Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 75-79)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } أي : منازل الكواكب ومراكزها البهيجة في السماء . أو بمساقطها ومغاربها ، وهي أوقات غيبتها عن الحواس . أو بمساقطها وانتشارها يوم القيامة . و ( لا ) في ( لا أقسم ) إما مزيدة للتأكيد ، وتقوية الكلام ، وقد عهدت زيادتها في كلامهم ، كما أوضحه في ( فقه اللغة ) . وإما ( لا أقسم ) بتمامها صيغة من صيغ القسم ، على ما ارتضاه بعض المحققين . { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } أي : لما في القسم من الدلالة على عظيم القدرة ، وكمال الحكمة { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } أي : له كرم وشرف وقدر رفيع ، لاشتماله على أمهات الحكم والأحكام ، وما تنطبق عليه حاجات الأنام على الدوام { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } أي : محفوظ مصون ، لا يتغير ولا يتبدل . أو محفوظ عن ترداد الأيدي عليه ، كغيره من الكتب ، بل هو كالدر المصون إلا عن أهله ، كما قال : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } . اعلم أن في الآية أقوالاً عديدة ، مرجعها إلى أن المس مجاز أو حقيقة ، وأن الضمير عائد للكتاب بمعنى الوحي المتلقَّي ، أو المصحف ، وأن { ٱلْمُطَهَّرُونَ } هم الملائكة ، أو المتقون ، أو المتطهرون من الأحداث والأخباث . وذلك لاتساع ألفاظها الكريمة ، لما ذكر بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز . وهاك ملخص ذلك ولبابه : فأما أكثر المفسرين ، فعلى أنه عنى بالآية : الملائكة . فنفي مسّه كناية عن لازمه ، وهو نفي الاطلاع عليه ، وعلى ما فيه . والمراد بـ ( المطهرين ) حينئذ : إما جنس الملائكة ، أو من نزل به وهو روح القدس . وطهارتهم : نقاء ذواتهم عن كدورات الأجسام ، ودنس الهيولي ، أو عن المخالفة والعصيان . وقال ابن زيد : زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين ، فأخبر الله تعالى أنه : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } كما قال : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [ الشعراء : 210 - 212 ] انتهى . قال ابن كثير : وهذا القول قول جيد . وقال الفرّاء : لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به . ومثله قول محمد بن الفضل : لا يقرؤه إلا الموحدين . فنفي مسّه كناية عن ترك تقبّله ، والاهتداء به ، والعناية به ، فإن مسّ الشيء سبب حب الملموس ، وأثر الإقبال عليه ، ورائد الانصياع له . والطهارة حينئذ : هي نظافة القلب من دنس الشرك والنفاق ، والملكات الرديئة ، والغرائز الفاسدة . وقال آخرون : عنى بـ ( المطهرين ) : المتطهرون من الجنابة والحدث . قالوا : ولفظ الآية خبر ، ومعناها النهي ، إشارة إلى أن تلك الصفة طبيعة من طبائعه ، ولازم من لوازمه ، لشرفه وعظم شأنه . قالوا : والمراد بـ ( الكتاب ) : المصحف ، واحتجوا بما رواه الإمام مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ؛ أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو ابن حزم ، ألا يمس القرآن إلا طاهر . وبما روى الدارقطني في قصة إسلام عمر ؛ أن أخته قالت له قبل أن يسلم : إنه رجس و { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } إلا أن فيهما مقالاً بيّنه الحافظ ابن حجر في ( تلخيص الحبير ) وأشار له ابن كثير أيضاً . ومع ذلك فالدلالة ليست قطعية . وقد أوضح ذلك الشوكانيّ في ( نيل الأوطار ) وعبارته : الطاهر : يطلق بالاشتراك على المؤمن - والطاهر من الحدث الأكبر والأصغر - ومن ليس على بدنه نجاسة . ويدل لإطلاقه على الأول قول الله تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة : " المؤمن لا ينجس " وعلى الثاني : { وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَٱطَّهَّرُواْ } [ المائدة : 6 ] وعلى الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين : " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " . وعلى الرابع : الإجماع على أن الشيء الذي ليس عليه نجاسة حسية ولا حكمية يسمى طاهراً . وقد ورد إطلاق ذلك في كثير . فمن أجاز حمل المشترك على جميع معانيه ، حمله عليها هنا . والمسألة مدونة في الأصول ، وفيها مذاهب . والذي يترجح أن المشترك مجمل فيها ، فلا يعمل به حتى يبين . وقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أكبر أن يمس المصحف . وخالف في ذلك داود . استدل المانعون للجنب بقوله تعالى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } وهو لا يتم إلا بعد جعل الضمير راجعاً إلى القرآن ، والظاهر رجوعه إلى الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ؛ لأنه الأقرب . و { ٱلْمُطَهَّرُونَ } : الملائكة . ولو سلم عدم الظهور ، فلا أقل من الاحتمال ، فيمتنع العمل بأحد الأمرين ، ويتوجه الرجوع إلى البراءة الأصلية . ولو سلم رجوعه إلى القرآن على التعيين ، لكانت دلالته على المطلوب ، وهو منع الجنب من مسه ، غير مسلمة ؛ لأن المطهر من ليس بنجس ، والمؤمن ليس بنجس دائماً ، لحديث : " المؤمن لا ينجس " وهو متفق عليه . فلا يصح حمل المطهر على من ليس بجنب أو حائض أو محدث أو متنجس بنجاسة عينية ، بل يتعين حمله على من ليس بمشرك ، كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] لهذا الحديث ، ولحديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدوّ . ولو سلم صدق اسم ( الطاهر ) على من ليس بمحدث حدثاً أكبر أو أصغر . فقد عرفت أن الراجح كون المشترك مجملاً في معانيه ، فلا يعين حتى يبين . وقد دل الدليل ههنا أن المراد به غيره ، لحديث " المؤمن لا ينجس " ولو سلم عدم وجود دليل يمنع من إرادته ، لكان تعيينه لمحل النزاع ترجيحاً بلا مرجح ، وتعيينه لجميعها استعمالاً للمشترك في جميع معانيه ، وفيه الخلاف . ولو سلم رجحان القول بجواز الاستعمال للمشترك في جميع معانيه ، لما صح ، لوجود المانع ، وهو حديث : " المؤمن لا ينجس " واستدلوا أيضا بحديث عمرو بن حزم المتقدم ، وأجيب بأنه غير صالح للاحتجاج . لأنه من صحيفة غير مسموعة ، وفي رجال إسناده خلاف شديد ، ولو سلم صلاحيته للاحتجاج ؛ لعاد البحث السابق في لفظ ( طاهر ) وقد عرفته . قال السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير : إن إطلاق اسم النجس على المؤمن الذي ليس بطاهر من الجنابة أو الحيض أو الحدث الأصغر ، لا يصح حقيقة ولا مجازاً ولا لغة . صرح بذلك في جواب سؤال ورد عليه . فإن ثبت هذا فالمؤمن طاهر دائماً ، فلا يتناوله الحديث ، سواء كان جنباً أو حائضاً أو محدثاً ، أو على بدنه نجاسة . فإن قلت : إذا تم ما تريد من حمل ( الطاهر ) على من ليس بمشرك ، فما جوابك فيما ثبت في المتفق عليه من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى هرقل عظيم الروم : " " أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك إثم الإريسيين . و { يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ … } [ آل عمران : 64 ] إلى قوله : { مُسْلِمُونَ } " [ آل عمران : 64 ] " مع كونهم جامعين بين نجاستي الشرك والاجتناب ووقوع اللمس منهم له معلوم ؟ قلت : أجعله خاصاً بمثل الآية والآيتين ، فإنه يجوز تمكين المشرك من مس ذلك المقدار ، لمصلحة ، كدعائه إلى الإسلام . ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه قد صار باختلاطه بغيره لا يحرم لمسه ، ككتب التفسير ، فلا تخصص به الآية والحديث . إذا تقرر لك هذا ، عرفت عدم انتهاض الدليل على منع من عدا المشرك . وقد عرفت الخلاف في الجنب . وأما المحدث حدثاً أصغر ، فذهب ابن عباس والشعبيّ والضحاك وزيد بن عليّ والمؤيد بالله والهادوية وقاضي القضاة وداود إلى أنه يجوز له مس المصحف . وقال القاسم وأكثر الفقهاء والإمام يحيى : لا يجوز . واستدلوا بما سلف ، وقد سلف ما فيه . انتهى كلام الشوكانيّ . تنبيه في لطف دلالة هذه الآية وما تشير إليه من العلم المكنون قال الإمام ابن القيّم في ( أعلام الموقعين ) في مباحث أمثال القرآن الكريم ، ما مثاله : الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني ، ألا يتجاوز بألفاظها ومعانيها ، ولا يقصّر بها ، ويعطي اللفظ حقه ، والمعنى : وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه ، وأخبر أنهم أهل العلم . ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني ، والعلل ، ونسبة بعضها إلى بعض ، فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله وشبهه ونظيره ، ويلغى ما لا يصح ، هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط . قال الجوهريّ : الاستنباط كالاستخراج . ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ ، فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط ، إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط ، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ، ومقاصد المتكلم . والله سبحانه ذم من سمع ظاهراً مجرداً فأذاعه وأفشاه ، وحمد من استنبط من أولي العلم حقيقته ومعناه . يوضحه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفى على غير مستنبطه . ومنه استنباط الماء من أرض البئر والعين . ومن هذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد سئل : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس ؟ فقال : لا ، والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه ! ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه ، فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب ، وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره ، ومراد المتكلم بكلامه ، ومعرفة حدود كلامه ، بحيث لا يدخل فيها غير المراد ولا يخرج منها شيء من المراد . وأنت إذا تأملت قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [ الواقعة : 77 - 79 ] وجدت الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأن القرآن جاء من عند الله وأن الذي جاء به روح مطهرة ، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيل ، ووجدت الآية أخت قوله : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ ٱلشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } [ الشعراء : 210 - 211 ] ووجدتها دالة بأحسن الدلالة على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر ، ووجدتها دالة أيضاً بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوته وطعمه إلا من آمن به ، وعمل به ، كما فهمه البخاريّ من الآية ، فقال في صحيحه في باب { قُلْ فَأْتُواْ بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا } [ آل عمران : 93 ] ؛ { لاَّ يَمَسُّهُ } لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن ، ولا يحمله بحقه إلا المؤمن لقوله : { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] وتجد تحته أيضاً : لا ينال معانيه ويفهمه كما ينبغي ، إلا القلوب الطاهرة ، وإن القلوب النجسة ممنوعة من فهمه ، مصروفة عنه . فتأمل هذا السبب القريب ، وعَقْدَ هذه الأخوة بين هذه المعاني وبين المعنى الظاهر من الآية ، واستنباط هذه المعاني كلها من الآية بأحسن وجه وأبينه . فهذا من الفهم الذي أشار إليه عليّ رضي الله عنه . انتهى .