Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 4-4)
Tafsir: Maḥāsin at-Taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } أي : لا شك في إيمانهم . و { حَقّاً } صفة لمصدر محذوف ، أي : إيماناً حقاً أو مصدر مؤكد للجملة ، أي : حق ذلك حقاً ، كقولك ، هو عبد الله حقاً . قال عَمْرو بن مرة ( في هذه الآية ) : إنما أنزل القرآن بلسان العرب ، كقولك : فلان سيّد حقاً ، وفي القوم سادة . وفلان تاجر حقاً ، وفي القوم تجار . وفلان شاعر حقاً ، وفي القوم شعراء . انتهى . وكأنه أراد الرد على من زعم أن { حَقّاً } من صلة قوله : { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ } بعدُ ، تأكيداً له ، وأن الكلام تم عند قوله : { ٱلْمُؤْمِنُونَ } ، فإن هذا الزعم يصان عند أسلوب التنزيل الحكيم . وقد تطرف بعض المفسرين هنا لمسألة شهيرة وهي : هل يجوز أن يقال : أنا مؤمن حقاً ؟ قال الطوسيّ في ( نقد المحصل ) : المعتزلة ومن تبعهم يقولون : اليقين لا يحتمل الشك والزوال ، فقول القائل : ( أنَّا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللهُ ) ، لا يصح إلا عند الشك ، أو خوف الزوال . وما يوهم أحدهما ، لا يجوز أن يقال للتبرك . انتهى . والغزاليّ في الإحياء ، بسط هذه المسألة ، وأجاب عمن سوّغ ذلك بأجوبة : منها : التخوف من الخاتمة ؛ لأن الإيمان موقوف على سلامة الخاتمة . ومنها : الإحتراز من تزكية النفس . ومنها : غير ذلك . انظره بطوله . وقال ابن حزم في ( الفِصَل ) : القول عندنا في هذه المسألة : أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه ، فإن كان يدري أنه مصدّق بالله عز وجل ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما أتى به ، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك ، فواجب عليه أن يعترف بذلك ، كما أمر تعالى في قوله : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [ الضحى : 11 ] . ولا نعمة أوكد ولا أفضل ، ولا أولى بالشكر ، من نعمة الإسلام ، فواجب عليه أن يقول : أنا مؤمن مسلم قطعاً عند الله تعالى ، في وقتي هذا . ولا فرق بين قوله : ( أنا مؤمن مسلم ) وبين قوله : ( أنا أسود و أنا أبيض ) وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها ، وليس هذا من باب الإمتداح والعجب في شيء ، لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد . وقول ابن مسعود : " أَنَّا مُؤْمِنٌ إِنْ شَاءَ اللهُ " عندنا صحيح ؛ لأن الإسلام والإيمان إسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة ، إلى جميع البر والطاعات . فإنما منع ابن مسعود الجزم على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات ، وهذا صحيح . ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك ، وما منع أن يقول المرء : " إِنِّي مُؤْمِنٌ " بمعنى ( مصدق ) . وأما قول المانعين : ( من قال : أنا مؤمن ، فليقل : إنه من أهل الجنة ) فالجواب : إنا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن ، فلا بد لنا من الجنة بلا شك . وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع ، أن من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما جاء به ، ولم يأت بما هو كفر ، فإنه في الجنة . إلا أننا لا ندري ماذا يفعل بنا في الدنيا ، ولا نأمن مكر الله تعالى ، ولا إضلاله ، ولا كيد الشيطان ؛ ولا ندري ما نكسب غداً ، ونعوذ بالله من الخذلان . انتهى كلام ابن حزم رحمه الله . ولقد أجاد فيما أفاد . وقوله تعالى : { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } أي : منازل ومقامات عاليات في الجنة { وَمَغْفِرَةٌ } أي : تجاوز لسيئاتهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } وهو ما أعدّ لهم من نعيم الجنة . تنبيه قال الجشميّ : تدل الآية على أشياء : منها : أن الإيمان إسم شرعيّ لثلاث خصال : القول ، والإعتقاد ، والعمل ، خلاف ما تقوله المرجئة ؛ لأن الوجل وزيادة التصديق من فعل القلب ، والتدبر والتفكر كذلك ، والصلاة والإنفاق من أعمال الجوارح ، والتوكل يشتمل على فعل القلب والجوارح . ثم بين في آخره أن من جمع هذه الخصال فهو المؤمن حقاً . ومنها : أنها تدل على أن الإيمان يزيد وينقص ؛ لأن هذه الطاعات تزيد وتنقص ، وقد نص على ذلك في قوله : { زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً } [ الأنفال : 2 ] . ومنها : أن الواجب عند تلاوة القرآن التدبر والتفكر فيما أمر ونهى ، ووعد وأوعد ، لينجرّ للرغبة والرهبة . وذلك حثٌ على الطاعة ، وزجر عن المعاصي . ومنها : وجوب التوكل عليه . والتوكل على ضربين : منها في الدنيا ، ومنها في الدين . أما في الدنيا فلا بد من خصال : منها : أن يطلب مصالح دنياه من الوجه الذي أتيح له ، ولا يطلب محرماً . ومنها : إذا حرم الرزق الحلال ، لا يعدل إلى محرّم . ومنها : ألا يظهر الجزع عند الضيق ، بل يسلك فيه طريق الصبر ، واعتقاد أن ما هو فيه مصلحة له . ومنها : أن ما يرزق من النعم بعدها ، من جهته تعالى ، إما بنفسه أو بواسطة . ومنها : ألا يحسبه عن حقوقه خشيةُ الفقر . ومنها : ألا يسرف في النفقة ولا يفتقر . فعند اجتماع هذه الخصال يصير متوكلاً . فأما الذي يزعمه بعضهم ؛ أن التوكل إهمال النفس ، وترك العمل ، فليس بشيء . وقد أمر الله تعالى بالإنفاق ، وبالعمل ، وثبت عن الصحابة - وهم سادات الإسلام - التجارة والزراعة والأعمال - وكذلك التابعين . وبهذا أجرى الله العادة . وقد أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم الأعرابي أن يعقل ناقته ويتوكل . فأما التوكل في الدين فخصال : منها : أن يقوم بالواجبات ، ويجتنب المحارم ؛ لأنه بذلك يصل إلى الجنة والرحمة . ومنها : أن يسأله التوفيق والعصمة . ومنها : أن يرى جميع نعمه منه ، إذا حصل بهدايته وتمكينه ولطفه . ومنها : ألا يثق بطاعته جملة ، بل يطيع ويجتنب المعاصي ، ويرجو رحمة ربه ، ويخاف عذابه ، فعند ذلك يكون متوكلاً . ثم قال الجشميّ : وتدل الآية على أن تارك الصلاة والزكاة لا يكون مؤمناً ، خلاف قول المرجئة . انتهى .