Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 58, Ayat: 11-11)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ } تعليم منه تعالى للمؤمنين بالإحسان في أدب المجالس ، وذلك بأن يفسح المرء لأخيه ويتنحّى توسعة له . قال الشهاب : وارتباطه بما قبله ظاهر ؛ لأنه لما نهى عن التناجي والسرار ، علم منه الجلوس مع الملأ ، فذكر آدابه ، ورتب على امتثالهم فسحة لهم فيما يريدون التفسح ، من المكان والرزق والصدر . قال ابن كثير : وذلك أن الجزاء من جنس العمل ، كما جاء في الحديث الصحيح : " من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة . ومن يسَّرَ على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه " ولهذا أشباه كثيرة . قال قتادة : نزلت هذه الآية في مجالس الذكر ، وذلك أنهم إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضَنُّوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض . { وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ } أي : انهضوا للتوسعة ، أو ارتفعوا في المجالس ، أو انهضوا عن مجلس الرسول ، إذا أُمِرتم بالنهوض عنه ، ولا تملوه بالارتكاز فيه . { فَانشُزُواْ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } أي : يرفع المؤمنين بامتثال أوامره ، وأوامر رسوله ، والعالمين بها ، الجارين على موجبها بمقتضى علمهم ، درجات دنيوية وأخروية . قال الناصر : لما علم أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم ، وعند الناس ، ارتفاع مجالسهم ، خصهم بالذكر عند الجزاء ، ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس ، تواضعاً لله تعالى . انتهى . وهذا - كما قال الشهاب - من مغيبات القرآن ، لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في رفعة المجالس ، ومحبة التصدير . وفي كلام الزمخشري : ما يشير إلى أنه من عطف الخاص على العام ، تعظيماً له ، بعدّه كأنه جنس آخر ، كما في { وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] ولذا أعاد الموصول في النظم . والمراد بالعلم علم ما لا بد منه من العقائد الحقة ، والأعمال الصالحة . تنبيهات الأول : في ( الإكليل ) : في الآية استحباب في مجالس العلم والذكر ، وكل مجلس طاعة . الثاني : يفهم من الأمر بالتفسح النهي عن إقامة شخص ليجلس أحد مكانه . فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا " رواه الإمام أحمد والشيخان . وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ، ولكن افسحوا يفسح الله لكم " رواه الإمام أحمد - وفي رواية بلفظ : " لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه لكن افسحوا يفسح الله لكم " تفرد به الإمام أحمد . قال ابن كثير : وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء ، على أقوال : فمنهم من رخص بذلك محتجاً بحديث : " قوموا إلى سيدكم " . ومنهم من منع ذلك محتجاً بحديث : " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما ، فليتبوأ مقعده من النار " . ومنهم من فصّل فقال : يجوز عند القدوم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته ، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ ، فإنه لما استقدمه النبيّ صلى الله عليه وسلم حاكما في بني قريظة ، فلما رآه مقبلا قال للمسلمين : " قوموا إلى سيدكم " وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه - والله أعلم - فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار العجم . وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكان إذا جاء لا يقومون له ، لما يعلمون من كراهته لذلك . انتهى . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ، في فتوى له في ذلك : لم يكن من عادة السلف على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، أن يعتادوا القيام كما يفعله كثير من الناس . بل قد قال أنس بن مالك رضي الله عنه : لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له ، لما يعلمون من كراهته لذلك . ولكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه قام لعكرمة " ، وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ : " قوموا إلى سيدكم " ، وكان سعد متمرضاً بالمدينة ، وكان قد قدم إلى بني قريظة شرقيّ المدينة . والذي ينبغي للناس أن يعتادوا إتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم . فإنهم خير القرون . وخير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد . فلا يعدل أحد عن هدي خير الخلق ، وهدي خير القرون إلى ما هو دونه . وينبغي للمطاع أن يقرر ذلك مع أصحابه ، بحيث إذا رأوه لم يقوموا له ولا يقوم لهم ، إلا في اللقاء المعتاد . فأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له ، فحسن . وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ، ولو ترك ذلك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه ، أو قصد لخفضه ، ولم يعلم العادة الموافقة للسنة - فالأصلح أن يقام له ؛ لأن ذلك إصلاح لذات البين ، وإزالة للتباغض والشحناء . وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة ، فليس في ترك ذلك إيذاء له . وليس هذا القيام هو القيام المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم : " من سره أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار " فإن ذلك أن يقوموا وهو قاعد . ليس هو أن يقوموا لمجيئه إذا جاء . ولهذا فرقوا بين أن يقال ( قمت إليه ) و ( قمت له ) . والقائم للقادم ساواه في القيام ، بخلاف القيام للقاعد . وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما صلى بهم قاعداً في مرضه ، وصلّوا قياماً ، أمرهم بالقعود ، وقال : " لا تعظّموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً " فقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد ، لئلا يشبهوا الأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود . وجماع ذلك أن الذي يصلح إتباع عادة السلف وأخلاقهم ، والاجتهاد بحسب الإمكان . فمن لم يعتد ذلك ، أو لم يعرف أنه العادة ، وكان في ترك معاملته بما اعتاده الناس من الاحترام مفسدة راجحة ، فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما ، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما . انتهى كلام شيخ الإسلام ، رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً . الثالث : قال ابن كثير : روي عن ابن عباس والحسن البصريّ وغيرهما ؛ أنهم قالوا في قوله تعالى { إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ } : يعني في مجالس الحرب . قالوا : ومعنى قوله : { وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ } أي : انهضوا للقتال . وقال قتادة : { وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ } أي : إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا . وقال مقاتل : إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا بها . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كانوا إذا كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم في بيته فأرادوا الانصراف ، أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجاً من عنده . فربما يشق ذلك عليه ، عليه السلام ، وقد تكون له الحاجة . فأمروا أنهم إذا أُمروا بالانصراف أن ينصرفوا ، كقوله تعالى : { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ٱرْجِعُواْ فَٱرْجِعُواْ } [ النور : 28 ] . ولا تنافي بين هذه الأقوال ، لأن كلاً منها تفسير للفظ العام بعض أفراده . وما يصدق عليه إشارة إلى تناوله لذلك ، لا أن أحدها هو المراد دون غيره ، فلذلك ما لا يتوهم . وقد كثر مثل ذلك في تفاسير السلف لكثير من الآي ، وكله مما لا اختلاف فيه - كما بيّناه مراراً . الرابع : في ( الإكليل ) : قال قوم : معنى { يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } يرفع الله المؤمنين منكم العلماءَ درجات على غيرهم ، فلذلك أمر بالتفسُّح من أجلهم ، ففيه دليل على رفع العلماء في المجالس ، والتفسُّح لهم عن المجالس الرفيعة . انتهى .