Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 6-6)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ } لما كان من جملة الإيفاء بالعقود التي افتتحت به هذه السورة إقامة الصلاة ، وكانت مشروطة بالطهارة ، بيّن سبحانه في هذه الآية كيفيتها . قال بعض المفسرين : نزلت في عبد الرحمن وكان جريحاً . وقيل : لما احتبس صلى الله عليه وسلم في سفرٍ ليلاً - بسبب عقدٍ ضاع لعائشة ، وأصبحوا على غير ماء . انتهى . والثاني رواه البخاريّ - كما في ( أسباب النزول ) للسيوطيّ - وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة النساء في ( آية التيمم ) ثمة . فانظره . ولهذه الآية ثمرات هي أحكام شرعية الأولى : وجوب الوضوء وقت القيام إلى الصلاة ، أي : إرادته . فقوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } . كقوله : { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [ النحل : 98 ] . وكقولك : إذا ضربت غلامك فهوّن عليه ، في أن المراد إرادة الفعل . قال الزمخشريّ : فإن قلت : لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل ؟ قلت : لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له ، وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه . فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم : الإنسان لا يطير ، والأعمى لا يبصر ، أي : لا يقدران على الطيران والإبصار ، ومنه قوله تعالى : { نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 104 ] ، يعني : إنا كنا قادرين على الإعادة . كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل ، وذلك لأن الفعل مسبب عن القدرة والإرادة ، فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما . ولإيجاز الكلام ونحوه ، من إقامة المسبب مقام السبب ، قولهم : كما تدين تدان . عَبّر عن الفعل المبتدأ - الذي هو سبب الجزاء - بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه . الثانية : ظاهر الآية وجوب الوضوء على كل قائمٍ إلى الصلاة وإن لم يكن محدثاً ، نظراً إلى عموم : { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } من غير اختصاص بالمحدثين . والجمهور على خلافه لِما روى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن بريدة قال : " كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد ، فقال : له عمر : يا رسول الله ، إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله . قال : " إني عمداً فعلته يا عمر " وروى البخاريّ عن سويد بن النعمان قال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عام خيبر حتى إذا كنا بالصهباء صلى بنا صلى الله عليه وسلم العصر . فلما صلى دعا بالأطعمة ، فلم يؤت إلا بالسويق ، فأكلنا وشربنا . ثم قام النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى المغرب ، فمضمض ثم صلى بنا المغرب ولم يتوضأ " وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، وقد سئل عن وضوء أبيه عبد الله ، لكل صلاة ، طاهرا أو غير طاهر ، عمن هو ؟ قال : حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب ؛ أنّ عبد الله بن حنظلة بن الغسيل حدثها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أُمر بالوضوء لكل صلاة طاهراً أو غير طاهر ، فلما شقّ ذلك عليه أمِر بالسواك عند كل صلاة ، ووُضع عنه الوضوء إلا من حدث . فكان عبد الله يرى أنه به قوة على ذلك ، كان يفعله حتى مات . قال ابن كثير : وفي فعل ابن عمر هذا ، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة . دلالة على استحباب ذلك ، كما هو مذهب الجمهور . وقد روى ابن جرير عن ابن سيرين ، أن الخلفاء كانوا يتوضؤون لكل صلاة . وعن عكرمة : أن عليّاً - رضي الله عنه - كان يتوضأ عند كل صلاة , ويقرأ : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ … } الآية ؛ وعن النزال بن سبرة قال : رأيت عليّاً صلى الظهر ، ثم قعد للناس في الرحبة ، ثم أتي بماء فغسل وجهه ويديه ، ثم مسح برأسه ورجليه وقال : هذا وضوء من لم يحدث ، وفي رواية : إنه توضأ وضوءاً فيه تجوّز فقال : هذا وضوء من لم يحدث ؛ وكذا حكى أنس عن عمر أنه فعله . والطرق كلّها جيدة . وأما ما رواه أبو داود الطيالسيّ عن سعيد بن المسيب أنه قال : الوضوء من غير حدث اعتداء ؛ فهو غريب عنه ، ثم هو محمول على من اعتقد وجوبه . وأما مشروعيته استحباباً فقد دلت السنة على ذلك : روى الإمام أحمد عن أنس قال : " كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كلّ صلاة . قيل له : فأنتم كيف تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث " ! ورواه البخاريّ : وأهل السنن أيضاً . وروى أبو داود والترمذيّ وابن ماجه وابن جرير عن ابن عمر مرفوعاً : " من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات " . وضعفه الترمذيّ . وإذا دلّت هذه الأحاديث على أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث ، فالوجه في الخروج من ظاهر الآية ، أن الخطاب فيه خاص بالمحدثين . وفي العناية : الإجماع صرفها عن ظاهرها . فإما أن تكون مقيدة - أي وأنتم محدثون - بقرينة دلالة الحال ، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم - فلو لم يكن له مدخل في الوضوء ، مع المدخلية في التيمم ، لم يكن البدل بدلاً . وقوله : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً } صريح في البدلية . وقيل : في الكلام شرط مقدر ، أي : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ … } إن كنتم محدثين ، وإن كنتم جنباً فاطهروا . وهو قريب جدّاً . انتهى . وزعم بعضهم ؛ أن الوجوب على كل قائم للصلاة كان في أول الأمر ثم نسخ ، واستدلّ على ذلك بحديث عبد الله بن حنظلة المتقدم . ونظر فيه بحديث : ( المائدة من آخر القرآن نزولاً ) وأجيب بأن الحافظ العراقيّ قال : لم أجده مرفوعاً . هذا ، وقال الزمخشريّ : لا يجوز أن يكون الأمر في الآية شاملاً للمحدثين وغيرهم - لهؤلاء على وجه الإيجاب ، ولهؤلاء على وجه الندب - لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية . وفي ( الانتصاف ) : من جوز أن يراد بالمشترك كلّ واحدٍ من معانيه على الجمع ، أجاز ذلك في الآية . ومن المجوزين لذلك الشافعيّ - رحمه الله تعالى - وناهيك بإمام الفنّ وقدوته . وإذا وقع البناء على أن صيغة ( أفعل ) مشتركة بين الوجوب والندب ، صحّ تناولها في الآية الفريقين المحدثين والمتطهرين ، وتناولها للمتطهرين من حيث الندب ، والله أعلم . الثالثة : قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : تمسك بهذه الآية مَنْ قال : إنّ الوضوء أول ما فرض بالمدينة , فأمّا ما قبل ذلك , فنقل ابن عبد البرّ اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة إنما فرض على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بمكة , كما فرضت الصلاة ، وأنه لم يصلّ قط إلا بوضوء . قال : وهذا مما لا يجهله عالم . وقال الحاكم في ( المستدرك ) : وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل للردّ على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة . ثم ساق حديث ابن عباس : " دخلت فاطمة على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهي تبكي , فقالت : هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك ! فقال : " ائتوني بوضوء فتوضأ … " الحديث . قال ابن حجر : وهذا يصلح ردّاً على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة , لا على من أنكر وجوبه حينئذٍ . وقد جزم ابن الحكم المالكيّ بأنه كان قبل الهجرة مندوباً ؛ وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة . وردّ عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في ( المغازي ) التي يرويها عن أبي الأسود - يتيم عروة - عنه ؛ أن جبريل علّم النبيّ صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي . وهو مرسل ؛ ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضاً . لكن قال : عن الزهريّ عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه , وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد , عن عقيل , عن الزهريّ , نحوه . لكن لم يذكر زيد بن حارثة السند ؛ وأخرجه الطبرانيّ في ( الأوسط ) من طريق الليث عن عقيل موصولاً , ولو ثبت لكان على شرط الصحيح , لكن المعروف رواية ابن لهيعة . انتهى . أي : وابن لهيعة يضعف في الحديث . الرابعة : قيل : في الآية دلالة على أن الوضوء لا يجب لغير الصلاة ، وأيّد بما رواه أبو داود والنسائيّ والترمذيّ عن عبد الله بن عباس ؛ " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا : ألا نأتيك بوضوء ؟ فقال : " إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة " قال الترمذيّ : حديث حسن . وروى مسلم عن ابن عباس قال : " كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأتى الخلاء ، ثم إنه رجع فأتي بطعام . فقيل : يا رسول الله ، ألا تتوضأ ؟ فقال : " لم أصلّ فأتوضأ " . وأما اشتراط الوضوء للطواف وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة ومسّ المصحف - عنه من أوجبه - فمن أدلةٍ أخر مقررة في فقه الحديث . الخامسة : ( وجوب غسل الوجه ) والغسل : إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه ، هذا هو المحكيّ عن أكثر الأئمة . زاد بعضهم : مع الدلك . وعن النفس الزكية : أن مجرد الإمساس يكفي وإن لم يَجِْر . وحدّ الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولاً ، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً . وقد ساق بعض المفسرين هنا مذاهب ، فيما يشمله الوجه وما لا يشمله ، ومحلها كتب الخلاف . السادسة : ( وجوب غسل اليدين ) : وهذا مجمع عليه ؛ وأما المرفقان ، تثنية مرفق ( كمِنْبَر ومَجْلِس ) موصل الذراع في العضد ، فالجمهور على دخولهما في المغسول ؛ وحكي عن زفر وبعض المالكية وأهل الظاهر عدم دخولهما . وسبب الخلاف أن المغيّا بـ ( إلى ) تارةً يتضح دخوله في الغاية ، وطوراً لا ، وآونةً يحتمل . قال الزمخشريّ : ( إلى ) تفيد معنى الغاية مطلقاً ، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل ، فما فيه دليل على الخروج ، قوله : { فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] ، لأن الإعسار علة الإنظار ، وبوجود الميسرة تزول العلة ، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظراً في كلتا الحالتين ، معسراً وموسراً ، وكذلك : { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ } [ البقرة : 187 ] لو دخل الليل لوجوب الوصال ؛ ومما فيه دليل على الدخول قولك : حفظت القرآن من أوله إلى آخره ، لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله . ومنه قوله تعالى : { مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا } [ الإسراء : 1 ] لوقوع العلم بأنه لا يسري به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله ؛ وقوله : { إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } و { إِلَى ٱلْكَعْبَينِ } لا دليل فيه على أحد الأمرين ، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط ، فحكموا بدخولها في الغسل ، وأخذ زفر وداود بالمتيقن ، فلم يدخلاها . انتهى . قال الرضيّ : الأكثر عدم دخول حدّي الابتداء والانتهاء في المحدود . فإذا قلت : اشتريت من هذا الموضع إلى ذلك الموضع ، فالموضعان لا يدخلان ظاهراً في الشراء . ويجوز دخولهما فيه مع القرينة ؛ وقال بعضهم : ما بعد ( إلى ) ظاهر الدخول فيما قبلها ، فلا تستعمل في غيره إلا مجازاً . وقيل : إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها نحو : أكلت السمكة إلى رأسها ، فالظاهر الدخول وإلا فلا ، نحو : { أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّليْلِ } [ البقرة : 187 ] . والمذهب هو الأول . ثم قيل : بأنها في الآية بمعنى ( مع ) كقوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] ، قال الرضي : والتحقيق أنها بمعنى : الانتهاء ، أي : تضيفوها إلى أموالكم ، ومضافة إلى المرافق . انتهى . قال صاحب ( النهاية ) : وقول من لم يدخل المرافق من جهة الدلالة اللفظية أرجح ، وقول من أدخلها من جهة الأثر أبين ؛ لأن في حديث مسلم مما رواه أبو هريرة : أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ، ثم اليسرى ، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق ، ثم اليسرى كذلك . واحتج أهل المذاهب بحديث جابر : أنه صلى الله عليه وسلم كان يدير الماء على مرفقيه . قالوا : ودلالة الآية مجملة . وهذا بيان للمجمل . وبيان المجمل الواجب يكون واجباً . انتهى . وقال المجد ابن تيمية في ( المنتقى ) : يتوجه من حديث أبي هريرة وجوب غسل المرفقين ، لأن نص الكتاب يحتمله ، وهو مجمل فيه ، وفعله صلى الله عليه وسلم بيان لمجمل الكتاب ، ومجاوزته للمرفق ليس في محل الإجمال ، ليجب بذلك . انتهى . وأجابوا بأن حديث جابر رواه الدارقطنيّ والبيهقي . وفي إسناده متروك . وقد صرح بضعفه غير واحدٍ من الحفاظ . وحديث أبي هريرة فعل لا ينتهض بمجرده على الوجوب . وقولهم ( هو بيان للمجمل ) فيه نظر ؛ لأن ( إلى ) حقيقة في انتهاء الغاية - كما قدمنا - فلا إجمال . والله أعلم . السابعة : قال الرازي : يقتضي قوله تعالى : { إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } تحديد الأمر ، لا تحديد المأمور به . يعني : أن قوله : { فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } أمر بغسل اليدين إلى المرفقين ، فإيجاب الغسل محدود بهذا الحدّ ؛ فبقي الواجب هو هذا القدر فقط , أما نفس الغسل فغير محدود بهذا الحدّ ؛ لأنه ثبت بالأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة . انتهى . الثامنة : أشعر أيضاً قوله تعالى : { إِلَى ٱلْمَرَافِقِ } أن ينتهي في غسل اليدين بها , ويبتدأ بالأصابع ، قال الحاكم : وقد وردت السنة بذلك , وهو الذي عليه الفقهاء , ولدلالة لفظ : ( إلى ) لأنها للغاية , وغاية الشيء : آخره . وقالت الإمامية : السنة أن يبتدئ بالمرفق . وقالوا : إن ( إلى ) هنا بمعنى ( من ) قال الحاكم : هذا تقدير فاسد . التاسعة : ذهب الجمهور إلى أن تقديم اليمين على الشمال سنّة , مَنْ خالفها فاته الفضل وتمّ وضوؤه ، وذهب العترة والإمامية - كما في ( البحر ) للمهدي - إلى وجوبه . واحتج عليهم بأن الآية لا تفيد ذلك , فمتى غسلهما مرتباً أو غير مرتب - قدم اليمنى أو اليسرى - فقد امتثل الأمر . وأجابوا بأن الدلالة على الوجوب من السنة . فقد روى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إذا لبستم وإذا توضأتم فابدأوا بأيامنكم " وأجيب : بأن الأمر للندب لقوله : " إذا لبستم وإذا توضأتم " فقرن بينه وبين اللبس ، فإذن يدل على وجوب التيامن في اللبس كما يدلّ عليه في الوضوء , وهم لا يقولون به . وأيضاً فقد روي عن عليّ عليه السلام أنه قال : ما أبالي بدأت بيميني أو بشمالي إذا أكملت الوضوء . رواه الدارقطنيّ . وروى نحوه البيهقيّ وابن أبي شيبة . وروى أبو عبيد في الطهور : أن أبا هريرة كان يبدأ بميامنه , فبلغ ذلك عليّاً فبدأ بمياسره . رواه أحمد بن حنبل عن عليّ . قال الحافظ ابن حجر : وفيه انقطاع . وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً . وكذلك الحديث وكذلك الحديث المقترن بالتيامن في اللبس ، المجمع على عدم وجوبه ، صالح لجعله قرينة تصرف الأمر إلى الندب . ودلالة الاقتران - وإن كانت ضعيفة - لكنها لا تقصر عن الصلاحية للصرف ، لا سيما مع اعتضادها بقول عليّ عليه السلام وفعله . العاشرة : ذهب بعض العترة إلى أنه لا مسح على الجبائر . ففي ( الأحكام ) من كتبهم : إذا جبر على جرح أو كسر وخشي نزع الجبائر ضرراً ، لا يشرع المسح . قال : لأنّ الآية تقتضي غسل اليد دون ما عليها . والجمهور منهم ومن غيرهم : أنه يمسح ، لحديث جابر : إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده . رواه أبو داود والدارقطنيّ . وصححه ابن السكن . الحادية عشرة : ( وجوب مسح الرأس ) : والمسح إمساس المحل الماء بحيث لا يسيل ، والباء في قوله تعالى : { بِرُؤُوسِكُمْ } تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق ، فكأنه قيل : وألصقوا المسح برؤوسكم . قال الزمخشريّ : وماسح بعض الرأس ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه ، أي : فيكون الواجب مطلق المسح كلا أو بعضاً - وأيّا ما كان - وقع به الامتثال . والسنة الصحيحة وردت بالبيان ، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم وغيره من حديث المغيرة ؛ أنه صلى الله عليه وسلم أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة . وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة ؛ أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر . وهذه الهيئة التي استمرّ عليها صلى الله عليه وسلم . فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان صلى الله عليه وسلم يداوم عليها ؛ وهي : مسح الرأس مقبلاً ومدبراً ، وإجزاء غيرها في بعض الأحوال . ولا يخفي أن الآية لا تفيد إيقاع المسح على جميع الرأس ، كما في نظائره من الأفعال ، نحو : ضربت رأس زيد ، وبرأسه ، وضربت زيداً وضربت يد زيدٍ . فإنه يوجد المعنى اللغويّ في جميع ذلك ، بوجود الضرب على جزءٍ من الأجزاء المذكورة ، وهكذا ما في الآية . وليس النزاع في مسمى الرأس لغة ، حتى يقال : إنه حقيقة في جميعه ، بل النزاع في إيقاع المسح عليه . وعلى فرض الإجمال ، فقد بينه الشارع تارةً بمسح الجميع ، وتارةً بمسح البعض ، بخلاف الوجه ، فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال ، بل غسله جميعاً . وأما اليدان والرجلان فقد صرح فيهما بالغاية ، فإن قلت : إن المسح ليس كالضرب الذي مثلت به . قلت : لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال : ( مسحت الثوب أو بالثوب . أو مسحت الحائط أو بالحائط ) على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط ، وإنكار مثل هذا مكابرة . كذا في ( الروضة ) . قال شمس الدين ابن القيّم في ( الهدى ) : ولم يصحّ عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد ، أنه اقتصر على مسح بعض رأسه ألبتة ، ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة . فأما حديث أنس الذي رواه أبو داود : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة قِطْرية ، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة - فهذا مقصود أنس به أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يَنْقُضْ عمامته حتى يستوعب مسحُ الرأس الشعرَ كله ، ولم ينف التكميل على العمامة . وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره ، فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه . انتهى . قال الشوكانيّ : ليس النزاع إلا في الوجوب ، وأحاديث التعميم ، وإن كانت أصح ، وفيها زيادة وهي مقبولة - لكن أين دليل الوجوب ؟ وليس إلا مجرد الفعل ، وهو لا يدل على الوجوب . ثم قال : وبعد هذا ، فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديثه ، ولكن دون الجزم بالوجوب ، مفاوز وعقاب . فصل وأما قوله تعالى : { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ } . فقرأه بالنصب نافع وابن عامر وحفص والكسائيّ ويعقوب ، وبالجرّ الباقون . ومن هاتين القراءتين تشعبت المذاهب في صفة طهارة الرجلين ؛ فمن ذاهبٍ إلى أنّ طهارتهما الغسل ، ومن ذاهب إلى أنها المسح ، ومن مخيّر بينهما . ولكلّ من هذه المذاهب حجج وتأويلات وأجوبةٌ ومناقشات تسوق شذرة منها . فنقول : قال الأولون : قراءة النصب ظاهرها يفيد الغسل ، وقراءة الجرّ ظاهرها يفيد المسح ، إلا أنه لما وجد ما يرجح الغسل تأولنا ما أفادته قراءة الجرّ في الظاهر . والمرجح للغسل أمور منها : ما في ( الصحيحين ) و ( السنن ) عن عثمان وعليّ وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه ، إما مرةً وإما مرتين أو ثلاثاً . على اختلاف رواياتهم . وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ثم قال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " " . وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو قال : تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره . فأدركنا وقد أرهقنا العصر . فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا . قال ، فنادى بأعلى صوته : " ويل للأعقاب من النار " مرتين أو ثلاثاً . وكذلك هو في ( الصحيحين ) عن أبي هريرة . وفي ( صحيح مسلم ) عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار " وروى البيهقيّ والحاكم ، بإسناد صحيح ، عن عبد الله بن الحارث بن جزء ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار " وروى الإمام أحمد وابن ماجه وابن جرير عن جابر بن عبد الله قال : رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في رِجْلِِ رَجُلٍ مثلَ الدرهم لم يغسله ، فقال : " ويل للأعقاب من النار " . قال ابن كثير : ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة ، وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما ، أو أنّه يجوز ذلك ، لما توعد على تركه ؛ لأن المسح لا يستوعب جميع الرِّجل ، بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف . وروى الإمام أحمد عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلّي وفي ظهر قدمه لمعةٌ قدر الدرهم ، لم يصبها الماء ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء " زاد أبو داود : والصلاة . وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال : حدثنا عمرو بن عَبَسَة قال : " قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن الوضوء ، قال : " ما منكم من أحدٍ يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر ، إلا خرّت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر ، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله ، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمر الله إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء ، ثم يقوم فيحمد الله ويثني بالذي هو له أهل ، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " " . قال أبو أمامة : يا عمرو ، انظر ما تقول : سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أَيُعْطى هذا الرجل كله في مقامه ؟ قال عمرو بن عبسة : يا أبا أمامة ، لقد كبر سني ورقّ عظمي واقترب أجلي ، وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً ، لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك … قال ابن كثير : وإسناده صحيح وهو في ( صحيح مسلم ) من وجه آخر ، وفيه : ثم يغسل قدميه كما أمره الله . فدلّ على أن القرآن يأمر بالغسل . وهكذا روى أبو إسحاق السبيعيّ عن الحارث عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أُمرتم . ومن ههنا يتضح لك المراد من حديث عبد خير عن عليّ ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما ، إنما أراد غسلاً خفيفاً وهما في النعلين . ولا مانع من إيجاد الغسل والرّجل في نعلها ، ويكون في هذا ردّ على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين . وهكذا ما رواه ابن جرير عن حذيفة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة قومٍ فبال قائماً ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه . وهو حديث صحيح . وقد أجاب ابن جرير عنه : بأنّ الثقات الحفاظ رووه عن حذيفة : فبال قائماً ثم توضأ ومسح على خفيه . قال ابن كثير : ويحتمل الجمع بينهما ، بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان . وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أوس بن أبي أوس قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة " ورواه أبو داود عنه بلفظ : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه " ثم قال الجمهور : إن قراءة الجرّ محمولة على الجرّ الجواريّ . ونظيره كثير في القرآن والشعر . كقوله تعالى : { عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } [ هود : 26 ] و { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] بالجرّ في قراءة حمزة والكسائيّ عطفاً على { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } [ الواقعة : 18 ] والمعنى مختلف ، إذ ليس المعنى : يطوف عليهم ولدان مخلدون بحور عين . وكقولهم : جحر ضبّ خربٍ ، وللنحاة باب في ذلك ، حتى تعدوا ، من اعتباره في الإعراب ، إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك ، وقد ساق شذرة من أشباهه ونظائره أبو البقاء هنا . فانظره . وما قيل بأن حرف العطف مانع من الجوار ( زعماً بأنه خاص بالنعت والتأكيد ) مردود بأنه ورد في العطف كثيراً في كلام العرب . قال الشاعر : @ لم يبق إلا أسير غير منفلت وموثقٍ في عقال الأسر مكبول @@ فخفض ( موثقاً ) بالمجاورة للمنفلت . وحقه الرفع عطفاً على ( أسير ) . وقال : @ فهل أنت - إن ماتت أتانك - راحلٌ إلى آل بسطام بن قيس فخاطِبِ @@ فجرّ ( فخاطب ) للمجاورة ، وحقه الرفع عطفاً على ( راحل ) . وكفى في الردّ قراءة ( وحورٍ ) بالجرّ كما قدّمنا . قالوا : وشرط حسن الجرّ الجواريّ عدم الإلباس مع تضمن نكتة وهنا . كذلك ، فإن الغاية دلت أنه ليس بممسوح ، إذ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة ، والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيفه حتى كأنه مسح . قال الناصر في ( الانتصاف ) : والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان ، من حيث إن كل واحد منهما إمساس بالعضو ، فيسُهل عطف المغسول على المسوح من ثَمَّ - كقوله : متقلداً سيفاً ورمحاً ، وعلفتها تبنا وماء بارداً - ونظائره كثيرة . وبهذا وجّه الحذاق . ثم يقال : ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب ؟ وهلاّ أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاصّ به على الحقيقة ؟ فيقال : فائدته الإيجاز والاختصار وتوكيد الفائدة - بما ذكره الزمخشريّ - أي : من أنّ الأرجل لما كانت مظنة للإسراف المذموم المنهيّ عنه ، فعطفت على الرابع المسوحْ ، لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها . ثم قال الناصر : وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلاً : واغسلوا أرجلكم غسلاً خفيفاً لا إسراف فيه كما هو المعتاد ، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح ، ونبه بهذا التشريك ، الذي لا يكون إلا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جدّا ، على أن الغسل المطلوب في الأرجل ، غسل خفيف يقارب المسح ، وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة . انتهى . وأما من أوجب الجمع بين المسح والغسل فأخْذاً بالجمع بين القراءتين . ومراد من ذهب إلى هذا بالمسح ، هو : الدلك . كما تقدم عن النفس الزكية . قال ابن كثير : من نقل عن ابن جرير - أنه أوجب غسلهما للأحاديث وأوجب مسحهما للآية - فلم يحقق مذهبه في ذلك ، فإن كلامه في تفسيره إنما يدلّ على أنه أراد أنه يجب دَلْك الرجلين ، من دون سائر أعضاء الوضوء لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك ، فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما ، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح ، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما ، فحكاه من حكاه كذلك . ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء ، وهو معذور ، فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه ، وإنما أراد ما ذكرته والله أعلم . ثم تأملت كلامه أيضاً فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله : { وَأَرْجُلَكُمْ } خفضا على المسح وهو : الدلك ، ونصباً على الغسل ، فأوجبهما أخذاً بالجمع بين هذه وهذه . انتهى . وأما من قال : الواجب هو المسح ، فتمسك بقراءة الجر ، وهو مذهب الإمامية . وأجابوا عن قراء النصب بأنها مقتضية للمسح أيضاً . وقد وقفت على كتاب ( شرح المقنعة ) من كتبهم فوجدته أطنب في هذا البحث ، ووجه اقتضاء النصب للمسح بأن موضع الرؤوس موضع نصب لوقوع الفعل ، الذي هو المسح عليه . قال : وعلى هذا لا ينكر أن يعطف الأرجل على موقع الرؤوس لا لفظها فينصب ، والعطف على الموضع جائز مشهور في لغة العرب . ثم ساق الشواهد في ذلك وقال بعد : فإن قيل : ما أنكرتم أن تكون القراءة بالنصب لا تقتضي الغسل ، فلا تحتمل المسح ؛ لأن عطف الأرجل على موضع الرؤوس في الإيجاب توسّع وتجوّز . والظاهر والحقيقة يوجبان عطفها على اللفظ لا الموضع . قلنا : ليس الأمر على ما توهمتم ، بل العطف على الموضع مستحسن في لغة العرب ، وجائز لا على سبيل الاتساع والعدول عن الحقيقة ، فالمتكلم مخير بين حمل الإعراب على اللفظ تارةً ، وبين حمله على الموضع أخرى . قال : وهذا ظاهر في العربية مشهور عند أهلها ، وفي القرآن والشعر له نظائر كثيرة . ثم قال : على أنّا لو سلمنا أن العطف على اللفظ أقوى ، لكان عطف الأرجل على موضع الرؤوس أولى , مع القراءة بالنصب ؛ لأن نصب الأرجل لا يكون إلا على أحد وجهين : إما بأن يعطف على الأيدي والوجوه في الغسل , أو يعطف على موضع الرؤوس فينصب , ويكون حكمها المسح . وعطفها على موضع الرؤوس أولى . وذلك أن الكلام إذا حصل فيه عاملان , أحدهما قريب والآخر بعيد , فإعمال الأقرب أولى من إعمال الأبعد ، وقد نص أهل العربية على هذا في باب التنازع . انتهى . فتأمّل جدلهم . قال الحافظ ابن كثير : وقد روي عن طائفة من السلف بالمسح ، فروى ابن جرير عن حميد قال : قال موسى بن أنس ونحن عنده : يا أبا حمزة ، إن الحجاج خطبنا بالأهواز ، ونحن معه ، فذكر الطهور فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ، وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما . فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج . قال الله تعالى : { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما . قال ابن كثير : إسناده صحيح إليه . وروى ابن جرير أيضاً عن عاصم عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنة بالغسل . وإسناده صحيح أيضاً . وأسند أيضاً عن عكرمة عن ابن عباس قال : الوضوء غسلتان ومسحتان . وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة . وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } ، قال : هو المسح . ثم قال : وروي عن ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر محمد بن عليّ والحسن ( في إحدى الروايات ) وجابر بن يزيد ومجاهد ( في إحدى الروايتين ) نحوه . وروى ابن جرير عن أيوب قال : رأيت عكرمة يمسح على رجليه . وعن الشعبيّ قال : نزل جبريل بالمسح . ألا ترى أنّ التيمم ، أن يمسح ما كان غسلاً ويلغي ما كان مسحاً ؟ وأما من ذهب إلى التخيير ، فقال : لما جاءت القراءة بما يوجب الغسل ، وبما يوجب المسح ، دلّ على أنه مخيّر . قال في ( الشفا ) : القراءتان لا توجبان الجمع ، بل تثبتان التخيير . ولا يخفى أن ظاهر الآية صريح في أن واجبهما المسح . كما قاله ابن عباس وغيره . وإيثار غسلهما في المأثور عنه صلى الله عليه وسلم ، إنما هو للتزيد في الفرض والتوسع فيه حسب عادته صلى الله عليه وسلم ، فإنه سنّ في كل فرضٍ سنناً تدعمه وتقويه ، في الصلاة والزكاة والصوم والحج ، وكذا في الطهارات كما لا يخفى . ومما يدلّ على أن واجبهما المسح ، تشريع المسح على الخفّين والجوربين ، ولا سند له إلا هذه الآية ، فإن كل سنة أصلها في كتاب الله منطوقاً أو مفهوماً . فاعرف ذلك واحتفظ به ، والله الهادي . فصل فيما قاله الصوفية - قدس الله سرهم - من أسرار طهارة هذه الأعضاء : فأما الوجه ، فإنما وجب غسله لأن فيه أكثر الحواس الظاهرة التي ينتفع بالمحسوسات بواسطتها ، فلا بدّ من تطهيره عن ظهور آثار حدثت عنها ، ولسبق الإحساس على العمل ، قدم ما فيه أكثر الحواس الظاهرة أي غير السمع ، ثم أمر بتطهير الآلة الفاعلية للأفعال التي منها تلك الآثار - وهي الأيدي إلى المرافق - لأن العمل بالأصابع يحتاج إلى تحريك الكف التي لا تتحرك غالباً إلا بتحريك المرافق ؛ ثم أمر بمسح الرأس لأنه جامع للحواس الباطنة ، فأشبه جامع الحواس الظاهرة ، وأخّره عن غسل اليدين لأنه مخزن الصور المدركة بالحواس الظاهرة من أعماله وغيرها . ولم يأمر بغسله لأنه يضر بصاحب الشعر ، ولا بد منه في الزينة . لا سيّما للمرأة ، فخفف بالمسح . ثم أوجب غسل آلة السعي لمشابهة آلة العمل وهي الأرجل ، ولما كانت حركتها توجب حركة جميع البدن ، اقتصر على أدنى الغايات . أعني : الكعبين ، لئلا تبطل فائدة تخصيص الأعضاء ، وفي الفصل بين المغسولات بالممسوح إيماء إلى وجوب الترتيب ، والسرّ فيه ما أشرنا إليه . كذا في تفسير ( المهايميّ ) . وذكر الشعرانيّ - قُدِّس سره - في سرّ ذلك : أن الوجه به حصول المواجهة في حضرة الله تعالى عند خطابه ؛ والشرع قد تبع العرف في ذلك . وإلا فكل جزء من بدن العبد - ظاهراً وباطناً - ظاهر للحق تعالى من العبد . أمر الله تعالى العبد بالتوبة فوراً . مسارعة للتطهير من النجاسة المعنوية ؛ لأن الماء لا يصل إلى القلب ، فافهم . ثم وجه قول الجمهور بدخول المرفقين في اليدين بأنهما محل الارتفاق ، وتكمل الحركة بهما في فعل المخالفات . ووجّه قول زفر وداود ، بأنهما لم يتمحضا للذراعين ، لأنهما مجموع شيئين : إبرة الذراع ورأس العظمين . ثم وجّه مسح جميع الرأس ، بالأخذ بالاحتياط ، فيمسح جميع محل الرياسة التي عند المتوضئ ليخرج عن الكبر الذي في ضمنها ، ويمكن من دخول حضرة الله تعالى في الصلاة ، فإن من كان عنده مثقال ذرة من كبر لا يمكن من دخوله الجنة يوم القيامة ، كما ورد ، إذ هي الحضرة الخاصة ، وكذلك القول في حضرة الصلاة . ثم وجّه غسل القدمين بمؤاخذة العبد بالمشي بهما في غير طاعة الله عزّ وجل ، وكونهما حاملَيْن للجسم كلّه ، وممدين له بالقوة على المشي ، فإذا ضعفا بالمخالفة أو الغفلة سرى ذلك فيما حملاه ، كما يسرى منهما القوة إلى ما فوقهما إذا غسل ، فإنهما كعروق الشجرة التي تشرب الماء وتمدّ الأغصان بالأوراق والثمار ، فتعين فيهما الغسل دون المسح . ثم ذكر سرَّ من ذهب إلى وجوب الموالاة في طهارة أعضاء الوضوء ، بأن الغالب على المتطهرين ضعف أبدانهم من كثرة المعاصي أو الغفلات ، أو أكل الشهوات ، وإن لم يكن موالاة جفت الأعضاء كلها قبل القيام إلى الصلاة ، مثلا ، وإذا جفت فكأنها لم تغسل ولم تكتسب بالماء انتعاشاً ، ولا حياة تقف بها بين يدي ربها ، فخاطبت ربها بلا كمال حضورٍ ولا إقبالٍ على مناجاته ، هذا حكم غالب الأبدان . أما أبدان العلماء العاملين وغيرهم من الصالحين ، فلا يحتاجون إلى تشديد في أمر الموالاة لحياة أبدانهم بالماء ، ولو طال الفصل بين غسل أعضائهم ، فيحمل قول من قال بوجوب الموالاة على طهارة عوامّ الناس ، ويحمل قول من قال بالاستحباب على طهارة علمائهم وصالحيهم . وسمعت سيدي عليّاً الخوّاص ، رحمه الله تعالى ، يقول : نِعْمَ قول من قال بوجوب الموالاة في هذا الزمان ، فإنّ من لم يوجبها يؤدي قوله إلى جواز طول الفصل جدّاً . وزيادة البطء في زمن الطهارة ، وفوات أول الوقت ، كأن يغسل وجهه في الوضوء للظهر بعد صلاة الصبح ، ثم يغسل يديه ربع النهار ، ثم يمسح رأسه بعد زوال الشمس ، ثم يغسل رجليه قبيل العصر ، مع وقوع ذلك المتوضئ مثلاً ، في الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية والضحك والغفلة ، وغير ذلك من المعاصي والمكروهات . أو خلاف الأولى إن كان ممن يؤاخذ به كما يؤاخذ بأكل الشهوات ، فمثل هذا الوضوء ، وإن كان صحيحاً في ظاهر الشرع - من حيث إنه يصدق عليه إنه وضوء كامل - فهو قليل النفع لعدم حصول حياة الأعضاء به بعد موتها أو ضعفها أو فتورها ، ففات بذلك حكمة الأمر بالموالاة في الوضوء - وجوباً أو استحباباً - وهي إنعاش البدن وحياته قبل الوقوف بين يدي الله تعالى للمناجاة . ثم لو قدر عدم وقوع ذلك المتوضئ ، الذي لم يوال ، في معصية أو غفلة في الزمن المتخلل بين غسل الأعضاء ، فالبدن ناشف كالأعضاء التي عمتها الغفلة والسهو والملل والسآمة . فلم يَصِرْ لها داعية إلى كمال الإقبال على الله تعالى حال مناجاته . اهـ . وقد كمل أسرار السنن بما يبهج ، فلينظر في ( ميزانه ) رحمه الله تعالى . وفي كلام الله تعالى من الفوائد والأسرار واللطائف ، ما تضيق عنه الأسفار . وقوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً } أي : بخروج منيّ أو التقاء ختانيْن : { فَٱطَّهَّرُواْ } أي : بالماء ، أي : اغتسلوا به . قال المهايميّ : أي : بالغوا في تطهير البدن لأنه يتلذذ به الجميع تلذذاً أغرقه في غير الله ، فأثّر فيه بالحدَث { وَإِن كُنتُم } جنباً { مَّرْضَىۤ } تخافون من استعمال الماء { أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ } أي : رجع من مكان البراز { أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ } أي : اقصدوا { صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } تذليلاً للعضوين الشريفين . وقد مرّ تفسير هذا وأحكامه في سورة النساء . { مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ } أي : ما يريد بالأمر بالطهارة للصلاة ، أو بالأمر بالتيمم { لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي : ضيقٍ في الامتثال أو في تحصيل الماء { وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } أي : عن الذنوب ، أو ليجعلكم في حكم الطاهرين بالتذلل بالتراب . فإنه لما رفع التكبر فكأنما رفع الحدث الذي ينشأ عن أمثاله { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } أي : بشرعه ما هو مطهّر لأبدانكم ومنعش لها مما لحقها ، ومكفّر لذنوبكم ، أو ليتمّ برخصه إنعامه عليكم بتمكينكم من عبادته بكل حالٍ ، حتى حال الحدث : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } نعمته ورخصته فيثيبكم . وقد روى ابن جرير عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه " ورواه مسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة مفصلاً .