Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 93-93)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ } أي : إثم { فِيمَا طَعِمُوۤاْ } مما حرّم بعد تناولهم { إِذَا مَا ٱتَّقَواْ وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ } . وهنا مسائل الأولى : قال بعض المفسرين : إنْ قيل : لِمَ خصّ المؤمنين بنفي الجناح في الطيبات إذا ما اتقوا ، والكافر كذلك ؟ قال الحاكم : لأنه لا يصحّ نفي الجناح عن الكافر ، وأما المؤمن فيصحّ أن يطلق عليه ، ولأن الكافر سدّ على نفسه طريق معرفة الحلال والحرام . انتهى . وفي ( العناية ) : تعليق نفي الجناح بهذه الأحوال ليس على سبيل اشتراطها ، فإن عدم الجناح في تناول المباح الذي لم يحرم لا يشترط بشرط . بل على سبيل المدح والثناء والدلالة على أنهم بهذه الصفة . قال الزمخشريّ : ومثاله أن يقال لك : هل على زيد فيما فعل جناح ؟ فتقول - وقد علمت أن ذلك أمر مباح : ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم وكان مؤمناً محسناً ؛ تريد : إن زيداً تقيّ مؤمن محسن ، وإنه غير مؤاخذ بما فعل . وقال العلامة أبو السعود : ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة ، لا دخل لها في انتفاء الجناح . وإنما ذكرت في حيز ( إذا ) شهادة باتصاف الذين سئل عن حالهم بها ، ومدحاً لهم بذلك ، وحمداً لأحوالهم . وقد أشير إلى ذلك حيث جعلت تلك الصفات ، تبعاً للاتقاء في كل مرة تمييزاً بينها وبين ما له دخل في الحكم ، فإنّ مساق النظم الكريم بطريق العبارة - وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذكر من المنعوت فيما سيأتي بقضية كلمة ( إذا ما ) - لكنه قد أخرج مخرج الجواب عن حال الماضين لإثبات الحكم في حقهم في ضمن التشريع الكليّ على الوجه البرهانيّ بطريق دلالة النص بناءً على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها ، فكأنه قيل : ليس عليهم جناح فيما طعموا إذا كانوا في طاعته تعالى . مع مَا لَهم من الصفات الحميدة - بحيث كلما أمروا بشيءٍ تلقوه بالامتثال - وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمهما إذ ذاك . ولو حرّما في عصرهم ، لاتقوهما بالمرة . وقال الطيبيّ : المعنى : أنه ليس المطلوب من المؤمنين الزهادة عن المستلذات وتحريم الطيبات . وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مراتب الإخلاص واليقين ومعارج القدس والكمال . وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك ، وعلى الإيمان بما يجب الإيمان به ، وعلى الأعمال الصالحة لتحصيل الاستقامة التامة التي يتمكن بها إلى الترقي إلى مرتبة المشاهدة ومعارج " أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّكَ تَرَاهُ " وهو المعنيّ بقوله تعالى : { وَّأَحْسَنُواْ … } إلخ وبه ينتهي للزلفى عند الله ومحبته . والله يحب المحسنين . قال الخفاجيّ : وهذا دفع للتكرير وأنه ليس لمجرد التأكيد ، لأنه يجوز فيه العطف بـ ( ثم ) كما صرح به ابن مالك في قوله تعالى : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 3 - 4 ] . بل به باعتبار تغاير ما علق به مرة بعد أخرى . والله أعلم . الثانية : الإحسان المذكور في الآية : إمّا إحسان العمل ، أو الإحسان إلى الخلق ، أو إحسان المشاهدة المتقدم ؛ ولا مانع من الحمل على الجميع . الثالثة : روي في سبب نزولها عن أنس قال : كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة . فنزل تحريم الخمر . فأمر صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى . فقال أبو طلحة : اخرج فانظر ما هذا الصوت . قال : فخرجت فقلت : هذا منادٍ ينادي : ألا إنّ الخمر قد حرّمت . فقال لي : اذهب فأهرقها . قال : فَجَرَتْ في سكك المدينة . قال ، وكانت خمرهم يومئذٍ الفضيخ . فقال بعض القوم : قتل قوم في وهي بطونهم . قال ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } الآية . رواه البخاريّ في ( التفسير ) . وروى الترمذيّ عن البراء بن عازب قال : مات ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر . فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ قال ، فنزلت : { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ … } الآية . وقال : حسن صحيح . وعن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله ، أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ ( لما نزل تحريم الخمر ) ، فنزلت : { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ … } الآية . أخرجه الترمذيّ وقال : حديث حسن صحيح . وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : حرمت الخمر ثلاث مرات : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر . فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما ؟ فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا … } [ البقرة : 219 ] إلى آخر الآية . فقال الناس : ما حرّم علينا . إنما قال : { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } [ البقرة : 219 ] . وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام ، صلى رجل من المهاجرين . أمّ أصحابه في المغرب . خلط في قراءته فأنزل الله آية أغلظ منها { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } [ النساء : 43 ] . فكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق ، ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ … } [ المائدة : 90 ] - إلى قوله - { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] ؟ فقالوا : انْتَهَيْنَا . رَبَّنَا ! فقال الناس : يا رسول الله ، ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم ، كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، وقد جعله الله رجساً ومن عمل الشيطان ؟ فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } الآية ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لو حرّمت عليهم ، لتركوها كما تركتم " قال ابن كثير : انفرد به أحمد . وعن أبي ميسرة قال : لما نزل تحريم الخمر قال عمر : اللهمّ ! بَيِّنْ لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت الآية التي في البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ … } [ البقرة : 219 ] الآية ، فدُعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ ! بَيِّنَ لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت الآية التي في سورة النساء : { يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ } [ النساء : 43 ] . فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال : حيّ على الصلاة - نادى : لا يقربنّ الصلاة سكران . فدُعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ ! بيّن لنا في الخمر بياناً شافياًَ . فنزلت الآية التي في المائدة . فدُعي عمر فقرئت عليه . فلما بلغ قول الله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] قال عمر : انتهينا ! انتهينا ! رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن . وروى البيهقيّ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار . شربوا فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض . فلما أن صَحَوْا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته فيقول : صنع بي هذا أخي فلان . وكانوا أخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، فيقول : والله ! لو كان بي رؤوفاً رحيما ما صنع بي هذا . حتى وقعت الضغائن في قلوبهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . { إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ … } [ المائدة : 90 ] - إلى قوله - { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] . فقال ناس من المتكلفين : هي رجس وهي في بطن فلان وقد قتل في أُحُد . فأنزل الله تعالى { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ … } الآية . ورواه النسائيّ في ( التفسير ) . وأخرج أبو بكر البزار عن جابر رضي الله عنه قال : اصطبح ناس الخمر من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قتلوا شهداء يوم أحد ، فقالت اليهود : فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم . فنزلت : { لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ … } الآية . قال البزار . إسناده صحيح . قال ابن كثير : هو كما قال . وقد ساق ابن كثير - هنا - أحاديث كثيرة في تحريم الخمر مما رواه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد . فمن شاء فليرجع إليه . ولا يخفى أن تحريمها معلوم من الدين بالضرورة . وقد روى السيوطيّ في ( الجامع الكبير ) عن ابن عساكر بسنده إلى سيف بن عمر عن الربيع وأبي المجالد وأبي عثمان وأبي حارثة قالوا : كتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنهما : إن نفراً من المسلمين أصابوا الشراب . منهم ضرار وأبو جندل . فسألناهم فتأولوا وقالوا : خيرنا فاخترنا . قال : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] ؟ ولم يعزم . فكتب إليه عمر . فذلك بيننا وبينهم { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] يعني : فانتهوا . وجمع الناس فاجتمعوا على أن يضربوا ثمانين جلدة ويضمنوا النفس ، ومن تأول عليها بمثل هذا ، فإن أبي قتل . وقالوا : من تأول على ما فَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، يزجر بالفعل والقتل . فكتب عمر إلى أبي عبيدة : أن ادعهم . فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم . وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين . فبعث إليهم فسألهم على رؤوس الأشهاد فقالوا : حرام . فجلدهم ثمانين . وحدّ القوم ، وندموا على لجاجتهم ، وقال : ليحدثن فيكم - يا أهل الشام ! - حادث ، فحدث الرمادة . ورواه سيف بن عمر أيضاً عن الشعبيّ والحكم بن عتيبة .