Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 75-75)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ مَّا ٱلْمَسِيحُ } أي : المعلوم حدوثه من كونه { ٱبْنُ مَرْيَمَ } بالخوارق الظاهرة على يديه { إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ } أي : مضت { مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ } أولو الخوارق الباهرة . فله أسوة أمثاله . كما قال تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } [ الزخرف : 59 ] . أي : ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا قبله ، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها . إن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده ، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر على يد موسى . وهو أعجب . وإن خَلَقَهُ من غير أب ، فقد خلق آدم من غير أب ولا أم . وهو أغرب منه . وفي الآية وجه آخر : أي : مضت من قبله الرسل ، فهو يمضي مثلهم . فالجملة - على كل - منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهيّة { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } أي : مبالغة في الصدق . ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } [ التحريم : 12 ] . والوصف بذلك مشعر بالإغراق في العبودية والقيام بمراسمها . فمن أين لهم أن يصفوها بما يباين وصفها ؟ تنبيه قال ابن كثير : دلت الآية على أن مريم ليست بنبيّة . كما زعمه ابن حزم وغيره - ممن ذهب إلى نبوّة سارة أم إسحاق ونبوّة أم موسى ونبوّة أم عيسى - استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ } [ القصص : 7 ] . وهذا معنى النبوّة . والذي عليه الجمهور أنّ الله لم يبعث نبياً إلا من الرجال . قال الله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ } [ يوسف : 109 ] . وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعريّ ، رحمه الله ، الإجماعَ على ذلك . انتهى . فائدة ( في حقيقة الصديق والصدق ) قال العارف القاشانيّ قدس الله سرّه في ( لطائف الأعلام ) : الصدّيق الكثير الصدق . كما يقال : سكّيت وصرّيع إذا كثر منه ذلك . والصدّيق مِن الناس : من كان كاملاً في تصديقه لما جاءت به رسل الله علماً وعملاً ، قولاً وفعلاً . وليس يعلو على مقام الصديقية إلا مقام النبوّة . بحيث إن من تخطى مقام الصديقية حصل في مقام النبوّة . قال الله تعالى : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم … } [ مريم : 58 ] الآية . فلم يجعل تعالى بين مرتبتي النبوة والصديقية مرتبة أخرى تتخللهما . ثم بيّن قدس سره صدق الأقوال ، وصدق الأفعال ، وصدق الأحوال . فالأول : هو موافقة الضمير للنطق . قال الجنيد : حقيقة الصدق : أن تصدق في مواطن لا ينجيك فيه إلا الكذب . وصدق الأفعال : هو الوفاء لله بالعمل من غير مداهنة . قال المحاسبيّ : الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قَدْرٍ له في قلوب الخلق من أجل إصلاح قلبه . ولا يحب اطّلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله . ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من حاله ؛ لأن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم . وليس هذا من أخلاق الصدّيقين . وصدق الأحوال : اجتماع الهم على الحق ، بحيث لا يختلج في القلب تفرقة عن الحق بوجه . وقوله تعالى : { كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ } استئناف مبين لما قبله من أنهما كسائر البشر في الافتقار إلى الغذاء . وفيه تبعيد عما نسب إليهما . قال الزمخشريّ : لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام ، وما يتبعه من الهضم والنفض ، لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة ، مع شهوة وقَرَمٍ وغير ذلك … مما يدل على أنه مصنوع مؤلَّف مدبَّر كغيره من الأجسام . لطيفة إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى ، حاجتهما للطعام عما قبله من مساواتهما للرسل عليهم السلام ، ترقيا في باب الاستدلال من الجليّ للأجلي ، على ما هو القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم ، حتى إذا لم يسلم في الجليّ لغموضه عليه ، يورد له الأجلى تعريضاً بغباوته . فيضطر للتسليم ، إن لم يكن معانداً ولا مكابراً . هذا ما ظهر لي في سر التقديم والتأخير . وأما قول الخفاجيّ - ملخصاً كلام البيضاويّ - في سر ذلك : أنه تعالى بين أولا أقصى مراتب كمالهما ، وأنه لا يقتضي الألوهية ، وقدمه لئلا يواجههما بذكر نقائص البشرية الموجبة لبطلان ما ادعوا فيهما ، على حد قوله تعالى : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] ، حيث قدم العفو على المعاتبة له صلى الله عليه وسلم . انتهى - فبعيدٌ . وقياسه على الآية قياس مع الفارق لاختلاف المقامين . فالأظهر ما ذكرناه ، والله أعلم بأسرار كتابه . { ٱنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ } أي : على توحيد الله ، وبطلان الاتحاد وإلهية عيسى وأمه ، وبطلان شبهاتهم ! { ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } أي : كيف يصرفون عن التأمل فيها إلى الإصرار على التمسك بالشبهات الظاهرة البطلان . قال أبو السعود : وتكرير الأمر بالنظر ، للمبالغة في التعجيب من حال الذي يدعون لهما الربوبية ، ولا يرعوون عن ذلك ، بعد ما بين لهم حقيقة حالهما بياناً لا يحوم حوله شائبة ريب ، وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت . أي : إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه ، بالغ لأقاصي الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح ، وإعراضهم عنها - مع انتفاء ما يصححه بالمرة ، وتعاضد ما يوجب قبولها - أعجب وأبدع .