Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 16-16)

Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ } أي : يوم اللقاء { دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ } أي : مائلاً له . يقال : تحرف وانحرف واحرورف : مال وعدل ، وهذا التحرف إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهمّ من هؤلاء ، وإما بالفرّ للكرّ ، بأن يخيّل عدوه أنه منهزم ليغره ، ويخرجه من بين أعوانه ، فيفرّ عنه ، ثم بكرّ عليه وحده أو مع من في الكمين من أصحابه ، وهو باب من مكايد الحرب { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ } أي : منضمًّا إلى جماعة أخرى من المسلمين ليستعين بهم { فَقَدْ بَآءَ } أي : رجع { بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } أي : ما صار إليه من عذاب النار . تنبيهات الأول : دلت الآية على وجوب مصابرة العدو ، أي : الثبات عند القتال ، وتحريم الفرار منه يوم الزحف ، وعلى أنه من الكبائر ، لأنه توعده عليه وعيداً شديداً . الثاني : ظاهر الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن ، وعلى كل حال ، إلا حالة التحرف ، أو التحيز ، وهو مرويّ عن ابن عباس ، واختاره أبو مسلم . قال الحاكم : وعليه أكثر الفقهاء . وروى عن جماعة من السلف ؛ أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم ( بدر ) ، لقوله تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ } وأجيب بأن الإشارة في { يَوْمَئِذٍ } إلى يوم لقاء الزحف كما يفيده السياق ، لا إلى يوم بدر . الثالث : ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى : { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ } أي : جماعة أخرى من المسلمين ، سوى التي هو فيها ، سواء قربت تلك الفئة أو بعدت . وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس ، لكثرة الجيش من ناحية المجوس ، فقال عمر رضي الله عنه : لو تحيز إليّ لكنت له فئة . وفي رواية عنه : أيها الناس ! أنا فئتكم . وقال الضحاك : المتحيز إلى فئة ، الفارّ إلى النبيّ وأصحابه . وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره أو أصحابه ، وجنح إلى هذا ابن كثير حيث قال : من فرّ من سرية إلى أميره ، أو إلى الإمام الأعظم ، دخل في هذه الرخصة . ثم أورد حديث عبد الله بن عُمَر المرويّ عند الإمام أحمد وأبي داود والترمذيّ وغيرهم ، قال : " كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص الناس حيصة ، فكنت فيمن حاص ، فقلنا : كيف نصنع ، وقد فررنا من الزحف ، وبؤنا بالغضب ، ثم قلنا : لو دخلنا المدينة . فبتنا ! ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت لنا توبة ، وإلا ذهبنا ! فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : " من القوم ؟ " فقلنا : نحن الفرارون . فقال : " لا ، بل أنتم العكّارون ، أنا فئتكم وفئة المسلمين " ، قال : فأتيناه حتى قبلنا يده " . قال الترمذيّ : حديث حسن ، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد - انتهى . أي : وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة . قال الحاكم في ( مسألة الفرار ) : إن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده ، فإن ظن المقاومة لم يحلّ الفرار ، وإن ظن الهلاك جاز الفرار إلى فئة وإن بعدت ، إذا لم يقصد الإقلاع عن الجهات . وحمل عليه حديث ابن عمر المذكور . وعن الكرخيّ : أن الثبات والمصابرة واجب ، إذا لم يخش الاستئصال ، وعرف عدم نكايته للكفار ، والتجأ إلى مصرٍ للمسلمين ، أو جيش ، وهكذا أطلق في ( شرح الإبانة ) فلم يبح الفرار إلا بهذه الشروط الثلاثة ، ولم يعتبر العدد الآتي بيانه . الرابع : روي عن عطاء أن حُكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى : { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ } [ الأنفال : 66 ] ، قال الحاكم : إذا أمكن الجمع فلا نسخ . وأقول : كنا أسلفنا أن السلف كثيراً ما يعنون بـ ( النسخ ) تقييد المطلق ، أو تخصيص العامّ ، فلا ينافي كونَها محكمة إطلاقُهم النسخ عليها . قال بعض الأئمة : هذه الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة ، وإن تضاعف عدد المشركين أضعافاً كثيرة ، لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في السورة هذه : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً } [ الأنفال : 65 ] فأوجب الله المصابرة على الواحد للعشرة ؛ لأنه خبر معناه الأمر . فلما شق ذلك على المسلمين رحمهم الله تعالى ، وأوجب على الواحد مصابرة الاثنين ، فقال تعالى : { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفَيْنِ } [ الأنفال : 66 ] . وعن ابن عباس : من فرّ من اثنين فقد فرّ ، ومن فرّ من ثلاثة فلم يفرّ . وبالجملة ، فلا منافاة بين هذه الآية وآية الضَّعف ، فإن هذه الآية مقيدة بها ، فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط ما بينه الله في آية الضِّعف . وفي ( المهذب ) : إن زاد عددهم على مثلي عدد المسلمين ، جاز الفرار . لكن إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون ، فالأفضل الثبات . وإن ظنوا الهلاك ، فوجهان : يلزم الإنصراف لقوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [ البقرة : 195 ] . والثاني : يستحب ولا يجب ؛ لأنهم إن قُتلوا فازوا بالشهادة . وإن لم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين ، فإن لم يظنوا الهلاك لم يجز الفرار . وإن ظنوه فوجهان : يجوز لقوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } [ البقرة : 195 ] ولا يجوز ، وصححوه لظاهر الآية . ثم بيّن تعالى أن نصرهم يوم بدر ، مع قلتهم ، كان بحوله تعالى وقوته ، فقال سبحانه : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ … } .