Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 12-12)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : خلقاً وملكاً ، وهو سؤال تبكيت وتقريع ، { قُل للَّهِ } تقرير للجواب ، نيابة عنهم . أي : هو الله ، لا خلاف بيني وبينكم ، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئاً منه إلى غيره . ففيه تنبيه على تعينه للجواب اتفاقاً ، كما في قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [ الزمر : 38 ] . ومن المقرر أن أمر السائل بالجواب إنما يحسن في موضع يكون فيه الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ، ولا على دافعه دافع ، كما هنا . قيل : وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب ، مع تعينه ، لكونهم محجوجين . وقوله تعالى : { كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } : جملة مستقلة داخلة تحت الأمر ، ناطقة بشمول رحمته الواسعة لجميع الخلق ، شمول ملكه وقدرته للكل ، مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بعباده ، لا يعجل عليهم بالعقوبة ، ويقبل منهم التوبة والإنابة ، وأن ما سبق ذكره ، وما لحق من أحكام الغضب ، ليس من مقتضيات ذاته تعالى ، بل من جهة الخلق . كيف لا ؟ ومن رحمته أن خلقهم على الفطرة السليمة ، وهداهم إلى معرفته وتوحيده ، بنصب الآيات الأنفسية والآفاقية ، وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب المشحونة بالدعوة إلى موجبات رضوانه ، والتحذير عن مقتضيات سخطه . وقد بدلوا فطرة الله تبديلا ، وأعرضوا عن الآيات بالمرة ، وكذبوا بالكتب ، واستهزؤوا بالرسل ، { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـٰكِن كَانُواْ هُمُ ٱلظَّالِمِينَ } [ الزخرف : 76 ] . ولولا شمول رحمته لسلك بهؤلاء أيضاً مسلك الغابرين . ومعنى : ( كتب الرحمة على نفسِه ) أنه تعالى أوجبها وقضاها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة ، بالذات ، لا بتوسط شيء أصلا . وفي التعبير عن ( الذات ) بـ ( النفس ) حجة على من ادعى أن لفظ ( النفس ) لا يطلق على الله تعالى ، وإن أريد به الذات ، إلا مشاكلة . لما ترى من انتفاء المشاكلة ههنا - أفاده أبو السعود - . وقوله تعالى : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ } جواب قسم محذوف . والجملة استئناف مسوق للوعيد ، على إشراكهم وإغفالهم النظر ، لأنه لما بين كمال إلهيته بقوله : { قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ } [ الأنعام : 12 ] . ثم أخبر بأنه يرحمهم في الدنيا بالإمهال ، ودفع عذاب الاستئصال ، أعلم أنه يجمعهم لذلك اليوم ، ويحاسبهم على كل ما فعلوا ، لأن الملك الحكيم لا يهمل أمر رعيته ، ولا يسوغ في حكمته أن يسوي بين المطيع والعاصي قيل : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } جواب لقوله : { كَتَبَ } ، لأنه يجري مجرى القسم . وقيل : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } بدل من الرحمة ، بدل البعض . قال المهايميّ : كمال الرحمة في الجزاء ، إذ بدونه تضيع مشاق المعارف الإلهية ، والأعمال الصالحة ، وتضيع المظالم ، ولا جزاء في دار الدنيا ؛ لأنه فرع التكليف ، ودار التكليف لا تكون دار الجزاء ؛ لأن مشاهدته مانعة من التكليف . انتهى . و ( إلى ) بمعنى اللام ، كقوله : { إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } [ آل عمران : 9 ] أي : في اليوم ، أو في الجمع . { ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ } أي : بتضييع رأس مالهم ، وهو الفطرة الأصلية , والعقل السليم ، والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام ، واستماع الوحي ، وغير ذلك من آثار الرحمة . { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : لا يصدقون بالمعاد ، ولا يخافون شر ذلك اليوم . قال أبو السعود : والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، والإشعار بأن عدم إيمانهم بسبب خسرانهم ، فإن إبطال العقل باتباع الحواس ، والانهماك في التقليد ، وإغفال النظر ، أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر ، والامتناع من الإيمان . والجملة تذييل مسوق من جهته تعالى ، لتقبيح حالهم ، غير داخل تحت الأمر . تنبيه روي في معنى هذه الآية عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما خلق الله الخلق كتب في كتاب ، فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي " رواه الشيخان . وفي البخاريّ : " إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق : إن رحمتي سبقت غضبي ، فهو مكتوب عنده ، فوق العرش " . وفي رواية لهما : " أن الله لما خلق الخلق " . وعند مسلم : " لما قضي الله الخلق ، كتب في كتاب كتبه على نفسه ، فهو موضوع عنده " زاد البخاري : " على عرش " ثم اتفقا : " إن رحمتي تغلب غضبي " . وسنذكر ، إن شاء الله ، شذرة من أحاديث الرحمة عند آية { كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } [ الأنعام : 45 ] قريباً . قال أبو السعود : ومعنى سبق الرحمة وغلبتها أنها أقدم تعلقاً بالخلق ، وأكثر وصولاً إليهم ، مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير .