Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 73, Ayat: 20-20)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } أي : تتهجد فيه هذه التارات المختلفة ، وتتشمر للعبادة فيه هذا التشمر امتثالاً لأمره ، وتبتلاً إليه ، { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ } أي : يعلمهم كذلك ، { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } أي : أن يجعلهما على مقادير يجريان عليها ، فتارة يعتدلان ، وتارة يزيد أحدهما في الآخر ، وبالعكس مما يشق لأجله المواظبة على قيامه بما علمه منكم - أشار إليه ابن كثير . أو المعنى : يقدر فيهما ما شاء من الأوامر . ومنه تقديره في قيام الليل ما قدره ، مما أمر به أول السورة من التخيير ، ترخيصاً وتيسيراً . { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } أي : قيام الليل ، على النحو الذي دأبتم عليه ، أو قيام الليل كله ، للحرج والعسر { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أي : عاد عليكم باليسر ورفع الحرج . { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } أي : في صلاة الليل بلا تقدير . أو المراد : لا تتجاوزوا ما قدره لكم ، رحمة بأنفسكم . وفيه رد من غلوهم في قيام الليل كله ، أو الحرص عليه شوقاً إلى العبادة ، وسبقاً إلى الكمالات . قال مقاتل : كان الرجل يصلي الليل كله ، مخافة ألا يصيب مما أمر به من قيام ما فرض عليه - نقله الرازي . { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } أي : يضعفهم المرض عن قيام الليل { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ } أي : للتجارة وغيرها ، فيقعدهم ذلك عن قيام الليل { وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي : لنصرة الدين ، فلا يتفرغون للقيام فيه { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } أي : من القرآن . ولا تحرّجوا أنفسكم ، لأنه تعالى يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر . تنبيهات الأول : ذهب كثير من السلف إلى وجوب قيام الليل المفهوم من الأمر به طليعة السورة ، منسوخ بهذه الآيات . روى ابن جرير عن عائشة قالت : " كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل ، فتسامع به الناس فاجتمعوا ، فخرج كالمغضب - وكان بهم رحيما - فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ، فقال : يا أيها الناس ؟ اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ، فإن الله لا يمل من الثواب ، حتى تملوا من العمل ، وخير الأعمال ما دمتم عليه " ونزل القرآن . { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ * قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً … } [ المزمل : 1 - 2 ] الآية ، حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق ، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر ، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم ، فردهم إلى الفريضة ، وترك قيام الليل . قال ابن كثير : والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة . وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة ، وليس كذلك ، وإنما هي مكية . انتهى كلامه . أقول : وبمثل هذه الرواية يستدل على أن مراد السلف بقولهم : ( ونزلت الآية ) الاستشهاد بها في قضية تنطبق عليها - كما بيناه مراراً . وأخرج أيضاً عن ابن عباس قال : أمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلاً . فشق ذلك على المؤمنين ، ثم خفف عنهم فرحمهم ، وأنزل الله بعد هذا { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ … } الآية . فوسع الله - وله الحمد - ولم يضيق . وعن أبي عبد الرحمن قال : لما نزلت : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } [ المزمل : 1 ] قاموا بها حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ، حتى نزلت : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } فاستراح الناس . وهكذا روي عن سعيد والحسن وعكرمة وقتادة . قال ابن حجر في ( شرح البخاري ) : ذهب بعضهم إلى أن صلاة الليل كانت مفروضة ، ثم نسخت بقيام بعض الليل مطلقاً ، ثم نسخ بالخمس . وأنكره المروزي . وذهب بعضهم إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة . وقال السيوطي في ( الإكليل ) : قوله تعالى : { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ المزمل : 2 ] هو منسوخ بعد أن كان واجباً ، بآخر السورة ، وقيل : محكم ، فاستدل به على ندب قيام الليل . واستدل به طائفة على وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة . وآخرون على وجوبه على الأمة أيضاً ، ولكن ليس الليل كله ، بل صلاة ما فيه . وعليه الحسن وابن سيرين . انتهى . أقول : من ذهب إلى أن الأمر محكم وأنه للندب ، يرى أن آخر السورة تعليم لهم الرفق بأنفسهم ، لأنه تاب عليهم باليسر ، ورفع عنهم الآصار . وفيه ما يدل على عنايتهم بالمندوب ، وحرصهم عليه حتى أفضى الحال إلى الرفق بهم فيه . ويدل عليه أثر عائشة في ربطهم الحبل للتعلق به ، استعانة على قراءة القرآن ، وكثرة تلاوته . الثاني : قال ابن كثير : في قوله تعالى : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } تعبير عن الصلاة بالقراءة ، كما قال في سورة سبحان : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } [ الإسراء : 110 ] أي : بقراءتك . وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله ، بهذه الآية ، على أنه لا تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ، ولو بآية أجزأه . واعتضدوا بحديث ( المسيء صلاته ) الذي في الصحيحين : " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت ، وهو في الصحيحين أيضاً ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاة إلا أن تقرأ بفاتحة الكتاب " انتهى . الثالث : في قوله تعالى : { وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } علم من أعلام النبوة . قال ابن كثير : هذه الآية ، فهي السورة كلها ، مكية . ولم يكن القتال شرع بعد ، فهي من أكبر دلائل النبوة ، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة . الرابع : قال ابن الفرس : في قوله : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } فضيلة التجارة ، لسوقها في الآية مع الجهاد . أخرج سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب قال : ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله ، أحب إلي أن يأتيني وأنا ألتمس من فضل الله . ثم تلا هذه الآية . وقال السيوطي : هذه الآية أصل في التجارة . { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ } أي : زكاة أموالكم . قال ابن كثير : وهذا يدل لمن قال بأن فرض الزكاة نزل بمكة ، لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة . { وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } يعني : به بذل المال في سبيل الخيرات على أحسن وجه ، كأن يكون من أطيب المال ، وإعطاءه للمستحق من غير تأخير ، واتقاء المن والأذى . وسر الأمر بـ ( الحسن ) أن القرض لما كان يعطى بنية الأخذ ، لا يبالي بأي شيء وأي مقدار يعطى منه ، فأشير إلى إيثار المقام الأرفع ، ولكونه محقق الرجوع إليه دل التعبير به على تحقق العوض هنا . { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ } أي : في الدنيا من صدقة أو نفقة في وجوه الخير ، أو عمل بطاعة الله ، أو غير ذلك من أعمال البر { تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } أي : ثواباً مما عندكم من متاع الدنيا . { وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ } أي : سلوه غفران ذنوبكم ، { إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : ذو مغفرة لذنوب من تاب إليه وأناب ، ورحمة أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها .