Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 53, Ayat: 6-7)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ ذُو مِرَّةٍ } بكسر الميم ، أي : متانة وإحكام في علمه ، لا يمكن تغيّره ونسيانه . والعرب تقول لكل قويّ العقل والرأي : { ذُو مِرَّةٍ } ( من أمررت ) الحبل ، إذا أحكمت فتله . { فَٱسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } قال الزمخشريّ : فاستقام على صورة نفسه الحقيقة ، دون الصورة التي كان يتمثل بها ، كلما هبط بالوحي . وكان ينزل في صورة دحية . فالفاء - كما قال شراحه - سببية ، لأن تشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق أو عاطفة على { عَلَّمَهُ } أي : علمه على غير صورته الأصلية ، ثم استوى على صورته الأصلية . وقيل : ( استوى ) بمعنى ( استولى ) بقوته على ما أمر بمباشرته من الأمر ، حكاه القاضي . قال الشهاب : الأفق : الناحية ، وجمعه آفاق . والمراد الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر ، لا مصطلح أهل الهيئة . انتهى . قال ابن كثير : وقوله تعالى : { فَٱسْتَوَىٰ } يعني : جبريل عليه السلام - قاله الحسن ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } يعني : جبريل استوى في الأفق الأعلى ، قاله عكرمة وغير واحد . قال ابن كثير : وقد قال ابن جرير ههنا قولاً لم أره لغيره ، ولا حكاه هو عن أحد ، وحاصله أنه ذهب إلى أن المعنى فاستوى ، أي : هذا الشديد القوي وصاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم ، بالأفق الأعلى ، أي : استويا جميعاً ، وذلك ليلة الإسراء - كذا قال - ولم يوافقه أحد على ذلك ، ثم شرع يوجه ما قاله من حيث العربية وهو كقوله : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ } [ النمل : 67 ] فعطف بالآباء على المكنيّ في { كُنَّا } من غير إظهار ( نحن ) فكذلك قوله : { فَٱسْتَوَىٰ وَهُوَ } قال : وذكر الفراء عن بعض العرب أنه أنشده : @ أَلَمْ تَر أن النَّبْعَ يَصْلُبُ عُودُهُ ولا يستوي والخِرْوعُ الْمُتَقَصِّفُ @@ وهذا الذي قاله من جهة العربية متجه ، ولكن لا يساعده المعنى على ذلك ، فإن هذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء ، بل قبلها ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ، فهبط عليه جبريل عليه السلام ، وتدلى إليه ، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح ، ثم رآه بعد ذلك نزلة أخرى عند سدرة المنتهى ، يعني ليلة الإسراء ، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة ، بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة ، فأوحى الله إليه صدر سورة ( اقْرأ ) ثم فترة الوحي فترة ذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيها مراراًً ليتردى من رؤوس الجبال ، فكلما همَّ بذلك ناداه جبريل من الهواء : يا محمد ، أنت رسول الله حقّاً ، وأنا جبريل ، فيسكن لذلك جأشه ، وتقر عينه . وكلما طال عليه الأمر ، عاد لمثلها حتى تبدى له جبريل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح في صورته التي خلقه الله عليها ، له ستمائة جناح ، قد سدّ عظم خلقه الأفق ، فاقترب منه ، وأوحى إليه عن الله عز وجل ما أمره به ، فعرف عند ذلك عظمة الملَك الذي جاءه بالرسالة ، وجلالة قدره ، وعلو مكانته عند خالقه الذي بعثه إليه . انتهى . أقول : قد وافق القاشانيّ ابن جرير في تأويل الآية ، وعبارته : { فَٱسْتَوَىٰ } فاستقام على صورته الذاتية ، والنبيّ بالأفق الأعلى ؛ لأنه حين كَوْن النبي بالأفق المبين لا ينزل على صورته ، لاستحالة تشكل الروح المجرد في مقام القلب ، إلا بصورة تناسب الصور المتمثلة في مقامه ؛ ولهذا كان يتمثل بصورة دحية الكلبيّ ، وكان من أحسن الناس صورة ، وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . إذ لو لم يتمثل بصورة يمكن انطباعها في الصدر ، لم يفهم القلب كلامه ، ولم ير صورته . وأما صورته الحقيقية التي جبل عليها فلم تظهر للنبيّ صلى الله عليه وسلم إلا مرتين : عند عروجه إلى الحضرة الأحدية ووصوله بمقام الروح في الترقي ، وعند نزوله عنها ورجوعه إلى المقام عند سدرة المنتهى في التدلي . انتهى . وكذا المهايميّ وافقهما وعبارته : { فَٱسْتَوَىٰ وَهُوَ } أي : صاحبكم عند استواء نفسه ، صار { بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } الروحانيّ . انتهى . وكذا الفخر الرازيّ وعبارته : المشهور أن ( هو ) ضمير جبريل ، وتقديره استوى كما خلقه الله بالأفق الشرقيّ ، فسدّ المشرق لعظمته ، والظاهر أن المراد محمد صلى الله عليه وسلم ، معناه : استوى بمكان ، وهو بالمكان العالي رتبة ومنزلة في رفعة القدر ، لا حقيقة في الحصول في المكان . فإن قيل : كيف يجوز هذا والله تعالى يقول : { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } [ التكوير : 23 ] ، إشارة إلى أنه رأى جبريل بالأفق المبين ؟ نقول : وفي ذلك الموضع أيضاً نقول كما قلنا ههنا : أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق المبين . يقول القائل : رأيت الهلال ، فيقال له : أين رأيته ؟ فيقول : فوق السطح ، أي : إن الرائي فوق السطح ، لا المرئيّ . و { ٱلْمُبِينِ } هو الفارق ، من ( أبان ) أي : فرق . أي : هو بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ، ومنزلة الملك ، فإنه صلى الله عليه وسلم انتهى ، وبلغ الغاية ، وصار نبيّاً ، كما صار بعض الأنبياء نبيّاً يأتيه الوحي في نومه ، وعلى هيئته ، وهو واصل إلى الأفق الأعلى ، والأفق : الفارق بين المنزلتين . فإن قيل : ما بعده يدل خلاف ما تذهب إليه ، فإن قوله : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } [ النجم : 8 ] إلى غير ذلك ، وقوله تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } [ النجم : 13 - 14 ] كل ذلك يدل على خلاف ما ذكرته ؟ نقول : سنبيّن موافقته لما ذكرنا إن شاء الله تعالى في مواضعه ، عند ذكر تفسيره . فإن قيل : الأحاديث تدل على خلاف ما ذكرته ، حيث ورد في الأخبار أن جبريل عليه السلام أرى النبيّ صلى الله عليه وسلم نفسه على صورته ، فسدّ المشرق ؟ فنقول : نحن ما قلنا : إنه لم يكن وليس في الحديث أن الله تعالى أراد بهذه الآية تلك الحكاية ، حتى يلزم محالفة الحديث ، وإنما نقول : إن جبريل أرى النبيَّ صلى الله عليه وسلم نفسه مرتين ، وبسط جناحيه ، وقد ستر الجانب الشرقي وسدَّه ، ولكن الآية لم ترد لبيان ذلك . انتهى كلام الرازيّ . وفي القرطبيّ حكاية أقوال أخر ، وعبارته : { فَٱسْتَوَىٰ } أي : ارتفع جبريل ، وعلا إلى مكانة في السماء ، بعد أن علّم محمداً صلى الله عليه وسلم - قاله سعيد بن المسيّب وابن جبير . وقيل : { فَٱسْتَوَىٰ } أي : قام وظهر في صورته التي خُلِق عليها . وقول ثالث : أن معنى : { فَٱسْتَوَىٰ } أي : استوى القرآن في صدره . وفيه على هذا وجهان : أحدهما : في صدر جبريل حين نزل به عليه السلام . الثاني : في صدر محمد صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه . وقول رابع : أن معنى { فَٱسْتَوَىٰ } فاعتدل ، يعني : محمداً في قوّته ، والثاني في رسالته - ذكره الماورديّ . وعلى الأول يكون تمام الكلام { ذُو مِرَّةٍ } ، وعلى الثاني { شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } . وقول خامس : أن معناه فارتفع ، وفيه على هذا وجهان : أحدهما : أنه جبريل ارتفع إلى مكانه ، على ما ذكرناه آنفاً . الثاني : أنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج . وقول سادس : { فَٱسْتَوَىٰ } يعني : الله عز وجل ، أي : استوى على العرش - على قول الحسين . انتهى . هذا ما وقفنا عليه الآن من الأقوال في الآية ، وسيأتي في أول التنبيهات إيضاح ما اخترناه منها ، وإنما أخّرنا ذكره لارتباطه بالآيات الآتية .