Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 5-5)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ } أي : من الذبائح والصيد . تكريره تأكيد للمنة . قال أبو السعود : قيل المراد بالأيام الثلاثة : وقت واحد . وإنما كرر للتأكيد ، ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حَسُنَ تكريره . والمراد بالطيبات ما مرّ . تنبيه قال بعض مفسري الزيدية : دلت الآية على جواز أكل العالي من الأطعمة والأصباغ . قال في ( الروضة والغدير ) : وإن كان التقنع بالأدون هو الأولى ، كما فعله عليّ عليه السلام وغيره من الفضلاء ، فقد روي أن عليّاً عليه السلام كان يطعم الناس أطيب الطعام ، فرأى بعضُ أصحابه طعامَهُ ، وهو خبز شعير غير منخولٍ ، وملح جريش ، وهو مختوم عليه لئلا يبدل . ومن كلامه عليه السلام : والله ! لأروضنّ نفسي رياضة تهش إلى القرص إن وجدته مطعوماً ، وإلى الملح إن وجدته مأدوماً . ولما رويّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في كراهة الإدامين مجتمعين . انتهى . { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ } قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم : يعني ذبائحهم . قال ابن كثير : وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ؛ أن ذبائحهم حلال للمسلمين ، لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه ، تعالى وتقدس . انتهى . قال المهايميّ : وإن لم يعتد بذكِرهم اسم الله ، لكنهم لما ذكروه ، أشبه ما يعتد بذكره ، فأشبه طعامهم الطيبات . مباحث الأول : ما ذكرناه من أن المعنيّ بالطعام : الذبائح ، هو الذي قاله أئمة السلف : صحابةً كابن عباس وأبي أمامة ، وأتباعاً كمجاهد وثمانية غيره . كما في ابن جرير وابن كثير . وفي ( اللباب ) : أجمعوا على أن المراد بـ { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } ذبائحهم خاصة ، لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أنْ كانت لأهل الكتاب وبعد أنْ صارت لهم ، فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة . ولأنّ ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح ، فحملُ هذه الآية عليه أولى ؛ لأن سائر الطعام لا يختلف ، من تولاه من كتابيّ أو غيره ، وإنما تختلف الذكاة . فلما خص أهل الكتاب بالذكر ، دلّ على أن المراد بطعامهم : ذبائحهم . انتهى . الثاني : استدل بالآية على جميع أجزاء ذبائحهم . وهو قول الجمهور . قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : وعن مالك وأحمد ، تحريم ما حرم الله على أهل الكتاب كالشحوم . قال ابن القاسم : لأن الذي أباحه الله طعامهم ، وليس الشحوم من طعامهم ، ولا يقصدونها عند الذكاة . وتعقب بأن ابن عباس فسّر ( طعامهم ) بذبائحهم ، وإذا أبيحت ذبائحهم لم يحتج إلى قصدهم أجزاء المذبوح ، والتذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض ، وإن كانت التذكية شائعة في جميعها دخل الشحم لا محالة . وأيضاً فإن الله تعالى نص بأنه حرم عليهم كل ذي ظفر ، فكان يلزم على قول هذا القائل . إن اليهوديّ ، إذا ذَبَح ماله ظفر ، لا يحل للمسلم أكله . ثم قال ابن حجر : وقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ } يستدل به على الحلّ ، لأنه لم يخص لحماً من شحم ، وكون الشحوم محرمة على أهل الكتاب لا يضر ، لأنها محرمة عليهم لا علينا . وغايته بعد أن يتقرر أن ذبائحهم لنا حلال . أنّ الذي حرم عليهم منها مسكوتٌ في شرعنا عن تحريمه علينا ، فيكون على أصل الإباحة . انتهى . وفي ( الصحيح ) عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه قال : " كنا محاصرين قصر خيبر ، فرمى إنسان بجراب فيه شحم ، فنزوت لآخذه ، فالتفتّ فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم فاستحييت منه " وفي رواية : " أُدْلِيَ بجراب من شحم يوم خيبر . فحضنته وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحداً ، والتفتّ فإذا النبيّ صلى الله عليه وسلم يتبسّم " . قال الحافظ ابن حجر : فيه حجة على من منع ما حرّم عليهم كالشحوم ؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقر ابن مغفل على الانتفاع بالجراب المذكور . وفيه جواز أكل الشحم ، مما ذبحه أهل الكتاب ، ولو كانوا أهل حرب . انتهى . وقال الحافظ ابن كثير : استدل على المالكية الجمهور بهذا الحديث ، وفي ذلك نظر ، لأنه قضية عين ، ويحتمل أن يكون شحماً يعتقدون حله ، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما . والله أعلم . وأجود منه في الدلالة ما ثبت في ( الصحيح ) أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصليّة ، وقد سمّوا ذراعها - وكان يعجبه الذراع - فتناوله فنهش منه نهشة ، فأخبره الذراع أنه مسموم ، فَلفَظَهُ ، وأثّر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبهره . وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور ، فمات . فقتل اليهودية التي سمتها ، وكان اسمها زينب . ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا ؟ وفي الحديث الآخر : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهوديّ على خبز شعير وإهالة سنخة . يعني ودكا زنخَا " . الثالث : تمسك ابن العربيّ - من أئمة المالكية - بهذه الآية على حلّ ما يقتله الفرنج ، وإن رأينا ذلك ؛ لأنه من طعامهم . نقله عنه الشيخ خليل في ( توضيحه ) واستبعده . وقال الإمام ابن زكريّ : صنف ابن العربيّ في إباحة مذكّي النصراني بغير وجه ذكاتنا ، والمحققون على تحريمه . وقد أوضح ذلك الفقيه محمد الدليميّ السوسيّ المالكيّ في ( فتاويه ) ، وقد سئل عن ذبيحة الكتابيّ : هل تحل المذكي كيف كانت ، سواء وافقت ذكاتنا أم لا ؟ بقوله مجيباً : قال الإمام ابن العربيّ : إذا سلّ النصرانيّ عنق دجاجة حلّ للمسلم أكلها ؛ لأن الله تعالى أحلّ لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم ، وكل ما ذكوه على مقتضى دينهم ، حل لنا أكله ، ولا يشترط أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا ، وذلك رخصة من الله تعالى وتيسير منه علينا . ولا يستثنى من ذلك إلا ما حرّم الله تعالى على الخصوص ، فإنه وإن كان طعامهم الذي يستحلونه ، فلا يحل لنا أكله . انتهى . الرابع : قال الرازيّ : نقل عن بعض أئمة الزيدية ؛ أن المراد بـ ( الطعام ) في الآية ، الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة . انتهى . وقد اطلعت على قطعة من تفسير بديع لبعض الزيدية قال فيه : اختلف العلماء من الأئمة والفقهاء : ما أريد بـ ( الطعام ) ؟ فقال القاسم والهادي ومحمد بن عبد الله ، ورواية عن زيد : إن ذبائح أهل الكتاب وجميع الكفار لا تجوز ، لقوله تعالى : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } [ المائدة : 3 ] وهذا خطاب للمسلمين ، والرواية الثانية عن زيد وعامة الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والجعفرية والإمامية . واختاره الأمير ح والأمير يحيى : جواز ذبائح أهل الكتاب . ويفسرون ( الطعام ) بالذبائح وغيرها . وهذا مرويّ عن الحسن والزهريّ والشعبيّ وعطاء وقتادة وأكثر المفسرين . وأخذوا بالعموم في إطلاق ( الطعام ) ، فأجاب الأولون بأن ( الطعام ) يطلق على الحبوب يقال : سوق الطعام . قال القاضي : الأقرب الحِلّ ؛ لأن ذلك بفعلهم يصير طعاماً ، ولأنه خص أهل الكتاب . أجيب : بأنه خصهم لئلا يظن أنَّ طعامهم الذي لم يذكّوه محرم . ثم عند الهادي والقاسم ، عليهما السلام ، تنجس رطوباتهم ، لقوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] . فيحرم ما حصل فيه رطوبتهم ، إلا ما أخذناه قهراً . وعند المؤيد بالله ومن معه : إن رطوبتهم طاهرة ، والخلاف في الرطوبة عامة في الكفار . انتهى . وفي ( الروضة الندية ) ما نصه : وأما ذبيحة أهل الذمة ، فقد دلّ على حلّها القرآن الكريم بهذه الآية . ومن قال : إن اللحم لا يتناوله ( الطعام ) فقد قصر في البحث ، ولم ينظر في كتب اللغة ، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أكل ذبائح أهل الكتاب ، كما في أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سمّا ، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها ، ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع . فإن قلت : قد يذبحونه لغير الله ، أو بغير تسمية ، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح . قلت : إن صح شيء من هذا ، فالكلام في ذبيحته ، كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه . وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابيّ مانعاً ، لا كونه أخذ بشرط معتبر . انتهى . الخامس : أريد بـ { أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم متنصّروا العرب من بني تغلب - فلا تحلْ ذبيحته . روي عن عليّ بن أبي طالب قال : لا تأكل من ذبائح نصاري بني تغلب ، فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر . وبه قال ابن مسعود . وسئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب ؟ فقال : لا بأس به ، ثم قرأ : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] . وهذا قول الحسن وعطاء والشعبيّ وعكرمة وقتادة والزهريّ والحكم وحماد - كذا في ( اللباب ) . قال ابن كثير : وأما المجوس فإنهم - وإن أخذت منهم الجزية تبعاً وإلحاقاً لأهل الكتاب - فإنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم . خلافاً لأبي ثور ، إبراهيم بن خالد الكلبيّ ( أحد الفقهاء من أصحاب الشافعيّ , وأحمد بن حنبل ) ولما قال ذلك ، واشتهر عنه ، أنكر عليه الفقهاء ذلك ، حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه - يعني في هذه المسألة - وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ولكن لم يثبت بهذا اللفظ . وإنما الذي في ( صحيح ) البخاريّ عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجرة ولو سلم صحة هذا الحديث ، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية : { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ } فدلّ بمفهومه مفهوم المخالفة ، على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل … ! السادس : قيل : هذه الآية تقتضي إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً ، وإنْ ذكروا غير اسم الله تعالى . وعن ابن عمر : لو ذبح يهوديّ أو نصرانيّ على غير اسم الله تعالى ، لا يحل ذلك . وهو قول ربيعة . وسئل الشعبيّ وعطاء ، عن النصرانيّ يذبح باسم المسيح ؟ فقال : يحلّ . فإن الله تعالى قد أحلّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون . وقال الحسن : إذا ذبح اليهوديّ أو النصرانيّ وذكر غير اسم الله ، وأنت تسمع ، فلا تأكل ، وإذا غاب عنك فكُلْ ، فقد أحلّه الله لك . كذا في ( اللباب ) . وقول الحسن - في هذا البحث - هو الحسن . وفي ( النهاية ) من كتب الزيدية : أما إذا ذبح أهل الذمة لأعيادهم وكنائسهم ، فكرهه مالك ، وأباحه أشهب ، وحرمه الشافعيّ . وذلك لتعارض عموم قوله تعالى : { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } وعموم قوله تعالى : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 173 ] فتخصيص كل واحد للآخر محتمل . ثم قال : والجمهور على تحريم ذبيحة المرتدّ . وأجازها إسحاق ، وكرهها الثوريّ . وسبب الخلاف : هل المرتد يتناول اسم ( الكتاب ) أم لا ؟ قال : وهكذا منشأ الخلاف في ذبائح بني تغلب ، هل اسم ( الكتاب ) يتناول المتنصرّ والمتهوّد من العرب ، كما روي عن ابن عباس ؟ أوْ لا يتناول ، كما روي عن عليّ عليه السلام ؟ انتهى . وقوله تعالى : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } يعني : ذبائحكم حلال لهم ، فتأكل اليهود والنصارى ذبيحة المسلمين . كذا في " التفسير " المنسوب لابن عباس . ونقل بعض مفسري الزيدية عن ابن عباس وأبي الدرداء ، وبقية التابعين السالف ذكرهم ، وأكثر المفسّرين والفقهاء ، أنّ المراد ذبائح المسلمين . وقال الزجاج : تأويله : حلّ لكم أن تطعموهم ؛ لأن الحلال والحرام والفرائض إنما تعقد على أهل الشريعة . وقال ابن كثير : أي : ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم ، وليس هذا إخباراً عن الحكم عندهم ، اللهم ! إلا يكون خبراً عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه ، سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها . والأول أظهر في المعنى . أي : ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم ، وهذا من باب المكافأة والمجازاة . كما ألبس النبيّ صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أُبَيِّ بن سلول حين مات ودفنه فيه . قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه . فجازاه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ذلك بذلك . فأمّا الحديث الذي فيه : " لا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقيّ " فمحمول على الندب والاستحباب ، والله أعلم . انتهى . وقال الرازيّ : أي : ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم ؛ لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا . وأيضاً فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين ، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين ، لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيهاً على التمييز بين النوعين . انتهى . وقال البرهان البقاعيّ في ( تفسيره ) : وقوله تعالى : { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ حِلٌّ لَّكُمْ } أي : تناوله لحاجتكم إلى مخالطتهم ، للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية . ولما كان هذا مشعراً بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم زاده تأكيداً بقوله : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } أي : فلا عليكم في بذله لهم ، ولا عليهم في تناوله . انتهى . وفي ( أمالي ) الإمام السهيليّ رحمه الله تعالى : قيل : ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا ؟ فعنه جوابان : أحدهما : أن المعنى : انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم ، فإن أَطْعَمُوكُمُوهُ فكلوه ، ولا تنظروا إلى ما كان محرماً عليهم ، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم ، ثم نسخ ذلك في شرعنا . والآية بيان لنا لا لهم . أي : اعلموا أن ما كان محرماً عليهم ، مما هو حلال لكم ، قد أحلّ لهم أيضاً . ولذلك لو أطعمونا خنزيراً أو نحوه وقالوا : هو حلال في شريعتنا ، وقد أباح الله لكم طعامنا - كذبناهم وقلنا : إن الطعام الذي يحلّ لكم هو الذي يحل لنا ، لا غيره . فالمعنى : طعامهم حل لكم ، إذا كان الطعامَ الذي أحللتهُ لكم . وهذا التفسير معنى قول السدّي وغيره . الثاني : للنحاس والزجاج والنقاش وكثير من المتأخرين ؛ أن المعنى : جائز لكم أن تطعموهم من طعامكم ، لا أن يبين لهم ما يحل لهم في دينهم ، لأن دينهم باطل . إلا أنه لم يقل : وإطعامكم ، بل ( طعامكم ) - والطعام المأكول - وأما الفعل فهو الإطعام . فإن زعموا أن ( الطعام ) يقوم مقام ( الإطعام ) توسعاً ، قلنا : بقي اعتراض آخر : وهو الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ وهو ممتنع بالإجماع ، لا يجيزون ( إطعام زيد حسنٌ للمساكين ) ولا ( ضربك شديدٌ زيداً ) فكيف جاز ( وطعامكم حلّ لهم ) ؟ انتهى . قال الناصر في ( الانتصاف ) : وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشريعة ؛ لأن التحليل حكم وقد علقه بهم في قوله : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } كما علق الحكم بالمؤمنين . وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [ الممتحنة : 10 ] فإنّ لقائلٍ أن يقول : في تلك الآية نفي الحكم ليس بحكم ، ولا يستطيع ذلك في آية ( المائدة ) هذه ؛ لأن الحكم فيها مثبت ، والله أعلم . ثم قال : ولما استشعر الزمخشريّ دلالتها على ذلك ، وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة - أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين ، أي : لا جناح عليكم - أيها المسلمون - أن تطعموا أهل الكتاب . انتهى . { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ } عطف على ( الطيبات ) أو مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه ، أي : حلٌّ لكم . والمراد بـ ( المحصنات ) العفيفات عن الزنى ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ } [ النساء : 25 ] وهو المرويّ عن الحسن والشعبيّ وسفيان وإبراهيم ومجاهد . وحكى ابن جرير رواية أخرى عن مجاهد أنه قال : المحصنات : الحرائر ، فقيل : عني بهن غير الإماء . وقيل : أراد بهن العفيفات ، كقول الجمهور . وذلك لأن الحرّ يطلق على خلاف العبد ، وعلى خيار كل شيء ، كما في ( القاموس ) . قال الزمخشري : وتخصيصهن بعثٌ على تخير المؤمنين لنطفهم ، والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق ، وكذلك نكاح غير العفائف منهن . انتهى . أقول : جواز نكاح الأمَة موقوف على خوف العنت وعدم طول الحرة ، لآية : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً … } [ النساء : 25 ] إلخ وأما نكاح غير العفيفة فأجازه الأكثرون . وذهب الإمام أحمد إلى تحريم نكاح الزانية على زانٍ وغيره ، حتى تتوب وتنقضي عدتها ؛ لقوله تعالى : { وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 3 ] . ولما أخرجه أحمد بإسناد رجاله ثقات ، والطبرانيّ في ( الكبير ) و ( الأوسط ) من حديث عبد الله ابن عمرو : " أن رجلاً من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول ، كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه . فقرأ عليه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : { وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } [ النور : 3 ] " وأخرج أبو داود والنسائيّ والترمذيّ وحسّنه ، من حديث ابن عمر : " أن مرثد بن أبي مرثد الغنويّ كان يحمل الأسارى بمكة ، وكان بمكة بغيّ يقال لها عناق ، وكانت صديقته . قال : فجئت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكح عناقاً ؟ قال ، فسكت عني . فنزلت الآية : { وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } [ النور : 3 ] فدعاني فقرأها عليّ وقال : " لا تنكحها " وأخرج أحمد وأبو داود بإسناد رجاله ثقات , من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله " قال ابن القيّم : أخذ بهذه الفتاوي - التي لا معارض لها - الإمام أحمد ومن وافقه - وهي من محاسن مذهبه - فإنه يجوّز أن ينكح الرجل زوجاً تحبه . ويعضد مذهبَه بضعة وعشرون دليلاً قد ذكرناها في موضع آخر . وأخرج ابن ماجة والترمذيّ وصححه , من حديث عمرو بن الأحوص , أنه شهد حجة الوداع مع النبيّ صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال : " استوصوا في النساء خيراً ، فإنما هنّ عندكم عوان ، ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشة مبيّنةٍ ، فإن فعلن , فاهجروهنَّ في المضاجع , واضربوهنّ ضرباً غير مبرّح , فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً " وأخرج أبو داود والنسائيّ , من حديث ابن عباس قال : " جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي لا تمنع يد لامس , قال : " غرّبها " قال : أخاف أن تتبعها نفسي . قال : " فاستمتع بها " " قال المنذريّ : ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين . قال ابن القيم : عورض بهذا الحديث المتشابه , الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تجويز البغايا ، واختلفت مسالك المحرّمين لذلك فيه , فقالت طائفة : المراد بـ ( اللامس ) ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة . وقالت طائفة : بل هذا في الدوام غير مؤثر ، وإنما المانع ورود العقد على الزانية ، فهذا هو الحرام . وقالت طائفة : بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما ، فإنه لما أُمِرَ بمفارقتها خاف من أن لا يصبر عنها فيواقعها حراماً , فأمره حينئذٍ بإمساكها ، إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فساداً من مواقعتها بالسفاح . وقالت طائفة : بل الحديث ضعيف لا يثبت . وقالت طائفة : ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية ، وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسّها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك , فهي تعطي الليان لذلك ، ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى ، ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة ، فأمَرَهُ بفراقها , تركاً لما يريبه إلى ما لا يريبه . فلما أخبره بأن نفسه تتبعها , وأنه لا صبر له عنها , رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك . والله تعالى أعلم . وتتمة البحث في ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في سورة النور . فائدة أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبيّ وإبراهيم النخعيّ والحسن والبصريّ بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها , أنه يفرق بينهما وتردّ عليه ما بذل لها من المهر . رواه ابن جرير عنهم . { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكُمْ } أي : هنّ أيضاً حلّ لكم . والجمهور : عليّ أن المراد بـ ( المحصنات ) العفائف عن الزنى , كما قدمنا . قال ابن كثير : وهو الأشبه ، لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمِّية وهي مع ذلك غير عفيفة , فيفسد حالها بالكلية , ويتحصل زوجها على ما قيل , حشفاً وسوء كيلة . وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف - ممن فسّر ( المحصنات ) بالعفيفات ؛ أن الآية تعم كل كتابية عفيفة . سواء كانت حرة أو أمة . ومن فسرها بـ ( الحرائر ) قال : لا يصح نكاح الأمة الكتابية بحالٍ , إِذْ لا يحتمل عار الكفر مع عار الرق , على أنه يؤدي إلى استرقاق الكافر ولدَ المسلم . تنبيهات الأول : ظاهر الآية جواز نكاح الكتابية : وهذا مذهب الفقهاء والمفسرين . ورواية عن زيد والصادق والباقر , واختاره الإمام يحيى وقال : إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة , وأنّ عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه , وهي نصرانية . وأنّ طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية . كذا نقله المفسرون . وروى البيهقيّ وعبد الرزاق وابن جرير عن عمر أنّه قال : المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصرانيّ المسلمة . وروى عبد الرزاق أيضاً عن سعيد بن المسيب ؛ أن عمر بن الخطاب كتب إلى حذيفة بن اليمان وهو بالكوفة , ونكح امرأة من أهل الكتاب , فكتب : أن فارِقْها فإنك بأرض المجوس , فإني أخشى أن يقول الجاهل : قد تزوج صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرة ! ويحلل الرخصة التي كانت من الله عز وجل فيتزوجوا نساء المجوس … ففارقها . وروى عبد الرزاق والبيهقيّ عن قتادة : أن حذيفة نكح يهودية ، فقال عمر : طلِّقْها فإنها جمرة . فقال : أحرام هي ؟ قال : لا ، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن . وروى عبد الرزاق عن زيد بن وهب قال : كتب عمر بن الخطاب : إن المسلم ينكح النصرانية ، والنصرانيّ لا ينكح المسلمة . وروي أيضاً عن جابر قال : نساء أهل الكتاب لنا حلّ ، ونساؤنا عليهم حرام . وروي أيضاً عن معمر عن الزهريّ قال : نكح رجل من قومي في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم امرأة من أهل الكتاب . وروي عن ابن عمر كراهية ذلك . ويحتج بقوله تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] . وكان يقول : لا أعلم شركاً أعظم من قولها : إن ربها عيسى . وأجاب الجمهور بأنه عامّ خص بهذه الآية , إن قيل بدخول الكتابيات في عموم المشركات , وإلا , فلا معارضة بين الآيتين ؛ لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع ؛ كقوله تعالى : { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } [ البينة : 1 ] . وكقوله : { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ } [ آل عمران : 20 ] . الثاني : استدل بعموم الآية من جوّز نكاح الحربيات الكتابيات . وروي عن ابن عباس : أن الإذن في الذميات خاصة ، ويقرأ : { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ } [ التوبة : 29 ] - إلى قوله - { حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ } [ التوبة : 29 ] . قال : فمن أعطى ، حل . ومن لا ، فلا . وهذا الاستدلال دقيق جداً . فليتأمل ! . الثالث : قال المهايميّ : لما اعتبر في طعام أهل الكتاب شبهة بالطّيب - كما قدمنا - اعتبر في باب النكاح ، فأحلّ المحصنات منهم ، واحتمل كفرهنّ لأنه إنما لم يحتمل كفر غيرهم لأنهم يدعون إلى النار . وهؤلاء لما اعترفوا بأصل النبوّة ، ولا شبهة لهم في نفي أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فضلاً عن حجة ضعفت دعوتهم إليها ، فلم يعتد بها . على أن الرجل مستولٍ على المرأة ، فلا تؤثر فيه تأثير الرجل . فلذلك لم يصح تزويج المسلمة بالكتابيّ ، على أن فيه إذلالاً للمسلمة فلا تحتمل . الرابع : ذهب ثلة من العترة الطاهرة إلى أن المراد من { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ } : المؤمنات منهن . ذهاباً إلى تحريم نكاح الكافرة . قال بعض مفسري الزيدية ، بعد أن ساق مذهب الأكثرين المتقدم . وقال القاسم والهادي والنفس الزكية ومحمد بن عبد الله وعامة القاسمية - وهو مرويّ عن ابن عمر : أنه لا يجوز لمسلمٍ نكاح كافرة ، كتابية كانت أو غيرها ، واحتجوا بقوله في سورة البقرة : { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] . قالوا - يعني : الأكثرين : هذا في المشركات لا في الكتابيات ؛ قلنا : اسم الشرك ينطلق على أهل الكتاب بدليل قوله تعالى : { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ } [ التوبة : 31 ] إلى قوله : { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] . وعن ابن عمر : لا أعلم شركاً أعظم من قول النصرانية : إنه ربها عيسى . وعن عطاء : قد كثر الله المسلمات ، وإنما رخص لهم يومئذ . قالوا : إن تعالى عطف أحدهما على الآخر فدلّ على أنهما غَيْرَيْنِ ، حيث قال تعالى : { لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَٱلْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلْبَيِّنَةُ } [ البينة : 1 ] قلنا : هذا كقوله تعالى : { ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ } [ البقرة : 180 ] . قالوا : الآية مصرحة بالجواز في قوله : { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } . قلنا : في سورة النور { ٱلْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَٱلطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ } [ النور : 26 ] ، وقوله في سورة النساء : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم } [ النساء : 25 ] . فشرط الإيمان في هذا يقضي بالتحريم ، فُتتأوّل هذه الآية : أنه أراد المحصنات من أهل الكتاب اللاتي قد أسلمن ؛ لأنهم كانوا يتكرهون ذلك ، فسماهنّ باسم ما كنّ عليه . وقد ورد مثل هذا في كتاب الله تعالى قال الله تعالى : { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } [ البقرة : 121 ] ، وقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ، والأنعام : 20 ] ، وقوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ } [ آل عمران : 199 ] . قالوا : سبب النزول وفعل الصحابة : يدل على الجواز ، وإنا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول : قوله : { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ } [ البقرة : 221 ] عامّ نخصّه بقوله تعالى : { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } ؛ أو نقول : أراد بـ { ٱلْمُشْرِكَاتِ } [ البقرة : 221 ] الوثنيات وبـ { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } ما أفاده الظاهر ، أو يكون قوله : { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ … } ناسخاً لتحريم الكتابيات بقوله : { وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ } [ البقرة : 221 ] . قلنا : نقابل ما ذكرتم بما روي ؛ أن كعب بن مالك أراد أن يتزوج بيهودية أو نصرانية ، فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : " إنها لا تحصن ماءك " وروي أنه نهاه عن ذلك . وبأنا نتأوّل قوله تعالى : { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } فنجمع ونقول : تخصيص المشركات بـ { وَٱلْمُحْصَنَـٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } متراخٍ , والبيان لا يجوز أن يتراخى ! قالوا : روى جابر بن عبد الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " أحلّ لنا ذبائح أهل الكتاب وأحلّ لنا نساءهم . وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا " قال في ( الشفا ) : قال علماؤنا : هذا حديث ضعيف النقل . قالوا : قوله صلى الله عليه وسلم في المجوس : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " الخبر أفاد جواز ذبائحهم ونكاح نسائهم . قلنا : الجواز منسوخ بأدلة التحريم ، ثم إنا نقوي أدلتنا بالقياس فنقول : كافرة فأشبهت الحربية ، أو لما حرمت الموارثة حرمت المناكحة ، أو لما حرم نكاح الكافر للمسلمة حرم العكس . قالوا : لا حكم للاعتبار مع الأدلة . انتهى بحروفه ، وهو فقه غريب . وقوله تعالى : { إِذَا ءاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي : أعطيتموهنّ مهورهنّ . وتقييد الحلّ بإيتائها ، لتأكيد وجوبها والحثّ على ما هو الأوْلى ، مبادرة لفراغ الذمة . فإن شغل الذمة بحق الآدميّ أشدّ من شغلها بحق الله تعالى { مُحْصِنِينَ } : متعفّفين { غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ } أي : غير مجاهرين بالزنى : { وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ } مسرّين به ، ( والخدن ) : الصديق ، يقع على الذكر والأنثى . وحمل المسافحة على إظهار الزنى لظهور مقابله في الإسرار ، لتبادره من الخدن وهو الصديق . وقيل : الأول : نهي عن الزنى ، والثاني : نهي عن مخالطتهن . كذا في ( العناية ) . قال ابن كثير : كما شرط الإحصان في النساء - وهي العفّة عن الزنى - كذلك شرطها في الرجال ، وهو أن يكون الرجل أيضاً محصناً عفيفاً ، ولهذا قال : { غَيْرَ مُسَٰفِحِينَ } وهم الزنات الذين لا يرتدعون عن معصيةٍ ولا يردّون أنفسهم عمنّ جاءهم { وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ } أي : ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهنّ ، كما تقدم في سورة النساء ، سواء . ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - إلى أنه لا يصحّ نكاح المرأة البغي حتى تتوب ، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف . وكذلك لا يصحّ عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنى ، لهذه الآية وللحديث : " لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله " . وروى ابن جرير : أن عمر بن الخطاب قال : لقد هممت أن لا أدع أحداً أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة . فقال له أُبيّ بن كعب : يا أمير المؤمنين ، الشرك أعظم من ذلك وقد يقبل منه إذا تاب . وقوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَٰنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ } يريدُ بـ ( الإيمان ) : شرائع الإسلام ، على أنه مصدر أريد به المؤمن به ، كـ " درهمٌ ضَرْبُ الأمير " . و ( الكفر ) الإباء عنه وجحوده . والآية تذييل لقوله : { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ … } تعظيماً لشأن ما أحله الله وما حرّمه ، وتغليظاً على من خالف ذلك . كذلك في ( العناية ) .