Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 89-89)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ } تقدم الكلام على اللغو في اليمين في ( سورة البقرة ) وإنه ما يسبق إليه اللسان بلا قصد الحلف ، كقول الإنسان : لا ، والله ! وبلى والله ! والمراد بالمؤاخذة : مؤاخذة الإثم والتكفير ، أي : فلا إثم في اللغو ولا كفارة { وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ } أي : بتعقيدكم الأَيْمَانَ وتوثيقها عليه بأن حلفتم عن قصدٍ منكم ، أي : إذا حنثتم . أو بنكث ما عقدتم ، فحذف للعلم به . وقرئ بالتخفيف ، وقرئ ( عاقدتم ) بمعنى : عقدتم { فَكَفَّارَتُهُ } أي : فكفارة نكثه ، أي : الخصلة الماحية لإثمه : { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } يعني : محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي : لا من أجوده فضلا عما تخصونه بأنفسكم . ولا من أردأ ما تطعمونهم فضلا عن الذي تعطونه السائل { أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي : عتقها { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } أي : شيئاً مما ذكر { فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } كفارته { ذٰلِكَ } أي : المذكور { كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } أي : التي اجترأتم بها على الله تعالى { إِذَا حَلَفْتُمْ } أي : وحنثتم { وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ } أي : عن الإكثار منها - أو عن الحنث - إذا لم يكن ما حلفتم عليه خيراً ، لئلا يذهب تعظيم اسم الله عن قلوبكم { كَذٰلِكَ } أي : مثل هذا البيان الكامل { يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } أي : أعلام شرائعه { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج . قال المهايميّ : أي : تشكرون نعمه بصرفها إلى ما خلقت له ، ومن جملتها صرف اللسان ، الذي خلق لذكر الله وتعظيمه ، إلى ذلك . فإذا فات صرف بعض ما ملكه إلى بعض ما يجبره ليقوم مقام الشكر باللسان ، إذ به يتم تعظيمه . فإذا لم يجد كسر هوى النفس من أجله فهو أيضاً من تعظيمه . فافهم . وفي هذه الآية مباحث الأول : معنى : ( أو ) التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث . فإذا لم يجدا انتقل إلى الصوم . فأما الإطعام فليس فيه تحديد بقدر . لا في وجبة ولا وجبتين ، ولا في قدر من الكيل . ولذا روي عن الصحابة والتابعين فيه وجوه . جميعها مما يصدق عليه مسماه . فبأيها أخذ أجزأه . فمنها ما رواه ابن أبي حاتم عن عليّ رضي الله عنه قال : يغديهم ويعشيهم . كأنه ذهب - رضي الله عنه - إلى المراد بالإطعام الكامل - أعني قوت اليوم وهو وجبتان - وإلا فالإطعام يصدق على الوجبة الواحدة . ولذا قال الحسن ومحمد بن الحنفية : يكفيه إطعامهم أكلة واحدة خبزاً ولحماً . زاد الحسن : فإن لم يجد فخبزاً وسمناً ولبناً ، فإن لم يجد فخبزاً وزيتاً وخلا حتى يشبعوا . وعن عمر وعلي أيضاً وعائشة وثلّة من التابعين : يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر أو نحوهما . وعن ابن عباس : لكل مسكين مدّ من بُر ومعه إدامه . وفي ( فتح القدير ) من كتب الحنفية : يجوز أن يغديهم ويعشيهم بخبز . إلا أنه إن كان بُرّاً لا يشترط الإدام ، وإن كان غيره فبإدام . وحكي عن الهادي : اشتراط الأكل لإشعار ( الإطعام ) بذلك . والأكثرون : أن الأكل غير شرط ؛ لأنه ينطلق لفظ ( الإطعام ) على التمليك . الثاني : إطلاق ( المساكين ) يشمل المؤمن والكافر الذميّ والفاسق . فبعضهم أخذ بعموم ذلك . ومذهب الشافعية والزيدية : خروج الكافر بالقياس على منع صرف الزكاة إليه ، وأما الفاسق فيجوز الصرف إليه مهما لم يكن في ذلك إعانة له على المنكر . ولم يجوزه الهادي . وظاهر الآية اشتراط العدد من المساكين . وقول بعضهم : إن المراد إطعام طعام يكفي العشرة ، مفرعاً عليه جواز إطعام مسكين واحد عشرة أيام - عدول عن الظاهر ، لا يثبت إلا بنص . الثالث : لم يبين في الآية حدّ الكسوة وصفتها ؛ فالواجب حينئذ الحمل على ما ينطلق عليها اسمها . قال الشافعيّ ، رحمه الله : لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة - من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة - أجزأه ذلك . وقال مالك وأحمد بن حنبل : لا بد أن يدفع إلى كلّ واحد منهم من الكسوة ما يصحّ أن يصلي فيه ، إن كان رجلاً أو امرأة ، كل بحسبه . وقال العوفيّ عن ابن عباس : عباءة لكل مسكين أو شملة . وقال مجاهد : أدناه ثوب وأعلاه ما شئت . وعن ابن المسيّب : عمامة يلفّ بها رأسه ، وعباءة يلتحف بها . وعن الحسن وابن سيرين : ثوبان ثوبان . وروى ابن مردويه عن عائشة " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال : عباءة لكلّ مسكين " قال ابن كثير : حديث غريب . أقول : لا يخفى الاحتياط والأخذ بالأكل والأفضل في الإطعام والكسوة . الرابع : قال الرازيّ : المرادُ بِـ ( الرقبة ) الجملة . قيل : الأصل في هذا المجاز أنّ الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل . فإذا أطلق حلّ ذَلك الحبل . فسمّي ( الإطلاق من الرقبة ) فكّ الرقبة . ثم جرى ذلك على العتق . وقد أخذ بإطلاقها أبو حنيفة فقال : تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة . وقال الشافعيّ وآخرون : لا بدّ أن تكون مؤمنة . وأخذ تقييدها من كفارة القتل لاتحاد الموجب ، وإن اختلف السبب . ومن حديث معاوية بن الحكم السلميّ - الذي هو في ( موطأ مالك ) و ( مسند الشافعيّ ) و ( صحيح مسلم ) - أنه ذكر أنّه عليه عتق رقبة . " وجاء معه بجارية سوداء . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين الله ؟ " قالت : في السماء . قال : " من أنا ؟ " قالت : أنت رسول الله . قال : " أعتقها فإنها مؤمنة … " الحديث بطوله . قال الشعرانيّ ، قدس سره ، في ( الميزان ) : قال العلماء : عدم اعتبار الإيمان في الرقبة مشكل ؛ لأن العتق ثمرته تخليص رقبة لعبادة الله عزّ وجلّ . فإذا أعتق رقبة كافرة فإنما خلّصها لعبادة إبليس . وأيضاً فإن العتق قربة ، ولا يحسن التقرب إلى الله تعالى بكافر . انتهى . الخامس : للعلماء في حدّ الإعسار الذي يبيح الانتقال إلى الصوم أقوال . وظاهر الآية هو ألا يملك قدر إحدى الكفارات الثلاث - من الإطعام أو الكسوة أو العتق - فإن وجد قدر إحداها كان ذلك مانعاً من الصوم ، اللهمّ إذا فضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك . وقد روى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن أنهما قالا : من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام ، وإلا صام . السادس : إطلاق قوله تعالى : { فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } صادق على المجموعة والمفرّقة . كما في قضاء رمضان . لقوله : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 - 185 ] . ومن أوجب التتابع استدل بقراءة أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود أنهما كانا يقرءان : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وقراءتهما لا تتخلف عن روايتهما . قال الأعمش : كان أصحاب ابن مسعود يقرؤونها كذلك . قال ابن كثير : وهذه ، إذا لم يثبت كونها قرآناً متواتراً ، فلا أقلّ أن يكون خبر واحد أو تفسيراً من الصحابة . وهو في حكم المرفوع . وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال : " لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة : يا رسول الله ! نحن بالخيار ؟ قال : " أنت بالخيار . إن شئت أعتقت . وإن شئت كسوت . وإن شئت أطعمت . فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات " قال ابن كثير : وهذا حديث غريب جدّاً . ونقل بعض الزيدية ، روايةً عن ابن جبير ، أنه كان يصلي تارةً بقراءة ابن مسعود وتارةً بقراءة زيد . السابع : قال الناصر في ( الانتصاف ) : في هذه الآية - يعني قوله تعالى : { ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } - وجهٌ لطيفُ المأخذ في الدلالة على صحة وقوع الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث ، وهو المشهور من مذهب مالك . وبيان الاستدلال بها أنه جعل ما بعد الحلف ظرفاً لوقوع الكفارة المعتبرة شرعاً . حيث أضاف ( إذا ) إلى مجرد الحلف ؛ وليس في الآية إيجاب الكفارة حتى يقال : قد اتفق على أنها إنما تجب بالحنث . فتعين تقديره مضافاً إلى الحلف ، بل إنما نطقت بشرعية الكفارة ووقوعها على وجه الاعتبار . إذْ لا يعطي قوله : { ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } إيجاباً ، إنما يعطي صحةً واعتباراً . والله أعلم . وهذا انتصار على منع التكفير قبل الحنث مطلقاً ، وإن كانت اليمين على برّ . والأقوال الثلاثة في مذهب مالك ، إلا أن القول المنْصُور هو المشهور . انتهى . وقال الرازي : احتجّ الشافعيّ بهذه الآية على أن التكفير قبل الحنث جائز . لأنها دلت على أن كل واحد من الثلاثة كفارة لليمين عند وجود الحلف . فإن أدّاها بعد الحلف ، قبل الحنث ، فقد أدّى الكفارة . وقوله تعالى : { إِذَا حَلَفْتُمْ } فيه دقيقة . وهي التنبيه على أن تقديم الكفارة قبل اليمين لا يجوز . انتهى . وفي ( الصحيحين ) من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيراً منها ، فكفّر عن يمينك وَأْتِ الذي هو خير " وعند أبي داود : " فكفّر عن يمينك ثم أتِ الذي هو خير " . الثامن : قال السيوطيّ في ( الإكليل ) : في قوله تعالى : { وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ } استحباب ترك الحنث إلا إذا كان خيراً ، أي : لما تقدم من حديث ابن سمرة ، وهذا على أحد وجهين في الآية . والآخر النهي عن الإكثار من الحلف كما سبق . قال كثيّر : @ قليل الأَلايَا حافظٌ ليمينه وإن سَبَقَتْ منه الألِيَّةُ بَرَّت ! @@ التاسع : حكمة تقديم الإطعام على العتق - مع أنه أفضل - من وجوه : أحدها : التنبيه من أول الأمر على أنّ هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب . وإلا لَبُدئ بالأغلظ . ثانيها : كون الطعام أسهل لأنه أعمّ وجوداً ، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف . وثالثها : كون الإطعام أفضل ؛ لأن الحرّ الفقير قد لا يجد الطعام ، ولا يكون هناك من يعطيه الطعام ، فيقع في الضرّ . أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته ، أفاده الرازيّ . العاشر : سرّ إطعام العشرة ، أنه بمنزلة الإمساك عن الطعام عشرة أيام العدد الكامل ، الكاسرة للنفس المجترئة على الله تعالى . وسرّ الكسوة : كونه يجزي بستر العورة سرّ المعصية . وسرّ التحرير فكّ رقبة عن الإثم ، وسرّ صوم الثلاثة ، أنّ الصيام لما كان ضيراً بنفسه اكتفى فيه بأقلّ الجمع . أفاده المهايميّ ، قدس سره . الحادي عشر : قال شمس الدين ابن القيّم في ( زاد المعاد ) : " كان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارةً ، ويكفّرها تارة ، ويمضي فيها تارة . والاستثناء يمنع عقد اليمين . والكفارة تحلّها بعد عقدها . ولهذا سمّاها الله ( تَحِلَّة ) . وحلف صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثمانين موضعاً . وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع : فقال تعالى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ } [ يونس : 53 ] وقال تعالى : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [ سبأ : 3 ] وقال تعالى : { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } [ التغابن : 7 ] . وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذكر أبا بكر بن داود الظاهريّ ولا يسميه بالفقيه . فتحاكم إليه يوماً هو وخصم له . فتوجهت اليمين على أبي بكر ابن داود . فتهيأ للحلف . فقال : له القاضي إسماعيل : وتحلف ومثلك يحلف يا أبا بكر ؟ فقال : وما يمنعني عن الحلف ؟ وقد أمر الله تعالى نبّيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه . قال : أين ذلك ؟ فسردها أبو بكر ، فاستحسن ذلك منه جدّاً ، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم … انتهى .