الآية . فأي شيء في هذا المعنى يدل على عدم تحريف التوراة والإنجيل وعلى وجودهما كاملين ، كما يدعي ذلك المكابرون من أهلهما ، وخصوصاً بعد قوله تعالى : { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } [ المائدة : 13 ] . ثم قال : ولك أن تقول : معنى قوله تعالى : { لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } . الحقيقييّن ، وذلك يستلزم البحث والتنقيب والجد والاجتهاد في نقد ما عندهم منهما نقداً عقلياً تاريخياً صحيحاً ، حتى يستخلصوا حقهما من باطلهما بقدر الإمكان ، ونتيجة ذلك العناء كلّه ، أن يكونوا على شيء من الدين الحقّ ، وهذا أمر لا شبهة فيه . ولو اتبعوا القرآن لأراحوا واستراحوا . ولكنهم - كما أخبر تعالى عنهم - لا يزيدهم القرآن إلا طغياناً وكفراً حسداً وعناداً فلا يؤمنون به . ولا يهتم جمهورهم بإصلاح دينهم من المفاسد وتنقيته من الشوائب . فلم يدركوا خير هذا ولا ذاك . فكأن الآية تريهم أنهم إذا لم يتبعوا القرآن يجب عليهم القيام بعبءٍ ثقيل جدّاً من البحث والتمحيص ، وبعد ذلك يكونون على شيءٍ من الحق لا عَلَى الحق كلّه ، ولو أقاموا التوراة والإنجيل الحقيقيين غاية الإقامة ، فما بالك إذا كان ذلك مستحيلاً لعدم وجودهما على حقيقتهما ؟ فهم ليسوا على شيء مطلقاً . ولا يمكن أن يكونوا عليه . فإن كتبهم قد صارت خلقةً بالية . لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه ، حينما رأى ورقةً من التوراة بيده : " ألم آتكم بها بيضاء نقية ؟ والله لو كان موسى حيّاً ما وسعه إلا اتّباعي " فإن قيل : وكيف يحثهم الله على العمل بأي شيء من دينهم ، ومنه ما جاء القرآن ناسخاً له ؟ قلت : لا شك عند كل عاقل أنه خير لأهل الكتاب أن يعملوا بشرائع دينهم الأصلية ، فإنهم حينئذٍ يتجنبون الكذب والتحريف والعناد والأذى والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل والزنى ، وغير ذلك مما يعمله الناس . فمراد القرآن على التفسير الأول للآية حثهم - إن أصروا على عدم الإيمان به - على العمل بدينهم على الأقل ليستريح النبيّ وأتباعه من أكثر شرورهم ورذائلهم . ولكن بعد العمل بدينهم لا يكونون على الدين الحق الكامل ؛ بل الذي يفهم من الآية أنهم يكونون على شيء من الدين ، وهو - ولا شك - خير من لا شيء . ولا يفهم أنهم يكونون على الحق كله وعلى الدين الكامل الذي لا غاية أعظم منه . ، فإن ذلك لا يكون إلا بالإسلام { أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ آل عمران : 83 ] . انتهى . ولا يخفى أنهم إذا أقاموا التوراة والإنجيل ، آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم . لما تتقاضى إقامتُهما الإيمانَ به . إذ كثر ما جاء فيهما من البشارات به والتنويه باسمه ودينه . فإقامتهما على وجوههما تستدعي الإسلام ألبتة ، بل هي هو ، والله الموفق … { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } أي : القرآن المجيد بالإيمان به . وفي التعبير بقوله تعالى : { لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ } من التحقير والتصغير ما لا غاية وراءه . كما تقول : هذا ليس بشيء ! تريد غاية تحقيره وتصغير شأنه . وفي أمثالهم : أقل من لا شيء . أي : لستم على دين يعتد به حتى يسمى شيئاً لفساده وبطلانه . ثم بيّن تعالى غلوّهم في العناد وعدم إفادة التبليغ فقال : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً } أي : تمادياً { وَكُفْراً } أي ثباتاً على الكفر { فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } أي : فإذا بالغت في تبليغ ما أنزل إليك ، فرأيت مزيد طغيانهم وكفرهم ، فلا تحزن عليهم لغاية خبلهم في ذواتهم ، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك ، وفي المؤمنين غنى عنهم .