Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 50, Ayat: 16-16)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } أي : تحدِّث به نفسه ، وهو ما يخطر بالبال . وقوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } تمثيل للقرب المعنويّ بالصورة الحسية المشاهدة ، وقد جعل ذاك القرب أتم من غاية القرب الصوريّ الذي لا اتصال أشد منه في الأجسام ؛ إذ لا مسافة بين الجزء المتصل به وبينه . قال الشهاب : تجوّز بقرب الذات عن قرب العلم ، لتنزّهه عن القرب المكانيّ ، إما تمثيلاً ، وإما من إطلاق السبب وإرادة المسبب ؛ لأن القرب من الشيء سبب للعلم به وبأحواله في العادة . والمعنى : أنه تعالى أعلم بأحواله ، خفيِّها وظاهرها ، من كل عالم . وقد ضرب المثل في القرب بحبل الوريد ؛ لأن أعضاء المرء وعروقه متصلة على طريق الجزئية ، فهي أشد من اتصال ما اتصل به من الخارج ؛ وخص هذا لأن به حياته ، وهو بحيث يشاهده كل أحد . والحبل : العرق ؛ شبه بواحد الحبال ؛ فبإضافته للبيان أو لامية ، من إضافة العام للخاص . فإن أبقى الحبل على حقيقته ، فبإضافته كلجين الماء . تنبيه تأول ابن كثير الآية على غير ما تقدم ، بجعل { نَحْنُ } كناية عن الملائكة ، وعبارته : يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه . قال : ومن تأوله على العلم ، فإنما فرَّ لئلا يلزم حلول أو اتحاد ، وهما منفيان بالإجماع ، تعالى الله وتقدس ، ولكن اللفظ لا يقتضيه ؛ فإنه يقل ( وأنا أقرب إليه ) ، وإنما قال : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } كما قال في المحتضر : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } [ الواقعة : 85 ] ، يعني : ملائكته . وكما قال تبارك وتعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ، فالملائكة نزلت بالذكر وهو القرآن ، بإذن الله عز وجل . وكذلك الملائكة أقربُ إلى الإنسان من حبل وريده ، بإقدار الله جلَّ وعَلا ، لهم على ذلك . فللملَك لمَّةٌ من الإنسان ، كما أن للشيطان لمَّة ؛ ولذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم . ثم أيد ابن كثير رحمه الله ما ذكره بما ورد في الآية بعدها . والوجه الأول أدق وأقرب ، وفيه من الترهيب وتناهي سعة العلم ، مع التعريف بجلالة المقام الربانيّ ، ما لا يخفى حسنه . وليس تأويل مَنْ تأول بالعلم ، للفرار من الحلول والاتحاد فقط ، بل له ولِما تقدم أولاً ، كما أن إيثار ( نحن ) على ( أنا ) لا يحسم ما نفاه ؛ لاحتمال إرادة التعظيم بـ ( نحن ) كما هو شائع ، فلا يتم له . نعم ! اللفظ الكريم يحتمل ما ذكره بأن يكون ورد ذلك تعظيماً للملك ؛ لأنه بأمره تعالى وبإذنه ، ولكن لا ضرورة تدعو إليه ، مع ما عرف من أن الأصل الحقيقة . وقد عنى رحمه الله بمن فهم الحلول والاتحاد ، مَن قال في تفسير الآية كالقاشانيّ - ما مثاله : وإنما كان أقرب مع عدم المسافة بين الجزء المتصل به وبينه ؛ لأن اتصال الجزء بالشيء يشهد بالبينونة والاثنينية الراجعة للاتحاد الحقيقيّ ، ومعيته وقربه من عبده ليس كذلك ، فإن هويته وحقيقته المندرجة في هويته وتحققه ليست غيره ، بل إن وجوده المخصوص المعين إنما هو بعين حقيقته التي هي الوجود ، من حيث هو وجود ، ولولاه لكان عدماً صرفاً ولا شيئاً محضاً . انتهى كلام القاشانيّ ، ولا يفهم من ذلك حلول ولا اتحاد بالمعنى المتعارف ؛ لأن لهؤلاء اصطلاحاً معروفاً ، وهم أوَّلُ من يتبرأ من الحلول والاتحاد ، كما أوضحت ذلك مع برهان استحالتهما في كتاب ( دلائل التوحيد ) الذي طبع بحمد الله من أمد قريب ، فارجع إليه ، واستغفر لمصنفه . أقول : رأيت ابن كثير بعدُ ، مسبوقاً بما ذكره شيخه الإمام ابن تيمية ، فقد أوضح ذلك رحمه الله في كتابه ( شرح حديث النزول ) : ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلاً ، بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام ، كقوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] فهو سبحانه قريب ممن دعاه ، وكذلك ما في الصحيحين ، عن أبي موسى الأشعريّ ، أنهم كانوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في سفر ، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير ، فقال : " أيها الناس ، اربعَوا على أنفسكم ؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، وإنما تدعون سميعاً قريباً ، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدِكم من عنق راحلته " فقال : إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم ، لم يقل : إنه قريب إلى كل موجود . وكذلك قول صالح عليه السلام : { فَٱسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } [ هود : 61 ] ومعلوم أن قوله : { قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } مقرون بالتوبة والاستغفار . أراد به ، قريب مجيب لاستغفار المستغفرين التائبين إليه ، كما أنه رحيم ودود . وقد قرن القريب بالمجيب ، ومعلوم أنه لا يقال مجيب لكل موجود ، وإنما الإجابة لمن سأله ودعاه ، فكذلك قربه سبحانه وتعالى ، وأسماء الله المطلقة كاسمه السميع والبصير والغفور والشكور والمجيب والقريب ، لا يجب أن تتعلَّق بكل موجود ، بل يتعلق كل اسم بما يناسبه ، واسمه العليم ، لمَّا كان كل شيء يصلح أن يكون معلوماً تعلَّق بكل شيء . وأما قوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } فالمراد به قربه إليه بالملائكة ، وهذا هو المعروف عن المفسرين المتقدمين من السلف ، قالوا : ملك الموت أدنى إليه من أهله ، ولكن لا تبصرون الملائكة وقد قال طائفة { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } بالعلم ، وقال بعضهم : بالعلم والقدر والرؤية . وهذه الأقوال ضعيفة ، فإنه ليس في الكتاب والسنة وصفه بقرب عام من كل موجود ؛ حتى يحتاجوا أن يقولوا : بالعلم والقدرة ، ولكن بعض الناس ، لمَّا ظنوا أنه يوصف بالقرب من كل شيء ، تأولوا ذلك بأنه عالم بكل شيء ؛ قادر على كل شيء ، وكأنهم ظنوا أن لفظ القرب ، مثل لفظ المعية . وقد ثبت عن السلف أنهم قالوا في الآية : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [ الحديد : 4 ] هو معهم بعلمه ، مع علوِّه على عرشه . وقد ذكر ابن عبد البر وغيره ؛ أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين ، لم يخالفهم فيه أحد . ثم قال : ولم يأت في لفظ القرب مثل ذلك أنه قال : هو فوق عرشه ؛ وهو قريب من كل شيء ، بل قال : { إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ الأعراف : 56 ] وقال : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] . وقد روى ابن أبي حاتم بسنده أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! أقريب ربُّنا فنناجيه ، أم بعيدٌ فنناديه ؟ فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي … } الآية . ولا يقال في هذا : قريب بعلمه وقدرته ، فإنه عالم بكل شيء ، قادر على كل شيء ، وهم لم يشكّوا في ذلك ، ولم يسألوا عنه ، وإنما عن قُربِه إلى مَن يدعوه ويناجيه ، فأخبر أنه قريب مجيب . وطائفة من أهل السنة تفسر القُرْب في الآية والحديث بالعلم ؛ لكونه هو المقصود ، فإنه إذا كان يعلم ويسمع دعاء الداعي حصل مقصوده ، وهذا هو الذي اقتضى أن يقول من يقول ، بإنه قريب من كل شيء ، بمعنى العلم والقدرة ، فإن هذا قد قاله بعض السلف ، وكثير من الخلف ، لكن لم يقل أحد منهم إن نفس ذاته قريب من كل موجود ، وهذا المعنى يقرُّ به جميع المسلمين ، من يقول إنه فوق العرش ، ومن يقول إنه ليس فوق العرش . ثم قال : وهؤلاء كلهم مقصودهم أنه ليس المراد أن ذات البارىء جلَّ وعلا قريبة من وريد العبد ، ومن الميت . ولمَّا ظنوا أن المراد قربه وحده دون الملائكة ، فسَّروا ذلك بالعلم والقدرة ، كما في لفظ المعية . ولا حاجة إلى هذا ، فإن المراد بقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } [ الواقعة : 85 ] أي : بملائكتنا ، في الآيتين ، وهذا بخلاف المعية ، فإنه لم يقل : ونحن معه ، بل جعل نفسه هو الذي مع العباد ، وأخبر أنه ينبئهم يوم القيامة بما عملوا ، وهو نفسه الذي خلق السماوات والأرض ، وهو نفسه الذي استوى على العرش ؛ فلا يجعل لفظ مثل لفظ ، مع تفريق القرآن بينهما . ثم قال : وقوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } لا يجوز أن يراد به مجرد العلم ، فإن من كان بالشيء أعلم من غيره ، لا يقال إنه أقرب إليه من غيره ، بمجرد علمه به ، ولا بمجرد قدرته عليه . ثم إنه سبحانه عالم بما يُسَرُّ من القول ، وما يجهر به ، وعالم بأعماله ، فلا معنى لتخصيصه حبل الوريد بمعنى أنه أقرب إلى العبد منه ؛ فإن حبل الوريد قريب إلى القلب ، ليس قريباً إلى قوله الظاهر ، وهو يعلم ظاهر الإنسان وباطنه . قال تعالى : { يَعْلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] ، ومما يدل على أن القرب ليس المراد به العلم ، سياقُ الآية ، فإنه قال : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } فأخبر أنه يعلم وسواس نفسه . ثم قال : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } فأثبت العلم ، وأثبت القرب ، وجعلهما شيئين ، فلا يجعل أحدهما هو الآخر ، وقيد القرب بقوله : { إِذْ يَتَلَقَّى … } الآية . وأما من ظن أن المراد بذلك قرب ذات الرب من حبل الوريد ، وأن ذاته أقرب إلى الميت من أهله ، فهذا في غاية الضعف ؛ وذلك أن الذين يقولون إنه في كل مكان ، وإنه قريب من كل شيء بذاته ، لا يخصون بذلك شيئاً دون شيء ، ولا يمكن مسلماً أن يقول إن الله قريب من الميت دون أهله ، ولا أنه قريب من حبل الوريد دون سائر الأعضاء . وكيف يصح هذا الكلام على أصلهم ، وهو عندهم في جميع بدن الإنسان ، وهو في أهل الميت ، كما هو في الميت ، فكيف يكون { أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } إذا كان معه ومعهم على وجه واحد ؟ وهل يكون أقرب إلى نفسه من نفسه ، وسياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة ، فإنه قال : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى … } الآيتين . فقيَّد القرب بهذا الزمان ، وهو زمان تلقي المتلقيين ، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان ، كما قال : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ … } [ ق : 18 ] الآية . ومعلوم أنه لو كان قرب ذات لم يخص ذلك بهذا الحال ، ولم يكن لذكر القعيدين الرقيب والعتيد معنى مناسب . وكذلك قوله في الآية الأخرى : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـٰكِن لاَّ تُبْصِرُونَ } [ الواقعة : 83 - 85 ] ، فإن هذا إنما يقال إذا كان هناك من يجوِّز أن يبصر في بعض الأحوال ، ولكن نحن لا نبصره ، والرب تعالى في هذه الحال لا يراه الملائكة ، ولا البشر . وأيضاً فإنه قال : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } فأخبر عمن هو أقرب إلى المحتضر من الناس الذين عنده في هذه الحال . وذات الرب سبحانه وتعالى إذا قيل هي في مكان ، أو قيل قريبة من كل موجود ، لا يختص بهذا الزمان والمكان والأحوال ، فلا يكون أقرب إلى شيء من شيء ، ولا يجوز أن يراد قرب الرب الخاص ، كما في قوله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } [ البقرة : 186 ] فإن ذاك إنما هو قربه إلى من دعاه أو عبده ، وهذا المحتضر قد يكون كافراً وفاجراً ، أو مؤمناً ومقرباً ؛ ولهذا قال تعالى : { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } [ الواقعة : 88 - 94 ] . ومعلوم أن مثل هذا المكذب لا يخصُّه الربُّ بقُرب منه ، دون من حوله ، وقد يكون حوله قوم مؤمنون ، وإنما هم الملائكة الذين يحضرون عند المؤمن والكافر ، كما قال تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ } [ النساء : 97 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [ الأنفال : 50 ] وقال : { وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنعام : 93 ] وقال تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام : 61 ] وقال تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [ السجدة : 11 ] ومما يدل على ذلك أنه ذكره بصيغة الجمع فقال : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } وهذا كقوله سبحانه : { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَىٰ وَفِرْعَوْنَ بِٱلْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ القصص : 3 ] وقال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ } [ يوسف : 3 ] وقال : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 17 - 19 ] فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله تعالى في كتابه ، دلَّ على أن المراد أنه سبحانه بجنوده وأعوانه من الملائكة . فإن صيغة ( نحن ) يقولها المتبوع المطاع المعظم الذي له جنود يتبعون أمره ، وليس لأحد جند يطيعونه كطاعة الملائكة ربهم ، وهو خالقهم وربهم ؛ فهو سبحانه العالم بما توسوس به نفسه ، وملائكته تعلم ؛ فكان لفظ ( نحن ) هنا هو المناسب ، وكذلك قوله : { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } فإنه سبحانه يعلم ذلك ، وملائكته يعلمون ذلك ، كما ثبت في الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا هم العبد بحسنة كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشر حسنات ، وإذا هم بسيئة لم تكتب عليه ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة ، وإن تركها لله كتبت له حسنة " فالملك يعلم ما يهم به العبد من حسنة وسيئة ، وليس ذلك من علمهم الغيب الذي اختص الله به . ثم قال : وقوله : { وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] يقتضي أنه سبحانه وجنده الموكلين بذلك ، يعلمون ما توسوس به للعبد نفسه ، كما قال : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ، فهو يسمع ، ومن يشاء من ملائكته . وأما الكتابة ، فرسله يكتبون كما قال ههنا : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] وقال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } [ يس : 12 ] وأخبر بالكتابة ( نحن ) لأن جنده يكتبون بأمره ، وفصَّل في تلك الآية بين السماع والكتابة ؛ لأنه يسمع بنفسه ، وأما كتابة الأعمال فتكون بأمره ، والملائكة يكتبون ، فقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } مثل قوله : { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } [ يس : 12 ] لما كانت ملائكته متقربين إلى العبد بأمره ، كما كانوا كاتبين عمله بأمره ، فإن ذلك قربه من كل أحد بتوسط الملائكة ، كتكليمه عبده بتوسط الرسل ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } [ الشورى : 51 ] ، فهذا تكليمه لجميع عباده بواسطة الرسل ، وذاك قربه إليهم عند الاحتضار ، وعند الأقوال الباطنة في النفس والظاهرة . انتهى كلامه رحمه الله .