Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 67-67)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ } نودي صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة تشريفاً له وإيذاناً بأنها من موجبات الإتيان بما أمر به من التبليغ { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } مما يفصّل مساوئ الكفار ، ومن قتالهم ، والدعوة إلى الإسلام ، غير مراقب في التبليغ أحداً ، ولا خائف أن ينالك مكروه { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } أي : ما تؤمر به من تبليغ الجميع ، ستراً لبعض مساوئهم { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي : شيئاً مما أرسلت به . لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض . فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعاً . كما أنّ من لم يؤمن ببعضها ، كان كمن لم يؤمن بكلّها . قال في ( الانتصاف ) : ولما كان عدم تبليغ الرسالة أمراً معلوماً عند الناس ، مستقرّاً في الأفهام أنه عظيم شنيع ، ينقم على مرتكبه ، بل عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع ، فضلاً عن كتمان الرسالة من الرسول - استغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء ، للصوقها بالجزاء في الأفهام . وإن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة ، فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد . وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عامّاً بقوله : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } ولم يقل : فإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة . حتى يكون اللفظ متغايراً ؛ وهذه المغايرة اللفظية - وإن كان المعنى واحداً - أحسنُ رونقاً وأظهرُ طلاوةً ، من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء . وهذا الفصل كاللباب من علم البيان . وقوله تعالى : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } عدِةٌ منه تعالى بحفظه من لحوق ضرر بروحه الشريفة ، باعث له على الجدّ فيما أمر به من التبليغ وعدم الاكتراث بعداوتهم وكيدهم { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } تعليل لعصمته ، أي : لا يهديهم طريق الإساءة إليك ، فما عذرك في مراقبتهم ؟ تنبيهات الأول : الإخفاء في أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد بلّغ البلاغ التام ، وقام به أتمّ القيام ، وثبت في الشدائد وهو مطلوب ، وصبر على البأساء والضرّاء ، وهو مكروب ومحروب ، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي ، ويهدّ الصياصي . وهو ، مع الضعف ، يصابر صبر المستعِلي ، ويثبت ثبات المستولِي . ثم انتصب لجهاد الأعداء ، وقد أحاطوا بجهاته ، وأحدقوا بجنباته ، وصار بإثخانه في الأعداء محذوراً ، وبالرعب منه منصوراً ، حتى أصبح سراج الدين وهّاجاً ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً . روى البخاريّ ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها ، قالت لمسروق : من حدثك أنّ محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب ، والله يقول : { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ … } الآية . وفي ( الصحيحين ) عنها أيضاً أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } [ الأحزاب : 37 ] . وروى البخاريّ وغيره عن أبي جحيفة قال : قلت لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ! إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن ، وما في هذه الصحيفة . قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وألا يقتل مسلم بكافر . وقال البخاريّ : قال الزهريّ : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم . قال ابن كثير : وقد شهدت له صلى الله عليه وسلم أمتهُ بإبلاغ الرسالة ، وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفاً . كما ثبت في ( صحيح مسلم ) عن جابر بن عبد الله : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : " أيها الناس ، إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت . فجعل يرفع رأسه ويرفع يده إلى السماء ، وينكبها إليهم ، ويقول : " اللهم ! هل بلغت ؟ " " . وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " " يا أيها الناس ، أيّ يوم هذا ؟ " . قالوا : يوم حرام . قال : " أي بلد هذا ؟ " قالوا : بلد حرام . قال : " فأيّ شهر هذا ؟ " قالوا : شهر حرام . قال : " فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا " . ثم أعادها مراراً . ثم رفع إصبعه إلى السماء فقال : " اللهم ! هل بلّغتُ ؟ " مراراً ( قال ابن عباس : والله ! إنها لوصية إلى ربه عز وجل ) ثم قال : " ألا فليبلغ الشاهدُ الغائب . لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض … ! " " وقد روى البخاريّ نحوه … الثاني : تضمن قوله تعالى : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } معجزة كبرى لرسوله صلى الله عليه وسلم . قال الإمام الماورديّ في كتابه ( أعلام النبوة ) في الباب الثامن في معجزاته . عصمته صلى الله عليه وسلم ما نصه : أظهر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من أعلام نبوته بَعْدَ ثبوتها بمعجز القرآن ، واستغنائه عما سواه من البرهان ، ما جعله زيادة استبصار يُحجُّ به من قلت فطنته ، ويذعن لها من ضعفت بصيرته ، ليكون إعجاز القرآن مدركاً بالخواطر الثاقبة تفكرا واستدلالا ، وإعجاز العيان معلوماً ببداية الحواس احتياطاً واستظهاراً ، فيكون البليد مقهوراً بوهمه وعيانه ، واللبيب محجوجا بفهمه وبيانه ؛ لأن لكل فريق من الناس طريقاً هي عليهم أقرب ، ولهم أجذب ، فكان ما جمع انقياد الفرق أوضح سبيلا ، وأعم دليلا . فمن معجزاته : عصمته من أعدائه وهم الجم الغفير ، والعدد الكثير ، وهم على أتم حنق عليه ، وأشد طلب لنفسه . وهو بينهم مسترسل قاهر ، ولهم مخالط ومكاثر ، ترمقه أبصارهم شزرا ، وترتد عنه أيديهم ذعرا ، وقد هاجر عنه أصحابه حذرا ، حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة . ثم خرج عنهم سليماً لم يُكْلَمْ في نفس ولا جسد . وما كان ذلك إلا بعصمة إلهية وعده الله تعالى بها فحققها حيث يقول : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } . فعصمه منهم . ثم قال الماورديّ رحمه الله تعالى : وإن قريشاً اجتمعت في دار الندوة . وكان فيهم النضر بن الحارث بن كنانة ، وكان زعيم القوم . وساعده عبد الله بن الزِّبَعْرَي وكان شاعر القوم . فحضهم على قتل محمد صلى الله عليه وسلم وقال لهم : الموت خير لكم من الحياة . فقال بعضهم : كيف نصنع ؟ فقال أبو جهل : هل محمد إلا رجل واحد ؟ وهل بنو هاشم إلا قبيلة من قبائل قريش ؟ فليس فيكم من يزهد في الحياة فيقتل محمداً ويريح قومه ؟ وأطرق مليا . فقالوا : من فعل هذا ساد . فقال أبو جهل : ما محمد بأقوى من رجل منا . وإني أقوم إليه فأشدخ رأسه بحجر . فإن قُتِلْتُ أرحت قومي ، وإن بقيت فذاك الذي أوثر . فخرجوا على ذلك . فلما اجتمعوا في الحطيم ، خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : قد جاء . فتقدم من الركن فقام يصلي . فنظروا إليه يطيل الركوع والسجود ، فقال أبو جهل : فإني أقوم فأريحكم منه ، فأخذ مهراساً عظيماً . ودنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد ولا يلتفت ولا يهابه ، وهو يراه . فلما دنا منه ارتعد وأرسل الحجر على رجله . فرجع وقد شدخت أصابعه وهو يرتعد ، وقد دوخت أوداجه . ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد ، فقال أبو جهل لأصحابه : خذوني إليكم . فالتزموه وقد غشي عليه ساعة . فلما أفاق قال له أصحابه : ما الذي أصابك ؟ قال : لما دنوت منه ، أقبل عليّ من رأسه فحل فاغرٌ فاه . فحمل عليّ أسنانه . فلم أتمالك . وإني أرى محمداً محجوباً . فقال له بعض أصحابه : يا أبا الحكم ، رغبت وأحببت الحياة ورجعت . قال : ما تغرّوني عن نفسي . قال النضر بن الحارث : فإن رجع غداً فأنا له . قالوا له : يا أبا سهم ، لئن فعلت هذا لتسودنّ . فلما كان من الغد اجتمعوا في الحطيم منتظرين رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما أشرف عليهم قاموا بأجمعهم فواثبوه . فأخذ حفنة من تراب وقال : شاهت الوجوه . وقال : حم لا ينصرون فتفرقوا عنه . وهذا دفع إلهيّ وثق به من الله تعالى . فصبر عليه حتى وقاه الله ، وكان من أقوى شاهد على صدقه . ( ومن أعلامه ) : أن معمر بن يزيد ، وكان أشجع قومه ، استغاثت به قريش وشَكَوْا إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانت بنو كنانة تصدر عن رأيه وتطيع أمره ، فلما شكوا إليه قال لهم : إني قادم إلى ثلاث وأريحكم منه . وعندي عشرون ألف مُدَجّج فلا أرى هذا الحيّ من بني هاشم يقدر على حربي . وإن سألوني الدية أعطيتهم عشر ديات ، ففي مالي سعة . وكان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر ، وقصته في العرب مشهورة بالشجاعة والبأس . فلبس ، يوم وعده قريشاً ، سلاحه وظاهر بين درعين . فوافقهم بالحطيم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر يصلي . وقد عرف ذلك فما التفت ولا تزعزع ولا قصر في الصلاة . فقيل له : هذا محمد ساجد . فأهوى إليه ، وقد سل سيفه وأقبل نحوه . فلما دنا منه رمى بسيفه وعاد . فلما صار إلى باب الصفا عثر في درعه فسقط فقام ، وقد أدمي وجهه بالحجارة ، يعدو كأشد العدو . حتى بلغ البطحاء ما يلتفت إلى خلف . فاجتمعوا وغسلوا عن وجهه الدم وقالوا : ماذا أصابك ؟ قال : ويحكم ! المغرور من غررتموه . قالوا : ما شأنك ؟ قال : ما رأيت كاليوم . دعوني ترجع إليّ نفسي . فتركوه ساعة وقالوا : ما أصابك ؟ يا أبا الليث ، قال : إني لما دنوت من محمد ، فأردت أن أهوي بسيفي إليه ، أهوى إليّ من عند رأسه شجاعان أقرعان ينفخان بالنيران ، وتلمع من أبصارهما . فعدوت . فما كنت لأعود في شيء من مساءة محمد . ومن أعلامه : أن كلدة بن أسد ، أبا الأشد ، وكان من القوة بمكان ، خاطر قريشاً يوماً في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأعظموا له الخطر إن هو كفاهم . فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق يريد المسجد ما بين دار عقيل وعقال . فجاء كلدة ومعه المزراق . فرجع المزراق في صدره . فرجع فزعاً . فقالت له قريش : مالك ؟ يا أبا الأشد ، فقال : ويحكم ! ما ترون الفحل خلفي ؟ قالوا : ما نرى شيئاً . قال : ويحكم ! فإني أراه . فلم يزل يعدوا حتى بلغ الطائف . فاستهزأت به ثقيف ، فقال : أنا أعذركم ، لو رأيتم ما رأيت لهلكتم . ومن أعلامه : أن أبا لهب خرج يوما ، وقد اجتمعت قريش فقالوا له : يا أبا عتبة ، إنك سيدنا وأنت أولى بمحمد منا . وإن أبا طالب هو الحائل بيننا وبينه . ولو قتلته لم ينكر أبو طالب ولا حمزة منك شيئاً . وأنت بريء من دمه فنؤدي نحن الدية وتسود قومك . فقال : فإني أكفيكم ! ففرحوا بذلك ومدحته خطباؤهم . فلما كان في تلك الليلة وكان مشرفاً عليه ، نزل أبو لهب ، وهو يصلي . وتسلقت امرأته أم جميل الحائط ، حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ساجد . فصاح به أبو لهب فلم يلتفت إليه ، وهما كانا لا ينقلان قدماً ولا يقدران على شيء حتى تفجر الصبح . وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له أبو لهب : يا محمد ! أطلق عنا . فقال : " ما كنت لأطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني " قالا : قد فعلنا . فدعا ربه فرجعا . ومن أعلامه : أن قريشاً اجتمعوا في الحطيم . فخطبهم عتبة بن ربيعة فقال : إن هذا ابن عبد المطلب قد نغص علينا عيشنا وفرّق جماعتنا وبدّد شملنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلل آباءنا . وكان في القوم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام وشيبة بن ربيعة والنضر بن الحارث ومنبه ونبيه ابنا الحجاج ، وأمية وأبيّ ابنا خلف ، في جماعة من صناديد قريش . فقالوا له : قل ما شئت فإنا نطيعك . قال : سأقوم فأكلمه . فإن هو رجع عن كلامه وعما يدعوا إليه . وإلا رأينا فيه رأيَنا . فقالوا له : شأنك يا أبا عبد شمس ، فقام وتقدم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس وحده . فقال : أنعم صباحاً يا محمد ! قال : " يا عبد شمس ، إن الله قد أبدلنا بهذا ، السلام ، تحية أهل الجنة " قال : يا ابن أخي ، إني قد جئتك من عند صناديد قريش لأعرض عليك أمورهم . إن أنت قبلتها فلك الحظ فيها ولنا فيها الفسحة ! ثم قال : يا ابن عبد المطلب ، أنا زعيم قريش فيما قالت . قال : " قل " . قال يا ابن عبد المطلب ، إنك دعوت العرب إلى أمر ما يعرفونه فاقبل مني ما أقول لك . قال : " قل " . قال : إن كان ما تدعوا إليه تطلب به ملكا فإنا نملكك علينا من غير تعب ونتوجك ، فارجع عن ذلك . فسكت . ثم قال له : وإن كان ما تدعوا إليه أمراً تريد به امرأة حسناء فنحن نزوجك . فقال : " لا قوة إلا بالله ! " ثم قال له : وإن كان ما تتكلم به تريد مالا أعطيناك من الأموال حتى تكون أغنى رجل في قريش . فإن ذلك أهون علينا من تشتت كلمتنا وتفريق جماعتنا . وإن كان ما تدعوا إليه جنوناً داويناك كما تداوي قيسُ بني ثعلبة مجنونَهم . فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم . فقال : يا محمد … ، ما تقول ؟ وبم أرجع إلى قريش ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : { حـمۤ * تَنزِيلٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } - حتى بلغ إلى قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [ فصلت : 1 - 13 ] . قال عتبة : فلما تكلم بهذا الكلام ، فكأن الكعبة مالت حتى خفت أن تمس رأسي من أعجازها . وقام فزعاً يجر رداءه . فرجع إلى قريش وهو ينتفض انتفاض العصفور . وقام النبيّ صلى الله عليه وسلم يصلي . فقالت قريش : لقد ذهبت من عندنا نشيطاً ورجعت فزعاً مرعوباً فما وراءك ؟ قال : ويحكم ! دعوني . إنه كلمني بكلام لا أدري منه شيئاً ، ولقد رعدت عليّ الرعدة حتى خفت على نفسي ، وقلت : الصاعقة قد أخذتني . … فندموا على ذلك . ومن أعلامه : أنه لما أراد الهجرة ، خرج من مكة ومعه أبو بكر . فدخل غاراً في جبل ثور ليستخفي من قريش . وقد طلبتْه وبذلت لمن جاء به مائة ناقة حمراء ، فأعانه الله تعالى بإخفاء أثره . وأنبت على باب الغار ثمامة ( وهي شجرة صغيرة ) . وأُلهمت العنكبوتُ فنسجت على باب الغار نسج سنين في طرفة عين . ولُدِغ أبو بكر هذه الليلة غير لدغة . فخرّق ثيابه وجعلها في الشقوق . وسدّ بعضها بقدمه اتّقاءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وأقام فيه ثلاثة أيام ثم خرج منه . فلقيه سراقة بن مالك بن جعشم . وهو من جملة من توجه لطلبه , فقال له أبو بكر : هذا سراقة قد قرب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهمّ ! اكفنا سراقة " فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها . فقال سراقة : يا محمد ، ادع الله أن يطلقني ولك عليّ أن أردّ من جاء يطلبك ، ولا أعين عليك أبداً ! فقال : " اللهمّ ! إن كان صادقاً فأطلق عن فرسه " فأطلق الله عنه . ثم أسلم سراقة وحسن إسلامه . هذا ما أورده الماورديّ من الأعلام قبل الهجرة ؛ ثم أورد ما وقع بعدها ؛ وسننقلها عن ابن كثير ، فإنه قال في هذه الآية : ومن عصمة الله لرسوله ، حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسّادها ومعانديها ومترفيها ، مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً ، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة . فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب . إذ كان رئيساً مطاعاً كبيراً في قريش . وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا شرعية . ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها . ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر ، هابوه واحترموه . فلما مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيراً . ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام ، وعلى أن يتحمل إلى دارهم ، وهي المدينة . فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود . وكلّما همّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوءٍ كاده الله وردّ كيده عليه . كما كاده اليهود بالسحر ، فحماه الله منهم وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء . ولما سمّه اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر ، أعلمه الله به وحماه منه . ولهذا أشباه كثيرة جدّاً يطول ذكرها . فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة : فقال ابن جرير : حدثنا الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا أبو معشر حدثنا محمد بن كعب القرظيّ وغيره قالوا : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابُه شجرة ظليلة ، فيَقيل تحتها . فأتاه أعرابيّ فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ قال : " الله عز وجلّ " . فرُعِدَتْ يد الأعرابيّ وسقط السيف منه . قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله عز وجل : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } " . وروى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار ، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل . فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلّي رجليه ، فقال الوارث من بني النجار : لأقتلنّ محمداً . فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال : أقول له أعطني سيفك ، فإذا أعطانيه قتلته به . قال : فأتاه ، فقال : يا محمد ، أعطني سيفك أشيمه . فأعطاه إياه . فرعدت يده حتى سقط السيف من يده . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حال الله بينك وبين ما تريد " . فأنزل الله عز وجل : { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } . قال ابن كثير : وهذا حديث غريب من هذا الوجه . ثم قال : وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصحيح . يريد ما أخرجه الشيخان عن جابر قال : " غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد . فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركتهم القائلة في واد كثير العضاه . فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر . فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة ، فعلق بها سيفه ونمنا معه نومة . فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا . وإذا عنده أعرابيّ فقال : " إنّ هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم . فاستيقظت وهو في يده صلتاً . فقال : من يمنعك مني ؟ فقلت : الله . ثلاثاً " . ولم يعاقبه وجلس " . وفي رواية أخرى قال جابر : " كنا مع رسول الله بذات الرقاع . فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فجاء رجل من المشركين ، وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة . فاخترطه فقال : تخافني ؟ فقال : " لا " ! فقال : من يمنعك مني ؟ قال : " الله " . فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " . وزاد البخاريّ في رواية له : إن اسم ذلك الرجل غورث بن الحارث . وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال : " كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها ، فينزل تحتها . فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها . فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد ، من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله يمنعني منك . ضع السيف " . فوضعه " فأنزل الله عز وجل : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } . وكذا رواه ابن حبان في ( صحيحه ) . وروى الإمام أحمد عن جعدة بن خالد بن الصمة قال : " سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ورأى رجلاً سمينا ، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول : " لو كان هذا في غير هذا لكان خيراً لك " . قال : وأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم برجل فقالوا : هذا أراد أن يقتلك ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لم ترع ، لم ترع . ولو أردت ذلك لم يسلطك الله عليّ " " . الثالث : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يُحْرَسُ ، كما روى الإمام أحمد عن عائشة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه ، قالت : فقلت : ما شأنك يا رسول الله ؟ قال : " ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة " ! قالت : فبينا أنا على ذلك إذ سعت صوت السلاح فقال : " من هذا ؟ " فقال : أنا سعد بن مالك . فقال : " ما جاء بك ؟ " قال : جئت لأحرسك يا رسول الله ، قال : فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه " أخرجاه في ( الصحيحين ) : وفي لفظ : سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مقدمه المدينة ، يعني : على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة ، وكان ذلك في سنة ثنتين منها . وعن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ليلا حتى نزلت : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم : " أيها الناس ، انصرفوا فقد عصمني الله " أخرجه الترمذيّ والحاكم وابن أبي حاتم وابن جرير . وقد روى ابن جرير عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس . فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه . حتى نزلت عليه هذه الآية : { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } . قال : فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه فقال : " إن الله قد عصمني من الجن والإنس " ورواه الطبراني أيضاً . وروى ابن جرير نحوه أيضاً عن جابر . قال ابن كثير : وهذا حديث غريب . وفيه نكارة . فإن هذه الآية مدنية ، بل هي من أواخر ما نزل بها ، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية ، والله أعلم ! انتهى . أقول : بمراجعة ما أسلفنا في ( المقدمة ) من قاعدة أسباب النزول يرتفع الإشكال ، فتذكر . الرابع : قال العلامة أبو السعود : إيراد هذه الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل الكتاب ، لما أن الكل قوارع يسوء الكفارَ سماعها ، ويشق على الرسول صلى الله عليه وسلم مشافهتهم بها ، وخصوصاً ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالتهم ، ولذلك أعيد الأمر فقيل خطاباً للفريقين : { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ … } .