Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 128-128)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } أي : اذكر يا محمد فيما نقصه عليهم ، وتنذرهم به ، يوم نحشرهم جميعاً ، يعني : الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ، ويعوذون بهم ، ويطيعونهم ، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً . { يَٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ } أي : نقول : يا معشر الجن ، يعني : الشياطين . قال المهايميّ : خصهم بالنداء لأنهم الأصل في المكر . { قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ ٱلإِنْسِ } أي : من إغوائهم وإضلالهم . أو منهم ، بأن جعلتموهم أتباعكم ، وأهل طاعتكم ، وتسويلكم وتزيينكم الحطام الدنيوية ، واللذات الجسمانية عليهم ، ووسوستكم لهم بالمعاصي ، فحشروا معكم . وهذا بطريق التوبيخ والتقريع . { وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم } أي : الذين أطاعوهم وتولوهم { مِّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } قال الحسن : ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت ، وعملت الإنس . أي : فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت ، والإنس بوسوستهم تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة ، على اللذات الغائبة { وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا ٱلَّذِيۤ أَجَّلْتَ لَنَا } أي : بالموت ، أو بالمعاد الجسمانيّ على أقبح صورة ، وأسوأ عيش . قال أبو السعود : قالوه اعترافاً بما فعلوا من طاعة الشياطين ، واتباع الهوى ، وتكذيب البعث ، وإظهاراً للندامة عليها ، وتحسراً على حالهم ، واستسلاماً لربهم ، ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين ، للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلاً . { قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَٰكُمْ } أي : منزلكم ، كما أن دار السلام مثوى المؤمنين . { خَٰلِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } قال القاشانيّ : أي إلا وقت مشيئته أن تخفف ، أو ينجي منكم من لا يكون سبب تعذيبه شركاً راسخاً في اعتقاده . وقال المهايميّ : أي إلا وقت مشيئته أن ينقلكم منها إلى الزمهرير ، انتقالكم من شهوة إلى أخرى . وقال الزمخشري : أي : يخلدون في عذاب النار ، الأبَد كلَّه ، إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار ، إلى عذاب الزمهرير . فقد روي أنهم يدخلون وادياً فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض ، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم ، أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بواتره ، ولم يزل يحرق عليه أنيابه ، وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه : أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت . وقد علم أنه لا يشأ إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد . فيكون قوله ( إلا إذا شئت ) من أشد الوعيد ، مع تهكم بالموعد ، لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع . انتهى . قال الخفاجيّ : لما كان الخطاب للكفرة ، وهم لا يخرجون من النار ؛ لأن ما قبله بيان حالهم ، فيبعد جعله شاملاً للعصاة ، ليصح الاستثناء باعتباره مع أن استعمال ( ما ) للعقلاء قليل - وَجَّهُوه بأن المراد النقل من النار إلى الزمهرير ، أو المبالغة في الخلود ، بمعنى أنه لا ينتفي إلا وقت مشيئة الله ، وهو مما لا يكون مع إبرازه في صورة الخروج وإطماعهم في ذلك تهكماً وتشديداً للأمر عليهم . و ( ما ) مصدرية وقتية . أو إن المستثنى زمان إمهالهم قبل الدخول . وردّ الأول بأن فيه صرف النار من معناها العلميّ ، وهو دار العذاب ، إلى اللغوي وأجيب عنه بأنه لا بأس بالصرف إذا دعت إليه ضرورة . وقيل عليه : إن المعترض لا يسلم الضرورة ، لإمكان غير ذلك التأويل . مع أن قوله : { مَثْوَٰكُمْ } يقتضي ما ذهب إليه المعترض بحسب الظاهر . وردّ الأخير أبو حيّان بأنه في الاستثناء يشترط اتحاد زمان المخرج ، والمخرج منه ، فإذا قلت : قام القوم إلا زيداً ، فمعناه : إلا زيداً ما قام . ولا يصح أن يكون المعنى : إلا زيداً ما يقوم في المستقبل . وكذلك سأضرب القوم إلا زيداً ، معناه : إلا زيداً فإني لا أضربه في المستقبل ، ولا يصح أن يكون المعنى : إلا زيداً فإني ما ضربته قبلُ ، إلا إذا كان استثناء منقطعاً ، فإنه يسوغ ، كقوله : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا ٱلْمَوْتَ إِلاَّ ٱلْمَوْتَةَ ٱلأُولَىٰ } [ الدخان : 56 ] . فإنهم ذاقوها . ولك أن تقول : إن القائل به يلتزم انقطاعه ، كما في الآية التي ذكرها ، ولا محذور فيه ، مع ورود مثله في القرآن ، وفيه نظر ، وقيل : إنه غفلة عن تأويل الخلود بالأبد ، والأبد لا يقتضي الدخول . انتهى . وقال الناصر في ( الانتصاف ) : قد ثبت خلود الكفار في العذاب ثبوتاً قطعياً ، فمن ثم اعتنى العلماء بالكلام على الاستثناء في هذه الآية ، وفي أختها في سورة هود . فذهب بعضهم إلى أنها شاملة لعصاة الموحدين وللكفار ، والمستثنى العصاة ، لأنهم لا يخلدون - وقد علمت بُعْده - . ثم قال : وذهب بعضهم إلى أن هذا الاستثناء محدود بمشيئة رفع العذاب ، أي : مخلدون إلا أن يشاء الله لو يشأ ، وفائدته : إظهار القدرة ، والإعلان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى قد شاءه ، وكان من الجائز العقليّ في مشيئته ألا يعذبهم ، ولو عذبهم لا يخلدهم ، وإن ذلك ليس بأمر واجب عليه ، وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل . وفيها على هذا الوجه دفع في صدر المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة ، وأنه لا يجوز في العقل أن يشاء خلاف ذلك . وذهب الزجاج إلى وجه لطيف ، إنما يظهر بالبسط فقال : المراد - والله أعلم - إلا ما يشاء من زيادة العذاب . ولم يبين وجه الاستثناء والمستثنى على هذا التأويل لم يغاير المستثنى منه في الحكم ، ونحن نبينه فنقول : العذاب - والعياذ بالله - على درجات متفاوتة ، كأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب إلا ما شاء ربك من زيادة تبلغ الغاية ، وتنتهي إلى أقصى النهاية ، حتى تكاد لبلوغها الغاية ، ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة ، تعد ليس من جنس العذاب ، وخارجة عنه . والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد ، كما تقدم في التعبير عن كثرة الفعل بـ ( رُبَّ ) و ( قَدْ ) ، وهما موضوعان لضد الكثرة من القلة ، وذلك أمر يعتاد في لغة العرب ، وقد حام أبو الطيب حوله فقال : @ لقد جدتَ حتى كاد يبخل حاتم للمنتهى ومن السرور بكاء @@ فكأنّ هؤلاء إذا نقلوا إلى غاية العذاب ، ونهاية الشدة ، فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج من اسم العذاب المطلق ، حتى يسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير . وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط . وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنه ما يؤيده . انتهى . وفي الآية تأويلات أخر : منها : ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى استثنى قوماً قد سبق علمه أنهم يُسلمون ويصدقون النبيّ صلى الله عليه وسلم . وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكيّ ، وأن ( ما ) بمعنى ( من ) . ومنها : أنهم يفتح لهم أبواب الجنة ، ويخرجون من النار ، فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم ، وهو معنى قوله : { فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } [ المطففين : 34 ] قال الشريف المرتضى في ( الدرر ) : فإن قيل : أي فائدة في هذا الفعل ، وما وجه الحكمة فيه ؟ قلنا : وجه الحكمة فيه ظاهر ؛ لأن ذلك أغلظ على نفوسهم ، وأعظم في مكروههم ، وهو ضرب من العقاب الذي يستحقونه بأفعالهم القبيحة ؛ لأن من طمع في النجاة والخلاص من المكروه ، واشتد حرصه على ذلك ، ثم حيل بينه وبين الفرج ، وردّ إلى المكروه ، يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب من لا طريق للطمع عليه - كذا في العناية - . ومنها : أن هذا الاستثناء إشارة إلى فناء النار . أي : إلا وقت مشيئته فناءها ، وزوال عذابها . قال السيوطي في ( الدر المنثور ) : أخرج ابن المنذر عن الحسن قال : قال عمر رضي الله عنه : لو لبث أهل النار في النار ، كقدر رمل عالج ، لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه . وأخرجه عبد بن حميد عن الحسن أيضاً . قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ونقل هذا عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم . انتهى . وقد انتصر لهذا القول جماعة . وما ورد من الخلود فيها والتأبيد وعدم الخروج , وأن عذابها مقيم , كله حق مسلّم لا نزاع فيه . وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية , وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد , ففرق بين من يخرج من الجنس , وهو حبس على حاله , وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه . وقد بسط البحث في ذلك وجوّده الإمام ابن القيم في كتابه ( حادي الأرواح ) , ومع كونه انتصر لهذا القول انتصاراً عظيماً , وذكر له خمسة وعشرين دليلا , لم يصححه , حيث قال : أما أبدية الجنة , وأنها لا تفنى ولا تبيد , فما يعلم بالاضطرار , ولم يقل بفنائها أحد . ومن قال به - كالجهمية - فهو ضال مبتدع منحرف عن الصواب ، وليس له في ذلك سلف . وأما أبدية النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف , والأصح عدم فنائها أيضاً . انتهى . وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذا المقام في آية هود . وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه . لا ينزلهم جنة ولا ناراً . { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } فلا يعذب إلا على ما تقتضيه الحكمة { عَليمٌ } أي : بمن يعذب بكفره ، فيدوم عذابه . أو بسيئات أعماله ، فيعذب على حسبها ، ثم ينجو منه .