Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 55, Ayat: 33-36)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : تجوزوا أطراف السماوات والأرض فتعجزوا ربكم ، أي بخروجكم عن قهره ومحل سلطانه ومملكته حتى لا يقدر عليكم { فَٱنفُذُواْ } أي : فجوزوا واخرجوا { لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } أي : بقوة وقهر وغلبة ، وأنَّى لكم ذلك ؟ ونحوه { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } [ العنكبوت : 22 ] ويقال : معنى الآية : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموه ، ولن تعلموه إلا بسلطان ، يعني : البينة من الله تعالى . والأول أظهر ؛ لأنه لما ذكر في الآية الأولى أنه لا محالة مُجاز للعباد ، عقبه بقوله : { إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ … } إلخ ، لبيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه ، إذا أرادوه . { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال ابن جرير : أي : من التسوية بين جميعكم ، بأن جميعكم لا يقدرون على خلاف أمر أراده بكم . وقال القاضي : أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة . { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ } أي : من لهب { مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ } أي : صُفر مذاب يصبّ على رؤوسهم { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } أي : تمتنعان وتنقذان منه . يعني : إذا أصررتما على الكفر والطغيان وعصيان الرسول ، فما أمامكم في الآخرة إلا هذا العذاب الأليم . وقد ذهب ابن كثير إلى أن هذه الآية وما قبلها ، مما يخاطب به الكفرة في الآخرة ، وعبارته : هذا في مقام الحشر ، والملائكة محدقة بالخلائق ، فلا يقدر أحد على الذهاب إلا بسلطان ، أي بأمر الله { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ * كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } [ القيامة : 10 - 12 ] ، وقال تعالى : { وَٱلَّذِينَ كَسَبُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ ٱلْلَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ يونس : 27 ] ولهذا قال تعالى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } والمعنى : لو ذهبتم هاربين يوم القيامة ، لردتكم الملائكة والزبانية بإرسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا . انتهى . ثم رأيت قد سبقه إلى ذلك ، الإمامُ ابن القيّم رحمه الله ، فقد قال رحمه الله في أواخر كتابه ( طريق الهجرتين ) في تفسير هذه الآية ، بعد أن ذكر نحو ما قدمنا من الوجهين في تأويل قوله تعالى : { إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ } ما مثاله : وفي الآية تقرير آخر ، وهو أن يكون هذا الخطاب في الآخرة ، إذا أحاطت الملائكة بأقطار الأرض ، وأحاط سرادق النار بالآفاق ، فهرب الخلائق ، فلا يجدون مهرباً ولا منفذاً ، كما قال تعالى : { وَيٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } [ غافر : 32 - 33 ] ، قال مجاهد : فارّين غير معجزين . وقال الضحاك : إذا سمعوا زفير النار نَدُّوا هَرباً ، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قوله : { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } [ الحاقة : 17 ] ، وقوله : { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ } [ الرحمن : 33 ] الآية . وهذا القول أظهر - والله أعلم - فإذا بدت الخلائق ولوا مدبرين ، يقال لهم : { إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : إن قدرتم أن تتجاوزوا أقطار السماوات والأرض فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر على عذابكم ، فافعلوا . وكأن ما قبل هذه الآية وما بعدها يدل على هذا القول ، فإن قبلها { سَنَفْرُغُ لَكُمْ … } [ الرحمن : 31 ] الآية ، وهذا في الآخرة ، وبعدها { فَإِذَا ٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ … } [ الرحمن : 37 ] الآية ، وهذا في الآخرة ، وأيضاً فإن هذا خطاب لجميع الإنس والجن فإنه أتى به بصيغة العموم ، وهي قوله : { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ } فلا بد أن يشترك الكل في سماع هذا الخطاب ومضمونه ، وهذا إنما يكون إذا جمعهم الله في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر . وقال تعالى : { إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ } ولم يقل : إن استطعتما ، لإرادة الجماعة ، كما في آية أخرى : { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } [ الأنعام : 130 ] ، وقال : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا } [ الرحمن : 35 ] ولم يقل : يرسل عليكم ، لإرادة الصنفين ، أي : لا يختص به صنف عن صنف ، بل يرسل ذلك على الصنفين معاً . وهذا ، وإن كان مراداً بقوله : { إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ } فخطاب الجماعة في ذلك بلفظ الجمع أحسن ، أي : من استطاع منكم . وحسَّنَ الخطاب بالتثنية في قوله : { عَلَيْكُمَا } أمر آخر ، وهو موافقة رؤوس الآي ، فاتصلت التثنية بالتثنية . وفيه التسوية بين الصنفين في العذاب بالتنصيص عليهما ، فلا يحتمل اللفظ إرادة أحدهما - والله أعلم - انتهى كلام ابن القيّم . وأنت ترى أن لا قرينة تخصص الآية بالقيامة ، وما استشهد به من الآيات لا يؤيده ، لأنه ليس من نظائره . فالوجه ما ذكرناه . { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال القاضي : فإن التهديد لطف ، والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار ، من عداد الآلاء .