Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 88-88)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً } أي : كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله . فيكون ( حَلالاً ) مفعول ( كُلُوا ) و ( مِمَّا ) حال منه ، أو متعلقة بـ ( كُلُوا ) ، أو هو المفعول و ( حَلالاً ) حال من ( مَا ) أو من عائده المحذوف ، أو صفة لمصدر محذوف ، أي : أكْلاً حلالا . وقوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } تأكيد للتوصية بما أمر به . وزاده تأكيداً بقوله : { ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } لأن الإيمان به يوجب التقوى ، في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه . قال المهايميّ : مقتضى إيمانكم ألا تغيروا شيئاً من أحكام دينكم ، وألا تعارضوا في أحكامه ولو بكراهة من أنفسكم ، وأن تتقوه في وضع قواعد تخالف قواعد الشرع ، بل غاية ما يجوز أخذ معان من علم الشريعة مؤكدة لمقتضاه . تنبيهات الأول : فيما روي في سبب نزولها : أخرج الترمذيّ عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمتُ عليّ اللحم . فأنزل الله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ … } [ المائدة : 87 ] الآية . وروى ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : " نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، قالوا : نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان . فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم . فأرسل إليهم ، فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم . فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام وأنكح النساء . فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني " وروى ابن مردويه نحوه . وفي ( الصحيحين ) من حديث عائشة رضي الله عنها ؛ " أنّ ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم عن عمله في السرّ ؟ فقال بعضهم : لا آكل اللحم . وقال بعضهم : لا أتزوج النساء . وقال بعضهم : لا أنام على فراش . فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : " ما بال أقوامٍ يقول أحدهم كذا وكذا ؟ لكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء . فمن رغب عن سنّتي فليس مني " " . وروى ابن أبي حاتم ؛ أن عبد الله بن مسعود جاءه معقل بن مقرن فقال : إني حرمت فراشي ، فتلا عليه هذه الآية . وأخرج أيضاً عن مسروق قال : كنا عند عبد الله بن مسعود . فجيء بضرعٍ فتنحّى رجل . فقال عبد الله : ادن . فقال : إني حرمت أن آكله . فقال عبد الله : ادن فاطعَم وكفّر عن يمينك . وتلا هذه الآية . ورواه الحاكم أيضاً . الثاني : قال بعض الزيدية : ثمرة الآية : النهي عن تحريم الطيبات من الحلال . وذكر الحاكم : أن هذا النهي يحتمل وجوهاً لا مانع من الحمل على جميعها : أحدها : لا تعتقدوا التحريم . ومنها : لا تحرّموا على غيركم بالفتوى والحكم . ومنها : لا تجروه مجرى المحرمات في شدة الاجتناب . ومنها : لا تلتزموا تحريمه بنذرٍ أو غيره . وقال القاضي : لا تحرموا الحلال بفعل يصدر منكم ، كالبياعات الربوية وخلط الحلال بالمغصوب والطاهر بالنجس . ثم قال : ويتعلق بهذا أمران : الأول : إذا حرم الحلال ، هل يجب عليه الحنث والرجوع ؟ قلنا : ظاهر الآية يدل على ذلك ، ويلزم مع ذلك التوبة . الأمر الثاني : هل يلزمه في ذلك كفارة ؟ قلنا : هذه الآية قد يستدل بها على اللزوم ؛ لأن النهي يقتضي فساد المنهيّ عنه . وهذه المَسألة فيها خلاف بين العلماء . انتهى . وقال ابن كثير : ذهب الشافعيّ إلى أنه من حرّم مأكلاً أو ملبساً أو شيئاً ، ما عدا النساء ، أنّه لا يحرم عليه ، ولا كفارة عليه أيضاً . لإطلاق هذه الآية . ولأن الذي حرم اللحم على نفسه - كما في الحديث المتقدم - لم يأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم بكفارة . وذهب آخرون - منهم الإمام أحمد - إلى أنّ من حرم شيئاً - مما ذكر - فإنه يجب عليه كفارة يمين ، كما إذا التزم تركه باليمين . فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاماً له بما التزمه ، كما أفتى بذلك ابن عباس ، وكما في قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التحريم : 1 ] ، ثم قال : { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ … } [ التحريم : 2 ] … الآية ، وكذلك هنا . لما ذكر هذا الحكم عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين ، فدلّ على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير . والله أعلم . وفي ( زاد المعاد ) لابن القيّم فصل مهمّ في حكم من حرم أَمَتَهُ أو زوجته أو متاعه . تنبغي مراجعته . الثالث : هذه الآية أصل في ترك التنطع والتشدّد في التعبدّ - كذا في ( الإكليل ) . قال ابن جرير : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء ، مِمَّا أحلّ الله لعباده المؤمنين ، على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح ؛ ولذلك ردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم التبتّل على عثمان بن مظعون . فثبت أنه لا فضل في ترك شيءٍ مما أحلّه الله لعباده . وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب الله إليه عباده ، وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنّه لأمته ، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون . إذْ كان خير الهدى هدى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم … فإذا كان ذلك كذلك تبيّن خطأ من آثَر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان ، إذا قدر على لباس ذلك من حله . وآثَرَ أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء . . قال : فإن ظن ظانّ أن الفضل في غير الذي قلنا - في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل منهما من القيمة إلى أهل الحاجة - فقد ظنّ خطأ . وذلك أن الأوْلى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربّها ، ولا شيء أضرَ على الجسم من المطاعم الرديئة . لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته … انتهى . وللرازيّ هنا مبحث جيّد في حكمة هذا النهي ، مؤيد لما ذكر . فليراجع فإنه نفيس . وقد أخرج الترمذيّ عن عائشة قالت : " كان رسول الله يحب الحلواء والعسل . وله عن أبي هريرة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحمٍ فرُفِع إليه الذراع - وكانت تعجبه - فنهش منها . قالت عائشة : ما كان الذراع أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكن كان لا يجد اللحم إلا غبّاً ، وكان يعجل إليه الذراع لأنه أعجلها نضجاً " أخرجه الترمذيّ . وحكى الزمخشري عن الحسن أنه دعي إلى طعامٍ ومعه فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ وأصحابه . فقعدوا على المائدة - وعليها الألوان من الدجاج والفالوذ وغير ذلك - فاعتزل فرقد ناحية ، فسأل الحسنُ : أهو صائم ؟ قالوا : لا ولكنه يكره هذه الألوان ، فأقبل الحسن عليه وقال : يا فريقد ! أترى لعاب النحل ، بلباب البر ، بخالص السمن ، يعيبه مسلم ؟ وعنه : أنه قيل له : فلان لا يأكل الفالوذ ويقول : لا أؤدي شكره قال : أفيشرب الماء البارد ؟ قالوا : نعم ، قال : إنه جاهل . إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته في الفالوذ . وعنه : أن الله تعالى أدب عباده فأحسن أدبهم . قال الله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } [ الطلاق : 7 ] . ما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا … ولا عذر قوماً زواها عنهم فعصوه . الرابع : قال الرازي : لم يقل تعالى : كُلُوا مَا رَزَقَكُمْ ، ولكن قال : { مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } وكلمة : ( مِنْ ) للتبعيض . فكأنه قال : اقتصروا في الأكل على البعض واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات ، لأنه إرشاد إلى ترك الإسراف كما قال : " ولا تُسْرِفُوا " .