Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 79-79)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } أي : وجه قلبي وروحي في المحبة والعبادة ، بل جعلته مسلماً { لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً } أي : مائلا عن الأديان الباطلة ، والعقائد الزائغة ، { وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } . وفي هذا المقام مباحث الأول : توسع المفسرون هنا في قوله : { هَـٰذَا رَبِّي } [ الأنعام : 76 ] . فمن قائل بأن المتكلم بهذا آزر ، وأنه لما قال ذلك ، قال إبراهيم : { لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ } [ الأنعام : 76 ] . وقيل : إنه إبراهيم ، وكان ذلك في حال الطفولية ، قبل استحكام النظر في معرفة الله تعالى لقوله : { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي … } [ الأنعام : 77 ] إلخ . وقيل : بعد بلوغه وتكريمه بالرسالة ، إلا أنه أراد الاستفهام الإنكاريّ ، توبيخاً لقومه ، فحذف الهمزة ، ومثله كثير . وقيل : على إضمار القول أي : يقولون : هذا ربي ، وإضمار القول كثير . وقيل : المعنى في زعمكم واعتقادكم . وقيل : الإخبار على سبيل الاستهزاء … إلى أقوال أخر . والقصد في ذلك : تنزيه مقامه عليه الصلاة والسلام عن الشك والحيرة ، واعتقاد ربوبية ذلك ، لمنافاته للعصمة . وأقول : هذا مسلّم بلا ريب ، ولكنّ الأوجَه من جميع ذلك كله ما أسلفناه أولا من أن قوله : { هَـٰذَا رَبِّي } [ الأنعام : 76 ] من باب استعمال النصفة مع الخصوم ، على سبيل الوضع ، وهو سوق مقدمة في الدليل لا يعتقدها ، لكونها مسلمة عند غيره ، لأجل إلزامه بها . وهو مصطلح أهل الجدل . وقد اقتصر الزمخشريّ على هذا الوجه الفريد . قال الناصر في ( الانتصاف ) : ذلك متعين . وقد ورد في الحديث الوارد في الشفاعة أنهم يأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فيلتمسون منه الشفاعة ، فيقول : نفسي ! نفسي ! ويذكر كذباته الثلاث ، ويقول : لست لها ، يريد قوله لسارة هي أختي ، وإنما عنى : في الإسلام . وقوله : إنه سقيم ، وإنما عنى همّه بقومه وبشركهم والمؤمن يسقمه ذلك - وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [ الأنبياء : 63 ] ، وقد ذكرت فيه وجوه من التعريض . فإذا عدّ صلوات الله عليه وسلامه على نفسه هذه الكلمات ، مع العلم بأنه غير مؤاخذ بها ، دلّ ذلك على أنها أعظم ما صدر منه . فلو كان الأمر على ما يقال ، من أن هذا الكلام محكيّ عنه على أنه نظره لنفسه ، لكان أولى أن يعدّه ، وأعظم ، مما ذكرناه . لأنه حينئذ يكون شكّا ، بل جزما . على أن الصحيح أن الأنبياء قبل النبوة معصومون من ذلك ، انتهى . وقال الحافظ ابن كثير : اختلف المفسرون في هذا المقام ، هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر . واختاره ابن جرير مستدلاً عليه بقوله : { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي } [ الأنعام : 77 ] الآية . وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السَّرَب الذي ولدته فيه أمه ، حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان ، لما كان قد أُخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه ، فأمر بقتل الغلمان عامئذ . فلما حملت أم إبراهيم به ، وحان وضعها ، ذهبت إلى سَرَبٍ ، ظاهرَ البلدة ، فولدت فيه إبراهيم ، وتركته هناك . وذكر أشياء من خوارق العادات ، كما ذكرها غيره من المفسرين . ثم قال ابن كثير : والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه ، مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام ، فبين ، في المقام الأول مع أبيه ، خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية ، التي هي على صورة الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذي هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه ، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ، ليشفعوا لهم عنده في الرزق ، وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، وبيّن في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل ، وهي الكواكب السيارة السبعة . وأشدُّهن إضاءة وأشرفهن عندهم ، الشمس ثم القمر ثم الزهرة . فبين أولا صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين ، لا تزيغ عنه ، ولا تملك لنفسها تصرفاً ، بل هي جرم من الأجرام ، خلقها الله منيرة ، لما له في ذلك من الحكم العظيمة ، وهي تطلع من المشرق ، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب ، حتى تغيب عن الأبصار فيه ، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال . وهذه لا تصلح للإلهية . ثم بين في القمر ما بين في النجم ، ثم الشمس كذلك . فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة ، التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار ، وتحقق ذلك بالدليل القاطع ، تبرأ من عبادتهن وموالاتهن ، وأخبر بأنه يعبد خالقهن ومسخرهن . ثم قال ابن كثير : وكيف يجوز أن يكون ناظرا في هذا المقام ، وهو الذي قال له الله في حقه : { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِيلُ ٱلَّتِيۤ أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [ الأنبياء : 51 - 52 ] . وقال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ ٱجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ النحل : 120 - 121 ] . وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كل مولود يولد على الفطرة " . وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء " وقال تعالى : { فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ } [ الروم : 30 ] وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [ الأعراف : 172 ] . ومعناه على أحد القولين ، كقوله : { فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة ، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله { أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 120 ] ناظراً في هذا المقام ؟ بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة ، والسجية المستقيمة ، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلا شك ولا ريب . ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك ، لا ناظراً ، قوله تعالى : { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ … } [ الأنعام : 80 ] الآية الآتية . انتهى . وممن جوّد هذا المبحثَ الجليلَ ، وبيّن أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان مناظراً لقومه ، العلامة الشهرستانيُّ في كتابه ( الملل والنحل ) ، ونحن نسوقه عنه تأييداً لهذا البحث المهم ، وتعرّفاً بمعتقد قومه ، وما دفعهم إليه ، لما فيه من الفوائد . قال رحمه الله تحت ترجمة ( أصحاب الهياكل والأشخاص ) : هؤلاء من فرق الصابئة ( وهم المتعصبون الروحانيين ) ، وقد أدرجنا مقالتهم في المناظرات جملة ، ونذكرها ههنا تفصيلاً . اعلم أن أصحاب الروحانيات ، لما عرفوا أن لا بد للإنسان من متوسط ، ولا بد للمتوسط من أن يُرَى فيتوجه إليه ، ويتقرب به ، ويستفاد منه فزعوا إلى الهياكل التي هي السيارات السبع ، فتعرفوا أولاً بيوتها ومنازلها ، وثانياً مطالعها ومغاربها ، وثالثاً اتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة ، مرتبة على طبائعها ، ورابعا تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها ، وخامساً تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها ، فعملوا الخواتيم ، وتعلموا العزائم والدعوات ، وعينوا ليوم زحل مثلاً يوم السبت ، وراعوا فيه ساعته الأولى ، وتختموا بخاتمه المعمول على صورته وصفته ، ولبسوا اللباس الخاص به ، وبخّروا ببخوره الخاص ، ودعوا بدعواته الخاصة ، وسألوا حاجتهم منه ، الحاجة التي تستدعي من زحل من أفعاله وآثاره الخاصة به . وكذلك رفع الحاجة التي تختص بالمشتري في يومه وساعته ، وجميع الإضافات التي ذكرنا ، إليه . وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب . وكانوا يسمونها : أرباباً آلهة ، والله تعالى هو رب الأرباب ، وإله الآلهة . ومنهم من جعل الشمس إله الآلهة ورب الأرباب ، فكانوا يتقربون إلى الهياكل ، تقرباً إلى الروحانيات - يعني : الملائكة - ويتقربون إلى الروحانيات ، تقرباً إلى البارئ تعالى ، لاعتقادهم بأن لكل روحانيّ هيكلاً ، ولكل هيكل فلَكاً ، فالهياكل أبدان الروحانيات ، ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات ، وهي أربابها ومدبراتها ، تتصرف في أبدانها تدبيراً وتصريفاً وتحريكاً ، كما يتصرف في أبداننا . ولا شك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه . ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضي منهم العجب . وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب والسحر والكهانة والتختيم والتعزيم والخواتيم والصور ، كلها من علومهم . وأما أصحاب الأشخاص فقالوا : إذا كان لا بد من متوسط يتوسل به ، وشفيع يتشفع إليه ، والروحانيات وإن كانت هي الوسائل ، لكنا إذا لم نرها بالأبصار ، ولم نخاطبها بالألسن ، لم يتحقق القرب إليها إلا بهياكلها ، ولكن الهياكل قد ترى في وقت ، ولا ترى في وقت ، لأن لها طلوعاً وأفولاً ، وظهوراً بالليل ، وخفاء بالنهار ، فلم يَصْفُ لنا التقرب بها ، والتوجه إليها ، فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا ، فنعكف عليها ، ونتوسل بها إلى الهياكل ، فنتقرب بها إلى الروحانيات ، ونتقرب بالروحانيات إلى الله تعالى ، فنعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، فاتخذوا أصناماً أشخاصاً على مثال الهياكل السبعة ، كل شخص في مقابلة هيكل ، وراعوا في ذلك جوهر الهيكل ، أعني الجوهر الخاص به من الحديد وغيره ، وصوروه بصورته على الهيئة التي تصدر أفعاله عنه ، وراعوا في ذلك الزمانَ والوقتَ والساعة والدرجة والدقيقة وجميع الإضافات النجومية ، من اتصال محمود يؤثر في نجاح المطالب التي تستدعي منه ، فتقربوا إليه في يومه وساعته ، وتبخّروا بالبخور الخاص به وتختموا بخاتمه ، ولبسوا ثيابه ، وتضرعوا بدعائه ، وعزّموا بعزائمه ، وسألوا حاجتهم منه ، فيقولون : كان تقضى حوائجهم بعد رعاية هذه الإضافات كلها ، وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنهم أنهم عبدة الكواكب والأوثان . فأصحاب الهياكل هم عبدة الكواكب ، إذ قالوا بإلهيتها - كما شرحنا - وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان ، إذ سموها آلهة في مقابل آلهة أولئك السماوية ، وقالوا : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] . وقد ناظر الخليل عليه الصلاة والسلام هذين الفريقين ، فابتدأ بكسر مذهب أصحاب الأشخاص ، وذلك قوله تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَٰتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [ الأنعام : 83 ] . وتلك الحجة أن كسرهم قولاً بقوله : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95 - 96 ] . ولما كان أبوه آزر هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام ورعاية الإضافات النجومية فيها حق الرعاية ، ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام ، لا من غيره ، كان أكثر الحجج معه ، وأقوى الإلزامات عليه { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّيۤ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 74 ] وقال : { يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] لأنك جهدت كل الجهد ، واستعملت كل العلم ، حتى عملت أصناماً في مقابلة الأجرام السماوية فما بلغت قوتك العلمية والعملية إلى أن تحدث فيها سمعاً وبصراً ، وأن تغني عنك ، وتضر وتنفع ، وإنك بفطرتك وخلقتك أشرف درجة منها ، لأنك خلقت سميعاً بصيراً ضاراً نافعاً . والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتخذ تكلفاً ، والمعمول تصنعاً ، فيا لها من حيرة ، إذ صار المصنوع بيديك معبوداً لك ، والصانع أشرف من المصنوع . { يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ } [ مريم : 44 ] { يٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِيۤ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } [ مريم : 43 ] { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يٰإِبْرَاهِيمُ } [ مريم : 46 ] فلم يقبل حجته القولية ، فعدل عليه الصلاة والسلام إلى الكسر بالفعل ، { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } [ الأنبياء : 58 ] { قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلظَّالِمِينَ } [ الأنبياء : 59 ] { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ * فَرَجَعُوۤاْ إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوۤاْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ ٱلظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَـٰؤُلاۤءِ يَنطِقُونَ } [ الأنبياء : 63 - 65 ] فأفحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم ، كما أفحمهم بالقول ، حيث أحال الفعل منهم ، وكل ذلك على طريق الإلزام عليهم ، وإلا فما كان الخليل كاذباً قط . ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل كما أراه الله تعالى الحجة على قومه ، قال : { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } [ الأنعام : 75 ] فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين تشريفاً له على الروحانيات وهياكلها ، وترجيحاً لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة ، وتقريراً أن الكمال في الرجال ، فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي } [ الأنعام : 76 ] على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـٰذَا } [ الأنبياء : 63 ] وإلا فما كان الخليل كاذباً في هذا القول ، ولا مشركاً في تلك الإشارة . ثم استدل بالأفول والزوال والتغير والانتقال ، بأنه لا يصلح أن يكون ربّاً إلهاً ، فإن الإله القديم لا يتغير ، وإذا تغير فاحتاج إلى مغير ، وهذا لو اعتقدتموه رباً قديماً وإلهاً أزلياً ، ولو اعتقدتموه واسطة وقبلة وشفيعاً ووسيلة ، فالأفول والزوال أيضاً ، يخرجه عن الكمال . وعن هذا ما استدل عليهم بالطلوع ، وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول ، فإنهم إنما انتقلوا إلى عمل الأشخاص ، لما عراهم من التحير بالأفول ، فأتاهم الخليل عليه الصلاة والسلام من حيث تحيرهم ، فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته . وذلك أبلغ في الاحتجاج ثم { فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ } [ الأنعام : 77 ] . فيا عجباً ! من لا يعرف رباً كيف يقول : { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ } [ الأنعام : 77 ] ؟ رؤية الهداية من الرب تعالى غاية التوحيد ، ونهاية المعرفة ، والواصل إلى الغاية والنهاية ، كيف يكون في مدارج البداية ؟ دع هذا كله خلف قاف ، وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف . فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج ، وأوضح المناهج . وعن هذا قال : { فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ } [ الأنعام : 78 ] لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك ، وهو رب الأرباب الذي يقتبسون منه الأنوار ، ويقبلون منه الآثار { فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } قرر مذهب الحنفاء ، وأبطل مذهب الصابئة ، وبين أن الفطرة هي الحنيفية ، وأن الطهارة فيها ، وأن الشهادة بالتوحيد مقصورة عليها ، وأن النجاة والخلاص متعلقة بها ، وأن الشرائع والأحكام مشارع ومناهج إليها ، وأن الأنبياء والرسل مبعوثة لتقريرها وتقديرها ، وأن الفاتحة والخاتمة ، والمبدأ والكمال ، منوطة بتلخيصها وتحريرها . ذلك الدين القيم ، والصراط المستقيم ، والمنهج الواضح ، والمسلك اللائح ، انتهى كلام الشهرستانيّ رحمه الله تعالى . وإنما نقلت كلامه برمته ، لأنه كما قيل : @ * وما محاسن شيء كلُّهُ حَسَنُ * @@ وقد قدّم رحمه الله الكلام على أصحاب الروحانيات الصابئة ، وأتبعها بمناظرة بديعة جرت بينهم وبين الحنفاء بما تفيد مراجعتهُ فائدة كبرى . فجزاه الله خيراً . الثاني : تبيّن مما ذكره الشهرستانيّ أن سر احتجاج الخليل عليه الصلاة والسلام بالأفول دون البزوغ ، مع كون كل منهما منافياً لاستحقاق معروضه للربوبية - هو إتيانهم من حيث تحيرهم ، إلزاماً لهم بما يعترفون بصحته . وقال أبو السعود : لما كان البزوغ حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام ، ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة - عدل عنه إلى الأفول ، لأنه حالة مقتضية لانطماس الآثار ، وبطلان الأحكام المنافيينْ للاستحقاق المذكور منافاة بينة ، يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد . انتهى . وهو لطيف ، إلا أن الأول أسدّ . الثالث : لو قيل : إن الأفول ، لما كان يمنع من استحقاق معروضه لصفة الربوبية على ما ذكرنا ، وقد ثبت ذكر في أكبر الكواكب - ( أعني الشمس ) - فلزم ثبوته فيما دونها بالأولى - فهلا اقتصر على أفول الشمس رعاية للإيجاز والاختصار ؟ أجيب : بأن الأخذ من الأدنى فالأدنى ، إلى الأعلى فالأعلى ، له نوع تأثير في التقرير والبيان والتأكيد ، لا يحصل من غيره ، فكان سوق الاستدلال على هذا الوجه أولى - أفاده الرازيّ - . الرابع : قال الرازيّ : تدل هذه الآية على أن الدين يجب أن يكون مبنياً على الدليل ، لا على التقليد ، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة ألبتة .