Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 77-77)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ } أي : الذي هو ميزان العدل { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ ٱلْحَقِّ } أي : لا تتجاوزوا الحد في تعظيم عيسى وأمه وترفعوهما عن رتبتهما إلى ما تقوّلتم عليهما من العظيمة ، فأدخلتم في دينكم اعتقاداً غير الحق بلا دليل عليه ، مع تظاهر الأدلة على خلافه . ونصب ( غير ) على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : غلوّاً غير الحق . يعني غلوّاً باطلا . أو حال من ضمير الفاعل أي : مجاوزين الحق . و ( الغلو ) نقيض التقصير ، ومعناه الخروج عن الحد ، وذلك لأن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط ، ودين الله بين الغلو والتقصير . تنبيه دلت الآية على أن الغلوّ في الدين غلوَّانِ : ( غلوّ حق ) كأن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه ؛ و ( غلوّ باطل ) وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه . قال بعض الزيدية : دلت الآية على أن الغلو في الدين لا يجوز ، وهو المجاوزة للحق إلى الباطل . ومن هذا ، الغلوُّ في الطهارة مع كثير من الناس ، بالزيادة على ما ورد به الشرع لغير موجب . انتهى . ومن هذا القبيل : الغلوّ في تعظيم الصالحين وقبورهم حتى يصيّرها كالأوثان التي كانت تعبد . وروى الإمام أحمد والنسائيّ وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس ؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إيّاكم والغلوّ في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين " . وعن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله " أخرجاه . ولمسلم عن ابن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هلك المتنطّعون " قالها ثلاثاً . ثم نهاهم تعالى عن اتباع سلفهم وأئمتهم الضالين بقوله سبحانه : { وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ } ، قال المهايميّ : أي : تقليداً { أَهْوَآءَ قَوْمٍ } تمسّكوا بخوارقهما على إلهيتهما . فإن نظروا إلى سبقهم فغايتهم أنهم { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَ } إلى كثرة أتباعهم فغايتهم أنهم { أَضَلُّواْ كَثِيراً } ممن شايعهم على التثليث { وَ } إلى تمسّكهم بمتشابهات الإنجيل ، فغايتهم أنهم { ضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } إذْ لم يردّوها إلى المحكمات . تنبيهات الأول : قال الرازي : الأهواء - ههنا - المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجّة . قال الشعبيّ : ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمّه . قال : { وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ ص : 26 ] . { وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ } [ طه : 16 ] . { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [ االنجم : 3 ] . { أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [ الفرقان : 43 ] . قال أبو عبيدة : لم نجد الهوى يوضع إلا في موضع الشر . لا يقال : فلان يهوي الخير . إنما يقال : يريد الخير ويحبه . وقال بعضهم : الهوى إله يعبد من دون الله . وقيل : سميّ الهوى هوى ، لأنه يهوي بصاحبه في النار . وأنشد في ذم الهوى : @ إنّ الهوى لهو الهوانُ بعينِه فإذا هويتَ فقد لقيتَ هواناً @@ وقال رجل لابن عباس : الحمد لله الذي جعل هواي على هواك ، فقال ابن عباس : كل الهوى ضلالة . الثاني : قال الرازيّ أيضاً : إنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال : فبيّن أنهم كانوا ضالين من قبل ، ثم ذكر أنهم كانوا مضلّين لغيرهم ، ثم ذكر أنهم استمرّوا على تلك الحالة حتى إنهم الآن ضالون كما كانوا . ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله والقرب من عقاب الله تعالى ، من هذه الحالة . نعوذ بالله منها . ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم ، في ذلك الإضلال ، أنه إرشاد إلى الحقّ . ويحتمل أن يكون المراد بالضلال الأول الضلال عن الدين ، وبالضلال الثاني الضلال عن طريق الجنة . انتهى . وهذه الوجوه - مع ما أسلفناه عن المهايميّ - كلّها مما يصح إرادتها من الآية لتصادقها جميعاً عليهم . الثالث : دلت الآية على أن ما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل - مع مخالفتها للعقول ومزاحمتها للأصول - لا مستند لها ولا معول لهم فيها غير التقليد لأسلافهم الضالّين ، الذين أحدثوا القول بالتثليث بعد نحو ثلاثمائة سنة من رفع المسيح عليه السلام . وقرروه في تعاليمهم بعد جدال واضطراب . وتمسّكوا في ذلك ، بظواهر الألفاظ التي لا يحيطون بها علماً ، مما لا أصل له في شرع الإنجيل ، ولا مأخوذ من قول المسيح ولا من أقوال حواريّيه . وهو مع ذلك مضطرب متناقض متهافت ، يكذب بعضه بعضاً ، ويعارضه ويناقضه ، كما تبيّن من الكتب المصنفة في الردّ عليهم . الرابع : جاء في ( تنوير المقباس ) : إن المراد بـ ( أهل الكتاب ) هنا : نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبقوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ } العاقب والسيد . والأول - كما قال ابن إسحاق - كان أمير القوم وذا رأيهم . والثاني صاحب رحلهم ومجتمعهم . والأظهر أن المعنيّ بـ ( أهل الكتاب ) عموم النصارى . والمذكورون يدخلون فيه دخولاً أوليّاً . الخامس : ذكر كثير من المفسّرين : أن المراد بـ ( أهل الكتاب ) هنا : اليهود والنصارى . وأن كليهما غلا في عيسى عليه السلام : أما غلوّ اليهود فالتقصير في حقه حتى نسبوه إلى غير رِشْدة . وأما غلوّ النصارى فمعلوم . وأن الخطاب في قوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ } لليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم . نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضلالة بأهوائهم . انتهى . وظاهر أنّ ما نسب للفريقين - من الغلوّ والابتداع - مسلّم . بيد أن الأقرب للسباق الداحض لشبهات النصارى ، أن تكون هذه الآية فيهم زجراً لهم عمّا سلكوه ، إثر إبطاله بالبراهين الدامغة . على أن الغلوّ ألصق بالنصارى منه باليهود ، كما لا يخفى . والله أعلم . ثم أخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل فيما أنزله على داود وعيسى عليهما السلام ، بسبب عصيانهم وما عدّد من كبائرهم ؛ فقال سبحانه : { لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ … } .