Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 31-31)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يَابَنِيۤ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ } أي : من اللباس { عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } أي : بيت بُنِي للعبادة ، على أنه اسم مكان ، أو مصدر بمعنى السجود ، مراداً به الصلاة والعبادة ، فإن العبادة أولى أوقات التزين { وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } أيام الحج تقوّياً على العبادة { وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ } أي : إسرافاً يوجب الانهماك في الشهوات ويشغل عن العبادة ، أو لا تحرموا الطيبات من الرزق واللحم والدسم { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ } المعتدين . تنبيهات الأول : كنا أسلفنا في مقدمة هذا التفسير ، أن من فوائد معرفة سبب النزول والوقوف على المعنى ، وإزالة الإشكال . وهذه الآية إنما أجملنا تفسيرها بما ذكرنا ؛ لأنها نزلت في ذلك . فقد روى مسلم عن ابن عباس قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عُرْيانة ، فتقول : من يعيرني تِطْْوافاً ؟ تجعله على فرجها وتقول : @ اليومَ يبدو بَعْضُهُ أو كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ @@ فنزلت هذه الآية : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ … } الآية . ونزلت : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ … } الآية . وعند ابن جرير عن ابن عباس قال : كانوا يطوفون عراة ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل ، وكانت المرأة تقول : @ اليومَ يبدو بَعْضُهُ أو كُلُّهُ فمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ @@ فنزلت : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ } . قال في ( اللباب ) : وفي رواية أخرى عنه : فأمرهم الله تعالى أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعروا . وروى العوفي عن ابن عباس أيضاً في الآية قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة ، فأمرهم الله بالزينة ، والزينة اللباس ، وهو ما يواري السوأة ، وما سوى ذلك من جيد البزّ والمتاع ، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد . وأخرج أبو الشيخ عن طاووس قال : أُمروا بلبس الثياب ، وأخرج من وجه آخر عنه قال : الشملة من الزينة ، وقال مجاهد : كان حيٌّ من أهل اليمن إذا قدم أحدهم حاجًّا أو معتمراً يقول : لا ينبغي لي أن أطوف في ثوب قد عصيت فيه فيقول : من يعيرني مئزراً ؟ فإن قدر عليه وإلا طاف عرياناً . فأنزل الله تعالى فيه ما تسمعون : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ … } الآية . وقال الزهريّ : إن العرب كانت تطوف بالبيت عراة إلا الحمس - وهم قريش وأحلافهم - فمن جاء من غير الحمس ، وضع ثيابه ، وطاف في ثوب أحمسيّ ، ويرى أنه لا يحل له أن يلبس ثيابه ، فإن لم يجد من يعيره من الحمس ، فإنه يلقي ثيابه ، ويطوف عرياناً ، وإن طاف في ثياب نفسه ألقاها ، وإذا قضى طوافه وحرّمها ، أي جعلها حراماً عليه ، فلذلك قال تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } . والمراد من الزينة الثياب التي تستر العورة . قال مجاهد : ما يواري عوراتكم ، ولو عباءة - انتهى . قال ابن كثير : هكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسديّ ، والضحاك ومالك عن الزهريّ وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها : أنها نزلت في طواف المشركين بالبيت عراة - انتهى - فظهر أن المراد بالزينة ما يستر العورة لأنه اللازم المأمور به الذي بيّنه سبب النزول ، دون لباس التجمل المتبادر منه ، لأن المستفاد من ( خُذُواْ ) هو وجوب الأخذ ، ولباس التجمل مسنون - قاله الشهاب - وأقول : دلت الآية بما أفاده سببُ نزولها ، على أن الزينة لا تختص ، لغةً ، بالجيد من اللباس كما توهم . وقد بيّن ذلك العوفيّ عن ابن عباس فيما نقلناه . وفي ( التهذيب ) : الزينة إسم جامع لكل شيء يتزين به . ومثله في ( الصحاح ) و ( القاموس ) وعبارته : الزينة ما يتزين به . وقال الحراليّ : الزينة تحسين الشيء بغيره من لبسة أو حلية أو هيئة . وقال الراغب : الزينة الحقيقية ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله ، لا في الدنيا ولا في الآخرة - انتهى . وقد نقل الرازيّ إجماع المفسرين على أن المراد بـ ( الزينة ) لبس الثياب التي تستر العورة . قال : والزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات ، قال : وأيضاً إنه تعالى قال في الآية المتقدمة : { قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً } [ الأعراف : 26 ] فبين أن اللباس الذي يواري السوأة من قبيل الرياش والزينة . ثم إنه تعالى أمر بأخذ الزينة في هذه الآية ، فوجب أن يكون المراد من هذه الزينة هو الذي تقدم ذكره في تلك الآية . وأيضاً فقوله : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ } أمر ، والأمر للوجوب ، فثبت أن أخذ الزينة واجب ، وكل ما سوى اللبس فغير واجب ، فوجب حمل الزينة على اللبس عملاً بالنص بقدر الإمكان . ولا يقال : إن قوله : { وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } أمر إباحة ، فيكون المعطوف عليه كذلك ؛ لأنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف ، تركه في المعطوف عليه . هذا ، وقد روى الحافظ ابن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي عن قتادة عن أنس مرفوعاً : أنها نزلت في الصلاة في النعال ، وكذا أخرجه أبو الشيخ عنه ، وعن أبي هريرة مثله ، قال ابن كثير : وفي صحته نظر - والله أعلم - قلت : لا نظر ؛ لأن ذلك مما تشمله الزينة ، وقد أسلفنا في المقدمة أن قولهم : ( نزلت في كذا ) لا يقصد به أن حكم الآية مخصوص به ، بل مخصوصة بنوعه ، فتعم ما أشبهه ، فتَذَكَّر . والأحاديث في مشروعية الصلاة في النعل كثيرة جداً ، منها : عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد ، قال : سألت أنساً : أكان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في نعليه ؟ قال : نعم . ( متفق عليه ) . قال العراقي في ( شرح الترمذيّ ) : وممن كان يفعل ذلك - يعني لبس النعل في الصلاة - عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعويمر بن ساعدة وأنس بن مالك وسلمة بن الأكوع وأوس الثقفي ، ومن التابعين : سعيد بن المسيب والقاسم وعروة بن الزبير وسالم بن عبد الله وعطاء بن يسار وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وطاووس وشريح القاضي ، وأبو مجلز وأبو عمر الشيباني والأسود بن يزيد وإبراهيم النخعي وإبراهيم التيميّ وعليّ بن الحسين وإبنه أبو جعفر انتهى . وقد أخرج أبو داود من حديث أبي سعيد أنه قال : قال صلى الله عليه وسلم : " إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً أو أذى فليمسحه وليصل فيهما " وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافياً ومنتعلاً " . أخرجه أبو داود وابن ماجة . الثاني : دلت الآية على وجوب الستر عند الطواف ، لأنه سبب النزول ، قالوا : واللفظ شامل للصلاة لأنها مفعولة في المسجد . الثالث : حاول بعضهم استنباط التجمل عند الصلاة منها حيث قال : لما دلت على وجوب أخذ الزينة بستر العورة في الصلاة ، فُهِم منها ، في الجملة ، حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال فيها . قال الكيا الهراسيّ : ظاهر الآية الأمر بأخذ الزينة عند كل مسجد للفضل الذي يتعلق به تعظيماً للمسجد والفعل الواقع فيه ، مثل الاعتكاف والصلاة والطواف . وقال ابن الفرس : استدل مالك بالآية على كراهية الصلاة في مساجد القبائل بغير أردية ، واستدل بها قوم من السلف على أنه لا يجوز للمرأة أن تصلي بغير قلادة أو قرطين ، كذا في ( الإكليل ) ، والأخير من الغلوّ في النزع . وقال ابن كثير : ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنة ، يستحب التجمل عند الصلاة ، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد . والطيب لأنه من الزينة . والسواك لأنه من تمام ذلك . ومن أفضل اللباس البياض لما روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم ، وإن من خير أكحالكم الإثمد ، يجلو البصر وينبت الشعر " ولأحمد وأهل السنن ، عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالثياب البيض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب ، وكفنوا فيها موتاكم " وروى الطبرانيّ بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين : أن تميماً الداريّ اشترى رداءً بألف ، وكان يصلي فيه . الرابع : وجه تأثر الأمر بأخذ الزينة ، بالأمر بالأكل والشرب في قوله تعالى : { وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } ما رواه الكلبيّ أن بني عامر كانوا لا يأكلون في أيام حجهم إلا قوتاً ، ولا يأكلون دسماً ، يعظمون بذلك حجهم . فقال المسلمون : نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله . فأنزل الله عز وجل : { وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } . وقال السديّ : كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم . فقال الله تعالى لهم : { وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ … } الآية . الخامس : فسر الإسراف بمجاوزة الحد فيما أحل ، وذلك بتحريمه ، وقال الجشميّ اليمني في تفسيره ( التهذيب ) : تدل الآية على المنع من الإسراف . وذلك على وجهين : أولهما : إنفاق في معصية كالفخار واللعب والزنى والخمر ونحوها … وثانيهما : أن يتعدى الحدود وذلك مختلف بحال اليسار والإعسار ، لأن من له قدر يسير ، لو أنفقه في ضيافة أو طيب أو ثياب خز ، وهو وعياله يحتاجون إليه ، فهو سرف محرم . ومثله في الموسرين لا يقبح ولا يكون سرفاً ، وتدل على أن الأشياء على الإباحة . والعقل يدل على ذلك ؛ لأنه تعالى خلقه لمنافعهم ، والسمع ورد مؤكداً ، ولذلك قال : ( مَنْ حَرَّمَ ) مطالباً بدليل سمعيّ . اهـ . وقد روى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف ، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده " وأخرج النسائي وابن ماجة نحوه . وقال البخاري : قال ابن عباس : كل ما شئت والبس ما شئت ، ما أخطأتك اثنتان : سرف أو مخيلة . ورواه ابن جرير عنه أيضاً بلفظ : أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سَرَفاً أو مخيلة . قال الشهاب : هذا ( أي ما قاله ابن عباس ) لا ينافي ما ذكره الثعالبيّ وغيره من الأدباء ؛ أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ، ويلبس ما يشتهيه الناس ، كما قيل : @ نصيحـة نصيحـة قالـت بهـا الأكيـاسُ كل ما اشتهيـت والبسـ نَّ ما اشتهـته النـاسُ @@ فإنه لِتَرْكِ ما لم يعتد بين الناس ، وهذا لإباحة كل ما اعتادوه . و ( المخيلة : الكبر ) . و ( ما ) دوامية زمانية . و ( أخطأتك ) من قولهم : أخطأ فلان كذا ، إذا عدمه . وفي الأساس : من المجاز لن يخطئك ما كتب لك ، وأخطأ المطر الأرض : لم يصبها ، وتَخَاطَأَتْهُ النبلُ تجاوزته وتَخَطَّأَتْهُ . انتهى . وفي قوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ } وعيد وتهديد لمن أسرف في هذه الأشياء ، لأن من لم يحبه الله لم يرض عنه . السادس : تناقل المفسرون وغيرهم ما قيل إن قوله تعالى : { وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } الآية - جَمَعَ الطبَّ كله . وأصله ما حكاه الزمخشريّ والكرمانيّ في عجائبه ؛ أن الرشيد كان له طبيب نصرانيّ حاذق ، فقال لعليّ بن الحسين بن واقد : ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان : علم الأبدان ، وعلم الأديان . فقال له : قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه . قال : وما هي ؟ قال : قوله تعالى : { وكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ } ، فقال النصرانيّ : ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب ! فقال : قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة ، قال : وما هي ؟ قال قوله : " المعدة بيت الداء ، والحميةُ رأس الدواء ، وأعط كل بدن ما عودته " فقال النصرانيّ : ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبّاً . قال في ( العناية ) : وترك بعضهم تمام القصة ؛ لأن في ثبوت هذا الحديث كلاماً للمحدثين . وفي شعب الإيمان للبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المعدة حوض البدن ، والعروق إليها واردة ، فإذا صحت المعدة ، صدرت العروق بالصحة ، وإذا فسدت المعدة ، صدرت العروق بالسقم " انتهى . أقول : إن صحت هذه الحكاية ، فصواب جواب النصرانيّ في سؤاله الثاني بالتفنيد والفِرْية ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُثر عنه من بدائع الطب وأصناف العلاج ، ما لم يؤثر عن نبيّ قط ، وللمحدثين ، في عهد السلف منه قسم كبير في جوامعهم ومسانيدهم . وأما أعلام المتأخرين فقد اضطرهم وفرة ما روي في ذلك إلى تدوينه في أسفار مطولة ومختصرة بعنوان ( الطب النبويّ ) . وقد بين الإمام ابن القيّم : عليه الرحمة ، اشتمال التنزيل العزيز على أصول الطب ، والسنة المطهرة على بدائعه ، في كتابه ( زاد المعاد ) ، بياناً يدهش الألباب ، وفوق كل ذي علم عليم ، قال عليه الرضوان في كتابه ( زاد المعاد في هدي خير العباد ) : فصل قد أتينا على جمل من هديه صلى الله عليه وسلم في المغازي والسير والبعوث والسرايا والرسائل والكتب التي كتب بها إلى الملوك ونوابهم ، ونحن نتبع ذلك بذكر فصول نافعة في هديه في الطب الذي تطبب به ، ووصفه لغيره ، ونبين ما فيه من الحكمة التي يعجز أكثر عقول أكثر الأطباء عن الوصول إليها ، وأن نسبة طبهم إليها كنسبة طب العجائز إلى طبهم ، فنحن نقول وبالله المستعان : المرض نوعان : مرض القلوب ، ومرض الأبدان . وهما مذكوران في القرآن . ومرض القلب نوعان : مرض شبهة وشك ، ومرض شهوة وغيّ ؛ وكلاهما في القرآن . قال تعالى في مرض الشبهة : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] وقال تعالى : { وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } [ المدثر : 31 ] ، وقال تعالى في حق من دعى إلى تحكيم القرآن والسنة فأبى وأعرض : { وَإِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ٱلْحَقُّ يَأْتُوۤاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ٱرْتَابُوۤاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } [ النور : 48 - 50 ] ، فهذا مرض الشبهات والشكوك . وأما مرض الشهوات فقال تعالى : { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } [ الأحزاب : 32 ] ، فهذا مرض شهوة الزنى - والله أعلم . وأما مرض الأبدان فقال تعالى : { لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ } [ النور : 61 ] ، وذكر مرض البدن في الحج والصوم والوضوء لسرّ بديع ، يبين ذلك عظمة القرآن والاستغناء به ، لمن فهمه وعقله ، عن سواه ، وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة : حفظ الصحة ؛ والحمِيْة عن المؤذي ، واستفراغ الموادّ الفاسدة ، فذكر سبحانه هذه الأصول الثلاثة في هذه المواضع الثلاثة . فقال في آية الصوم : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 185 ] . فأباح الفطر للمريض لعذر المرض ؛ والمسافر ، طلباً لحفظ صحته وقوته ؛ لئلا يذهبها الصوم في السفر ، لاجتماع شدة الحركة وما يوجبه من التحليل وعدم الغذاء الذي يخلف ما تَحَلَّل ، فتخور القوة وتضعف ، فأباح للمسافر الفطر حفظاً لصحته وقوته عما يضعفها . وقال في آية الحج : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [ البقرة : 196 ] فأباح للمريض ، ومن به أذى من رأسه ، من قمل أو حكة أو غيرهما ، أن يحلق رأسه في الإحرام استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر ، وإذا حلق رأسه تفتحت المسامات فخرجت تلك الأبخرة منها . فهذا الاستفراغ يقاس عليه كل استفراغ يؤذي انحباسه . والأشياء التي يؤذي انحباسها ومدافعتها عشرة : الدم إذا هاج ، والمنيّ إذا سبغ ، والبول والغائط والريح والقيء والعطاس والنوم والجوع والعطش . وكل واحد من هذه العشرة يوجب حبسه داءً من الأدواء بحبسه ، وقد نبه سبحانه باستفراغ أدناها وهو البخار المحتقن في الرأس ، على استفراغ ما هو أصعب منه ، كما هي طريقة القرآن ، التنبية بالأدنى على الأعلى . وأما الحمِيْة ، فقال في آية الوضوء : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } [ النساء : 43 ] فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حِميةً له أن يصيب جسده ما يؤذيه . وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذٍ له ، من داخل أو خارج . فقد أرشد سبحانه عباده إلى أصول الطب ، ومجامع قواعده . ونحن نذكر هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ونبين أن هديه فيه أكمل هدي . فأما طب القلوب ، فمسلّم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم ، وعلى أيديهم ، فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها ، وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه ، وأن تكون مؤثرة لمرضاته ولمحابّه ، متجنبة لمناهيه ومساخطه . ولا صحة لها ولا حياة لها البتة إلا بذلك ، ولا سبيل إلى تلقيه إلا من جهة الرسل . وما يظن من حصول حصة القلب بدون اتباعهم ، فغلط ممن يظن ذلك ، وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها ، وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل . ومن لم يميز بين هذا وبين هذا ، فليبك على حياة قلبه ، فإنه من الأموات ، وعلى نوره ، فإنه منغمس في بحار الظلمات - انتهى . وقد قرر رحمه الله هذا المقام بأسلوب آخر في كتاب ( طريق الهجرتين ) نورده أيضاً لبداعة أسلوبه قال عليه الرحمة : ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه ، وهو خروجه عن اعتداله الطبيعيّ بفساد يعرض له ، يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية ، فإما أن يذهب إدراكه بالكلية كالعمى والصمم والشلل ، وإما أن ينقص إدراكه لضعف في آلات الإدراك مع استقامة إدراكه ، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه ، كما يدرك الحلو مرًّا ، والخبيث طيباً ، والطيّب خبيثاً . وأما فساد حركته الطبيعية ، فمثل أن تضعف قوته الهاضمة أو الماسكة أو الدافعة أو الجاذبة . فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال ، ولكن مع ذلك لم يصل إلى حد الموت والهلاك ، بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة ؛ وسبب هذا الخروج عن الاعتدال ، إما فساد في الكمية أو في الكيفية ، فالأول إما نقص في المادة فيحتاج إلى زيادتها ، وإما زيادة فيها فيحتاج إلى نقصانها . والثاني إما بزيادة الحرارة أو البرودة أو الرطوبة أو اليبوسة أو نقصانها عن القدر الطبيعيّ ، فيداوى بمقتضى ذلك . ومدار الصحة على حفظ القوة والحمية عن المؤذِي ، واستفراغ المواد الفاسدة ، ونظرُ الطبيب دائر على هذه الأصول الثلاثة . وقد تضمنها الكتاب العزيز ، وأرشد إليها من أنزله شفاء ورحمة . فأما حفظ القوة فإنه سبحانه أمر المسافر والمريض أن يفطرا في رمضان ، ويقضي المسافر إذا قدم ، والمريض إذا برئ ، حفظاً لقوتهما عليهما . فإن الصوم يزيد المريض ضعفاً ، والمسافر محتاج إلى توفير قوته عليه لمشقة السفر ، فالصوم يضعفها . فأما الحمية عن المؤذي ، فإنه سبحانه حمى المريض عن استعمال الماء البارد في الوضوء والغسل إذا كان يضره ، وأمره بالعدول إلى التيمم ، حمية له عن ورود المؤذِي عليه من ظاهر بدنه ، فكيف بالمؤذِي له في باطنه ؟ وأما استفراغ المادة الفاسدة ، فإنه سبحانه أباح للمُحْرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه ، فيستفرغ الحلق الأبخرة المؤذية له ، وهذا من أسهل أنواع الاستفراغ وأخفّها ، فنبّه به على ما هو أحوج إليه منه . وذاكرت مرة بعض رؤساء الطب بمصر بهذا فقال : والله ! لو سافرت إلى الغرب في معرفة هذه الفائدة ، لكان سفراً قليلاً - أو كما قال - انتهى . ثم ردّ تعالى على من حرم شيئاً من المآكل والمشارب والملابس ، من تلقاء نفسه من غير شرع من الله ، تأكيداً لما سبق ، بقوله سبحانه : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ … } .