Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 2-2)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ } استئناف مسوق لبيان بطلان كفرهم بالبعث ، مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمان به ، إثر بيان بطلان إشراكهم به تعالى ، مع معاينتهم لموجبات توحيده . وتخصيصُ خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث ، مع أن ما ذكره من خلق السماوات والأرض من أوضحها وأظهرها ، كما ورد في قوله تعالى : { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاواتِ وَٱلأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } [ يس : 81 ] لما أن محل النزاع بعثهم . فدلالة بدء خلقهم على ذلك أظهر ، وهم بشؤون أنفسهم أعرف ، والتعامي عن الحجة النيرة أقبح . والالتفات لمزيد التشنيع والتوبيخ . أي : ابتدأ خلقكم منه ، فإنه المادة الأولى للكل ، لما أنه منشأ آدم الذي هو أبو البشر . وإنما نسب هذا الخلق إلى المخاطبين ، لا إلى آدم عليه السلام ، وهو المخلوق منه حقيقة ، بأن يقال : هو الذي خلق أباكم … إلخ مع كفاية علمهم بخلقه عليه السلام منه ، في إيجاب الإيمان بالبعث ، وبطلان الامتراء - لتوضيح منهاج القياس ، وللمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس . مع ما فيه من تحقيق الحق والتنبيه على حكمة خفية : هي أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه ، عليه السلام ، منه ، حيث لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه ، بل كانت أنموذجاً منطوياً على فطرة سائر آحاد الجنس ، انطواء إجمالياً ، مستتبعاً لجريان آثارها على الكل . فَكَانَ خلقُه عليه السلام من الطين خلقاً لكل أحد من فروعه منه . ولما كان خلقه على هذا النمط الساري إلى جميع أفراد ذريته ، أبدع من أن يكون ذلك مقصوراً على نفسه ، كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه ، وأدل على عظم قدرة الخلاق العليم ، وكمال علمه وحكمته ، وكان ابتداء حال المخاطبين أولى بأن يكون معياراً لانتهائها - فعل ما فعل . ولله درّ شأن التنزيل ! وعلى هذا السر مدار قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ … } [ الأعراف : 11 ] إلخ ، وقوله تعالى : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] . كما سيأتي . وقيل : المعنى خلق أباكم منه ، على حذف المضاف . وقيل : معنى خلقهم منه ، خلقهم من النطفة الحاصلة من الأغذية المتكونة من الأرض . وأيا ما كان ، ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى على البعث ، ما لا يخفى . فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط ، كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة - أفاده أبو السعود - . وفي ( العناية ) : أن في الآية التفاتاً ؛ لأن الخطاب - وإن صح كونه عاماً - لكنه خاص بالذين كفروا ، كما يقتضيه { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } . ونكتته أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة ، والشكر عليه أوجب . وقد أشير في كل من الدليلين إلى المبدأ والمعاد ، وما بينهما . انتهى . أخرج أبو داود والترمذي عن أبي موسى الأشعريّ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض . جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود ، وبين ذلك . والسهلُ والحزْنُ ، والخبيث والطيّب " . وقوله تعالى : { ثُمَّ قَضَىۤ أَجَلاً } أي : كتب لموت كل واحد منكم أجلاً خاصاً به . أي : حداً معيناً من الزمان يفني عند حلوله . أو كتب ، لما بين أن يولد كل منكم إلى يوم أن يموت ، أجلاً . { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } أي : وحدّ معين لبعثكم جميعاً ، مثبت معين في علمه ، لا يقبل التغيير ، ولا يقف على وقت حلوله أحد . كقوله تعالى : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] . فمعنى ( عِنْدَهُ ) أنه مستقل بعلمه . و ( أجلٌ ) مبتدأ لتخصيصه بالصفة ، ولوقوعه في موقع التفصيل . وتنوينه لتفخيم شأنه ، وتهويل أمره ؛ ولذلك أوثر تقديمه على الخبر الذي هو ( عِنْدَهُ ) ، مع أن الشائع في مثله التأخير ، كأنه قيل : وأيّ أجل معين في علمه لا يعلمه أحد لا مجملاً ولا مفصلاً . وأما أجل الموت فمعلوم إجمالاً وتقريباً ، بناء على ظهور أماراته ، أو على ما هو المعتاد في أعمار الإنسان . { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } استبعاد واستنكار لامترائهم في البعث ، بعد معاينتهم لما ذكر من الحجج الباهرة الدالة عليه . أي : تمترون في وقوعه وتحققه في نفسه ، مع مشاهدتكم في أنفسكم ما يقطع مادة الامتراء . فإن من قدر على خلق المواد وجمعها وإبداع الحياة فيها ، وإبقائها ما يشاء ، كان أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها ثانياً .