Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 1-1)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } أي : جميع المحامد ، بما حمد به نفسه أو خلقه ، أو حمد به الخلقُ ربهم ، أو بعضهم ، مخصوص به . ثم أخبر عن قدرته الكاملة ، الموجبة لاستحقاقه لجميع المحامد بقوله : { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } خصهما بالذكر ، لأنهما أعظم المخلوقات ، فيما يرى العباد ، وفيهما العبر والمنافع ؛ لأن السماوات بأوضاعها وحركاتها أسباب الكائنات والفاسدات التي هي مظاهر الكمالات الإلهية . والأرض مشتملة على قوابل الكون والفساد التي هي المسببات . { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ } أي : أوجدهما منفعة لعباده ، في ليلهم . ونهارهم . وههنا : لطائف الأولى : أن المقصود من الآية : التنبيه على أن المنعم بهذه النعم الجسام هو الحقيق بالحمد والعبادة ، دون ما سواه . الثانية : لفظ جعل يتعدى إلى واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ ، كما هنا ؛ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صيَّر كقوله : { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] . والفرق بين الخلق والجعل : أن الخلق فيه معنى التقدير ، وفي الجعل معنى التضمين ، كإنشاء شيء من شيء أو تصيير شيء شيئاً ، أو نقله من مكان إلى مكان . ومن ذلك : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الأعراف : 189 ] ، { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً } [ ص : 5 ] ، وإنما حسن لفظ ( الجعل ) ههنا ، لأن النور والظلمة لما تعاقبا ، صار كأن كل واحد منهما إنما تولد من الآخر - قاله الرازيّ - وسبقه إليه الزمخشري . قال الناصر في ( الانتصاف ) : وقد وردت ( جَعَلَ ) و ( خَلَقَ ) مورداً واحداً . فورد : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] ، وورد : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ الأعراف : 189 ] ، وذلك ظاهر في الترادف . إلا أن للخاطر ميلاً إلى الفرق الذي أبداه الزمخشريّ . ويؤيده أن ( جَعَلَ ) لم يصحب السماوات والأرض ، وإنما لزمتهما ( خَلَقَ ) . وفي إضافة ( الخلق ) في هذه الآية إلى السماوات والأرض ، و ( الجعل ) إلى الظلمات والنور ، مصداق للمميز بينهما - والله أعلم - . الثالثة : إن قيل : لم جمعت السماوات دون الأرض مع أنها مثلهن ؟ لقوله تعالى : { وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] ، وفي الحديث : " " هل تدرون ما هذه ؟ " قالوا : هذه أرض . قال : " هل تدرون ما تحتها ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ! قال : " أرض أخرى ، وبينهما مسير خمسمائة عام " حتى عدّ سبع أرضين ، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام " - أخرجه الترمذي ، وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه . فالجواب : لأن السماوات طبقات متفاضلة بالذات ، مختلفة بالحقيقة ، بخلاف الأرضين - كما قاله البيضاوي - . وقال الرازي : إن السماء جارية مجرى الفاعل . والأرض مجرى القابل . فلو كانت السماء واحدة لَتَشَابَهَ الأثر ، وذلك يخلّ بمصالح هذا العالم . أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية ، فحصل بسببها الفصول الأربعة ، وسائر الأحوال المختلفة ، وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم . أما الأرض فهي قابلة للأثر ، والقابل الواحد كاف في القبول . انتهى . وقدم السماوات لشرفها وعلوّ مكانها . الرابعة : الظاهر في ( الظلمات والنور ) أن المراد منهما : الأمران المحسوسان بحس البصر . والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما . والأصل حمل اللفظ على حقيقته ؛ ولأن ( الظلمات والنور ) إذا قرنا بالسماوات والأرض ، لم يفهم منهما إلا الأمران المحسوسان . ونقل عن بعض السلف أنه عنى بهما : الكفر والإيمان . ورجح الرازيّ الأول لما ذكر . ووجه بعضهم الثاني بأن المعنى : أنه لما خلق السماوات والأرض ، فقد نصب الأدلة على معرفته وتوحيده . ثم بيّن طرق الضلال ، وطريق الهدى ، بإنزال الشرائع والكتب السماوية . { ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } ، فناسب المقام ( ثم ) الاستبعادية ، إذ يبعد من العاقل الناظر بعد إقامة الدليل ، اختيار الباطل ، انتهى . وعليه فجمع ( الظلمات ) وتوحيد ( النور ) ظاهر ؛ لأن الهدى واحد ، والضلال متعدد ، كما قال في آخر هذه السورة : { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] . وعلى الأول ، فجمعها لظهور كثرة أسبابها ومحالها عند الناس ، فإن لكل جرم ظلمة ، وليس لكل جرم نور . وأما تقديمها فلسبقها في التقدير والتحقق ، على النور . وفي الأثر : " إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رشّ عليهم من نوره " . وقوله تعالى : { ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } معطوف على الجملة السابقة الناطقة بما مر من موجبات اختصاصه تعالى ، بالحمد المستدعي لاقتصار العبادة عليه . مسوق لإنكار ما عليه الكفرة ، واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها ، واجترائهم على ما يقضي ببطلانه بديهة العقول والمعنى : أنه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة ، باعتبار ذاته ، وباعتبار ما فصل من شؤونه العظيمة الخاصة به ، الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه . ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه ، ويعدلون به سبحانه . أي : يسوّون به غيره في العبادة التي هي أقصى غايات الشكر ، الذي رأسه الحمد ، مع كون كل ما سواه مخلوقاً له ، غير متصف بشيء من مبادئ الحمد . وكلمة ( ثم ) لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية ، القاضية ببطلانه . و ( الباء ) متعلقة بـ ( يعدلون ) ووضع ( الرب ) موضع ضميره تعالى ، لزيادة التشنيع والتقبيح . والتقديم لمزيد الاهتمام ، والمسارعة إلى تحقيق مدار الإنكار والاستبعاد ، والمحافظة على الفواصل . وترك المفعول لظهوره ، أو لتوجيه الإنكار إلى نفس الفعل ، بتنزيله منزلة اللازم ، إيذاناً بأنه المدار في الاستبعاد ، لا خصوصية المفعول . هذا هو الحقيق بجزالة التنزيل - أفاده أبو السعود . ثم ناقش ما وقع للمفسرين هنا مما يخالفه . فانظره . وأصل ( العدل ) مساواة الشيء بالشيء . والمعنى : أنهم يجعلون له عديلاً من خلقه ، مما لا يقدر على شيء ، فيعبدون الحجارة ، مع إقرارهم بأن الله خلق السماوات والأرض . وقال النضر بن شميل : ( الباء ) بمعنى ( عن ) أي : عن ربهم يعدلون وينحرفون ، من العدول عن الشيء . لطيفة قال ابن عطية رحمه الله : ( ثم ) دالة على قبح فعل الذين كفروا ؛ لأن المعنى أن خلقه السماوات قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وإنعامه بذلك قد تبين . ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم . فهذا كما تقول : أعطيتك وأحسنت إليك ، ثم تشتمني ؟ ولو وقع العطف في هذا ونحوه بـ ( الواو ) لم يلزم التوبيخ كلزومه بـ ( ثم ) . انتهى . أي : ففيها الدلالة على التوبيخ والإنكار ، كالتعجيب أيضاً . قال أبو حيان : هذا الذي ذهب إليه ابن عطية من أن ( ثم ) للتوبيخ . والزمخشري من أنها للاستبعاد - مفهوم من سياق الكلام ، لا من مدلول ( ثم ) . انتهى . وإنما لم تحمل ( ثم ) على التراخي ، مع استقامته ، لكون الاستبعاد أوفق بالمقام ؛ لأن التراخي الزمانيّ معلوم فيه ، فلا فائدة في ذكره .